ينظر العديد من الأشخاص للتصميم على أنه مهنة فنية بحتة، لكن في الحقيقة هنالك ما هو أكثر من ذلك بكثير. فالإحساس بالفن والجَمال والإلهام ليس كافيًا لخلق ذلك التصميم الجيد الذي سيلقى استحسانًا من الناس. ولهذا، يتقاطع علم النفس مع التصميم، مثل تقاطعه مع الكثير من المجالات الأخرى كالاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها، انطلاقًا من نقطةٍ مهمّة وأساسية؛ هي مساعدة المصمّم على فهم جمهوره المستهدف بكفاءةٍ أعلى.
ومن أجل الحصول على رؤية أفضل لاحتياجات الناس التصميمية، يوصى المصممون بالعادة أن يضعوا في اعتبارهم المبادئ النفسية للسلوك البشري والاحتياجات والدوافع. لكن، كثيرًا منهم ينظرون إلى علم النفس كنهجٍ معقّد فيهملونه ولا يعيرونه انتباهًا، إلّا أنّ النقطة الأساسية هنا أنّ المصمّم ليس بحاجةٍ لأنْ يكون خبيرًا في علم النفس من أجل استغلاله في عمله. فكلّ ما يحتاجه هو النظر في المبادئ الأساسية التي سنركّز على بعضها هنا.
علم النفس الغشتالتي: التصميم الكلّي أهم من الأجزاء والتفاصيل
على الرغم من أنّ عمر هذه المدرسة النفسية قد تخطّى أكثر من مائة عام، إلا أنها لا تزال تثبت واقعيّتها يومًا بعد يوم. وكلمة جشتلت، أو جشطلت كما تُكتب أحيانًا، هي كلمة ألمانية ” Gestalt” معناها شكل أو صورة، وغالبًا ما تؤدي هذا المعنى كلمة نمط أو ” pattern” بالإنجليزية. تفترض المدرسة بالأساس أنّ الدماغ يُدرك الصور من حوله بطريقة إجمالية أكثر تعقيدًا من مجموع التشكيلات الجزئية. فعلى سبيل المثال، إضافة مئذنة في منظر عام للمدينة يُفهم وكأنه مسجد أو جامع.
الدماغ البشري يحاول تبسيط مجموعة الصور أو التصميمات المعقدة المكوّنة من العديد من العناصر، عن طريق ترتيب أجزائها بشكلٍ لا واعٍ إلى نظام منظّم كامل، وليس مجرد سلسلة من العناصر المتباينة.
وبكلماتٍ أخرى، تستند النظرية إلى فكرة أنّ الدماغ البشري جيد بشكل استثنائي في ملء الفراغات من حولها وتجميعها في صورة تجميعية أكبر من الأجزاء والتفاصيل الصغيرة التي يتعرّض لها يوميًا. ولهذا نرى وجوهًا في أشياء مثل أوراق الشجر أو شقوق الرصيف أو الغيوم في السماء، وغيرها الكثير. وفي عبارةٍ أبسط، تخبرنا نظرية الجشطالت أن الدماغ البشري سيحاول تبسيط وتنظيم مجموعة الصور أو التصميمات المعقدة والتي تتكون من العديد من العناصر، عن طريق ترتيب أجزائها بشكلٍ لا شعوري ولا واعٍ إلى نظام منظّم كامل، وليس مجرد سلسلة من العناصر المتباينة.
ملء الفراغات في صورة تجميعية- بعض الأشخاص يرون الشجرة والطيور على الفور عند النظر للصورة، بينما سيرى آخرون أول ما يرونه الغوريلا والأسد يحدّقان ببعضهما البعض.
ولو نظرنا إلى النظرية من واقع مجال التصميم، لرأينا أنه يمكن استخدامها لاستكشاف تصوّر المصمّمين المرئي للعناصر المرتبطة ببعضها البعض في التصميم نفسه. إذ أنها توضّح كيف يميل الناس إلى توحيد العناصر البصرية في مجموعات كلّية أو تجميعية من منطلق أنّ العقل يتعامل مع الارتباك البصري في حياتنا اليومية من خلال دمج الأشياء في مجموعات من أجل تبسيط معلوماتها.
تؤكد مبادئ الجشطالت على أنّ الدماغ البشري يميل إلى صنع الحيل والخدع، لذلك يجب على المصممين النظر في هذه الحقيقة خلال عملية التصميم لاستبعاد أيّ إمكانية لسوء الفهم الناتج
يسعى المصمّمون من خلال هذه النظرية إلى خلق الوحدة والتكامل داخل التصميم الواحد، فكلما كانت العلاقة بين عناصر التصميم أقوى كان اتصال المصمّم وتواصله مع جمهوره أفضل. كما تساعد هذه النظرية أيضًا المصمم في التأثير على المشاهِد من خلال التحكم في كيفية عرض التصميم. ولهذا، وكما هو الحال مع أي مبدأ نفسي، فإنّ تعلم دمج مبادئ الإدراك البصري لنظرية الجشطالت في أعمال التصميم يمكن أن يحسّن بشكل كبير من التجربة. فبالنهاية، فهم المصمّم لكيفية عمل الدماغ البشري ثم استغلال الميول الطبيعية للأفراد سيخلق تفاعلًا أكثر سلاسة مع الجمهور. لا سيّما وأنّ مبادئ المدرسة تؤكد على أنّ الدماغ البشري يميل إلى صنع الحيل والخدع، لذلك يجب على المصممين النظر في هذه الحقيقة خلال عملية التصميم لاستبعاد أيّ إمكانية لسوء الفهم الناتج.
الاستجابة العاطفية: خلق انطباع جَماليّ واسع
غالبًا ما نرى تصميمًا يبدو لنا رائعًا وجميلًا دون معرفة السبب أو تحديده، أليس كذلك؟ يبدو الأمر للوهلة الأولى متعلّقًا بالشعور بالجَمال والفن، لكنه يمتدّ إلى نوعٍ من التفاعلات الناتجة عن “الدماغ العاطفي”، يُطلق عليه أيضًا اسم “الدماغ القديم”، والذي يتكون من أجزاء من دماغ الإنسان مثل اللوزة والحصين والمهاد وغيرها. هذا الدماغ مسؤول عن السلوكيات الغريزية ويتفاعل بسرعة أكبر بكثير مما يفعله وعينا وشعورنا ليُنتج ما يُطلق عليه بردود الفعل “الحشوية”.
تهدف النظرية بالأساس إلى خلق انطباع جمالي إيجابي مع التصميم. إذ ليس من الصعب تخمين ما يبدو لطيفًا للأشخاص وما يبدو عكس ذلك
تتجذّر ردود الفعل الحشوية في أحماضنا النووية وجيناتنا، بحيث يمكن التنبؤ بها بسهولة، لذلك غالبًا ما تكون الاستجابة متسقة إلى حد ما عبر جميع الثقافات والأجناس والتركيبات السكانية للأفراد. وبناءً على ذلك، يُمكن للمصمّم إنتاج تصميمٍ ما بوسعه تحفيز ردود فعلٍ إيجابية متوقعة للغاية على نطاقٍ واسع.
كيف يستخدم المصممون هذه النظرية؟
تهدف النظرية بالأساس إلى خلق انطباع جمالي إيجابي مع التصميم. إذ ليس من الصعب تخمين ما يبدو لطيفًا للأشخاص وما يبدو عكس ذلك. فكلّ شيء من حولنا قد تم تصميمه وخلقه بطريقة ما قادرة على إنتاج عاطفة معيّنة متبوعة بردود فعل عاطفية لحظةً تلو الأخرى، كالفرح والإحباط والكراهية والغبطة والراحة النفسية وغيرها الكثير.
وبالتالي، يجب على المصمّم أنْ لا يسعى فقط إلى تصميم منتجات أو تصاميم قابلة للاستخدام، ولكنْ أيضًا إلى توليد تأثير عاطفي معيّن، غالبًا ما يكون إيجابيًّا، في أدمغة جمهوره، سواء قبل استخدامهم للمنتج أو بعد ذلك، ومن ثمّ محاولة الحفاظ على ذلك التأثير طويلًا حتى يتمكّن المستخدم من الاستفادة منه.
علم نفس الألوان: لكلّ لون تأثيره على النفس
ينظر هذا الجانب النفسيّ للألوان كمؤثّر كبير على إدراك الأشخاص وسلوكيّاتهم وردود أفعالهم، لذلك تُستخدم تطبيقات علم نفس الألوان بكثرة في التسويق والعلامات التجارية. إذ يرى العديد من المسوّقين والمصمّمين أن اللون جزء مهم من نجاح التصاميم وعمليات التسويق لما للألوان من قدرة على التأثير على مشاعر المستهلكين وتصوراتهم.
يجب على المصمّم أنْ يعي أنّ لكلّ لون رسالة يمكن أنْ يقدّمها في تصميمه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ التأثير العاطفي والفسيولوجي لكلّ لون يختلف من فردٍ لآخر، وفقًا للعديد للعديد من العوامل والمتغيّرات مثل التجارب السابقة والثقافة والدين والبيئة الطبيعة والبيئة المدَنية المحيطة والجنس والعرق. ولهذا، لا يعدّ اختيار ألوان التصميم أمرًا سهلًا يمكن إنجازه بسهولة، بل عملية تحتاج لدراسة وتعمّق كبيرين في النفس البشرية وأثر كلّ لون عليها على حدة.
بالمحصلة، يعدّ علم النفس أداة فعالة في التصميم مما يجعل العملية الإبداعية أكثر إنتاجية بينما تكون النتيجة أكثر تركيزًا على الجمهور. وهذه النظريات أو المبادئ الثلاثة التي ذكرناها ليست سوى غيض من فيض إلى جانب العديد من النظريات التي تساعد المصمّمين في التأثير على سلوك جمهورهم وإدراكهم ومشاعرهم وعواطفهم بطرقٍ لا واعية ولا شعورية تعزّز من تفاعلهم الإيجابيّ مع التصميم والمنتج.