عشنا الشهر الماضي جميعاً وكأننا جزء من أحداث فيلم سينمائي مروع يجسد قصة من النوع الذي درج على كتابته كوينتين تارانتينو. قصة درامية تراوح في منطقتين.
أما الأولى فهي القرن الحادي والعشرين، الذي شهد صعود أمير سعودي، فصيح معسول اللسان، يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً إلى صدارة الساحة العالمية في صورة الإصلاحي الواثق من نفسه، الحارق للمراحل، الحامل لراية “الإسلام المعتدل” كما يقولون لنا. ذات مرة، أخبرني جمال خاشقجي بأن ذلك الأمير “المعتدل” كان يبني لنفسه يختاً رابعاً.
توحش القرون الوسطى
إلا أن تلك القصة لها قدم واحد في القرن الحادي والعشرين. أما القدم الأخرى فتقف في القرن العاشر، حينما كان السادة يمرون بزنازين التعذيب ليستمعوا إلى عويل أسراهم. نعم، لقد قتل جمال خاشقجي بوحشية القرون الوسطى، وسجل القتلة عويله طوال سبع دقائق من العذاب فاضت بعدها روحه إلى بارئها.
عند هذه النقطة لا تختلف سلوكيات الأمير السعودي عن تلك التي تنسب إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لقد تحول المعتدل إلى وحش.
إلى أن وقعت جريمة قتل خاشقجي في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول داخل القنصلية السعودية في إسطنبول لم يكن ثمة تماس بين القرن الحادي والعشرين والقرن العاشر.
بعد أربعة أسابيع من الكذب والرشاوى، باتت لدينا قناطير من الأدلة التي تشير بأصابع الاتهام إلى فرقة النمر، وهي وحدة سرية من المغاوير اختار أعضاءها بنفسه ولي العهد السعودي
تخيل ماذا كان سيحدث لو أن خاشقجي لم يدخل إلى القنصلية. حينها لم يكن شيء ليحول دون ورود العظماء والنبلاء من كل حدب وصوب على دافوس الصحراء، ذلك المؤتمر الاستثماري الذي نظمته المملكة العربية السعودية في الرياض الأسبوع الماضي.
لكان مدير أوبر، وريتشارد برانسون، وكريستين لاغارد، المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، كلهم يتزلفون عند أقدام الملك الصبي، بينما يتضور أهل الحديدة جوعاً بسبب الحصار المفروض عليهم. فطالما جثا هؤلاء العظماء والنبلاء على ركبهم أمام معسول الكلام المغازل لليبرالية.
وبعد أربعة أسابيع من الكذب والرشاوى، باتت لدينا قناطير من الأدلة التي تشير بأصابع الاتهام إلى فرقة النمر، وهي وحدة سرية من المغاوير اختار أعضاءها بنفسه ولي العهد السعودي، رغم أنه يدعي جهله التام بما أقدموا عليه في إسطنبول. كما يزعم ولي العهد بألا علم له أيضاً بالمكالمات الهاتفية الأربع التي أجراها رئيس فرقة الموت ماهر مطرب مع سكرتيره الخاص في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول، نفس اليوم الذي وقعت فيه جريمة القتل.
لقد تمكن ولي العهد إذن من إخماد صوت. ولكنه حول نفسه جراء ذلك إلى صنف شديد السمية، فقد بات الآن آخر شخص يرغب المرء في أن يراه الناس في معيته. إلا إذا كان ذلك المرء هو جون فلينت، المدير التنفيذي لمصرف إتش إس بي سي. اعترف فلينت يوم الاثنين بأن “الأسابيع القليلة الماضية كانت صعبة على المملكة.” وقال إنه يتفهم “المشاعر” المحيطة بالقصة، ولكن “من الصعب أن يقطع المرء صلته بالمملكة.”
عدو الطغاة
كم هو مثير للاهتمام أن جريمة تحقق وقوعها، وارتكبت من قبل مسؤولين في دولة على أرض مملوكة للدولة، أمكن أن تصبح قضية مشاعر بدلاً من أن تصبح قضية قانون دولي. لربما تصور المرء أن مصرفياً عالمياً مثل فلينت سيكون أكثر حرصاً على مكانة القانون الدولي.
لقد مس جمال خاشقجي عصباً مذنباً فينا جميعاً
لقد التهمت ألسنة النيران التي أشعلتها جريمة قتل خاشقجي كل الملايين من الدولارات التي أنفقت لعرض صور وجه الأمير على لوحات الإعلان في شوارع لندن وفي شراء ذمم مراكز البحث والتفكير واستمالة حفنة من الأكاديميين والإعلاميين.
ما الذي جعل جريمة قتل رجل واحد تفضي إلى مثل هذا التفاعل؟ لماذا احتاج الأمر إلى ارتكاب هذه الجريمة حتى تتوقف مبيعات الأسلحة الألمانية – (ولكن ليس البريطانية ولا الأمريكية ولا الفرنسية) – بينما عجز عن ذلك قصف السعوديين لحافلة مدرسية في اليمن في شهر أغسطس/ آب الماضي؟ ثمة حاجة ماسة إلى طبيب نفسي، لا لصحفي، حتى يشرح ذلك.
لقد مس جمال خاشقجي عصباً مذنباً فينا جميعاً. لم يكن ذلك الذي قاله بقدر ما كان ذلك الذي لم يقله هو الذي حوله إلى عدو وجودي للطغاة. اعتداله، صدقيته ومشروعيته هي التي بثت الذعر والفزع في حكام تنقصهم الشرعية. رفض أن يحابي وأن يساير، رفض أن يطبق فاه ويمسك لسانه، ورفض مد يده لريالات الملك. لربما لو فعل لأثرى ولكان اليوم حياً يرزق.
لكن خاشقجى أبى أن يشارك في اللعبة. أخبرني ذات مرة كم شعر بالمهانة بعد عام من الصمت. جلست أنصت إليه وأهز رأسي موافقاً بينما كان يقول: “ما معنى أن تكون صحفياً ولا تتمكن من الكتابة عما تراه يجري أمام ناظريك؟ ليست تلك مهنتي فحسب، بل إنه واجبي.” لكني لا أعتقد أن أحداً منا استشعر ما كان يحيق به من خطر.
هل تغير شيء بعد مرور أربعة أسابيع؟
نقطة تحول
لقد أثبتت لنا جريمة قتل خاشقجي أن الحلفاء الأقرب للغرب ليسوا فقط مزعزعين، وإنما هم مصدر الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة. لابد أن كبير حواريي الواقعية السياسية، وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس، يسأل نفسه الآن، من أكثر إضراراً بالمصالح الأمريكية: أعداؤها أم حلفاؤها؟
ما من شك في أنه لو قدر لصفحة التاريخ أن تطوى، فإنها لن تطوى إلا وأمثال خاشقجي قد مكنوا لأن المنطقة لن تفلح في بناء مستقبل واعد ومستقر إلا بهم
لا يسأم الطغاة من إخبارنا بأن العرب ليسوا ناضجين بما فيه الكفاية حتى تقام فيهم الديمقراطية. والواقع أن الأمر معكوس، فهؤلاء الطغاة لا يعرفون بتاتاً متى تنتهي صلاحيتهم ويحين أجلهم. ها هي الدولة العربية تلفظ أنفاسها في أيديهم. والكل يعرف ذلك، من القوميين إلى الإسلاميين، ومن العلمانيين إلى المتدينين، ومن اللبراليين إلى المحافظين.
لقد علم جمال خاشقجي هذه الحقيقة ودفع حياته ثمناً لذلك، ولعل وفاته تشكل نقطة تحول تاريخية.
والمأساة هي أن خاشقجي احتاج لأن يموت حتى يزول ذلك القناع، وحتى يتصادم العالمان. ما من شك في أنه لو قدر لصفحة التاريخ أن تطوى، فإنها لن تطوى إلا وأمثال خاشقجي قد مكنوا لأن المنطقة لن تفلح في بناء مستقبل واعد ومستقر إلا بهم.
سأفتقده، وستفتقده جزيرة العرب، وسيفقده العالم العربي بأسره، إنه البطل الحقيقي لأزماننا هذه.
(أعد هذا المقال بناء على الكلمة التي ألقاها ديفيد هيرست في حفل تأبين جمال خاشقجي في لندن يوم التاسع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول).
المصدر: ميديل إيست آي
ترجمة وتحرير: عربي21