بين ثنايا التاريخ، تغيب عنّا أحيانا مواقع جسام وأحداث كبيرة فلا نولي لها اهتماما يعكس أهميتها في تشكيل حاضرنا الذي نعيش، ولا نسعى حتى لمعرفة تفاصيلها، فيكون مصيرها طيّ النسيان والماضي، من تلك الأحداث الكثيرة التي ينطبق عليها ما قلنا، تأسيس “الجمهورية الطرابلسية” أولى الجمهوريات في تاريخ العرب والمسلمين المعاصر، في هذا التقرير سنتعرف سويًا على هذه الجمهورية التي تأسست في غرب ليبيا لكنها لم تدم غير أشهر قليلة.
إعلان الجمهورية
يشير تاريخ التأسيس إلى السادس عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1918، المكان: جامع المجابرة أكبر مساجد مدينة مسلاتة شمال غرب ليبيا على مسافة 130 كيلومتر تقريبا شرق طرابلس، في هذا التاريخ وفي هذا المكان اجتمع أعيان البلاد، ووقعوا على بيان إعلان حدث مهم سيكون له تداعيات كبيرة على حاضر ليبيا حينها وعلى مستقبلها أيضًا.
الإعلان الموقّع جاء فيه، “بسم الله الرحمان الرحيم، في يوم الثلاثاء، الثالث عشر من صفر 1337 – 1918، قررت الأمة الطرابلسية تتويج استقلالها بإعلان حكومة جمهورية باتفاق آراء علماءها الأجلاء، وأشرافها، وأعيانها، وقادة مقاتليها الذين اجتمعوا من جميع أنحاء البلاد، وقد تم انتخاب أعضاء مجلس الشورى الطرابلسي، وانتخب أعضاء مجلس الجمهورية وافتتح أعماله بتبليغ إعلان الجمهورية إلى الدول الكبرى وإلى الحكومة الإيطالية”.
لم تكن فكرة التأسيس وليدة تلك اللحظة، فقد كانت نتاج مخاض كبير
أبرز من كان هناك، خلال إعلان استقلال الجمهورية الطرابلسية، أول جمهورية في العالم الإسلامي والعربي بعد سقوط الخلافة العثمانية، عبد الرحمن عزام (الأمين العام الأول لجامعة الدول العربية)، ورمضان بن الشتيوي بن أحمد السويحلي (قائد مجاهدي مصراتة)، ووسليمان باشا الباروني (والي ليبيا).
يذكر أن جامع المجابرة، الذي شهد ميلاد الدولة الجديدة، هو نفس الجامع الذي تم تأسيس في حزب المؤتمر الوطني العام الطرابلسي، نتيجة اندماج الحزب الوطني والجبهة الوطنية المتحدة (تزعمه بشير السعداوي)، وذلك في 14 مايو/أيار 1949 تيمنا بالجمهورية الطرابلسية.
ويعود اختيار مدينة مسلاتة، لإعلان تأسيس الجمهورية الطرابلسية إلى مكانتها الدينية عند الجميع فهي مدينة العلم والعلماء، وإلى حيادها الذي عرف عنها أيضا، وكان كل من الحاج فرحات القاضي والحاج مفتاح التريكي من الأعضاء المؤسسين عن المدينة في مجلس الشورى الجمهورية.
حيثية التأسيس
لم تكن فكرة التأسيس وليدة اللحظة، فقد كانت نتاج مخاض كبير، فعقب هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الأولى وتوقف الدعم العثماني للمقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي، بدأت الفكرة في التبلور لدى أعيان البلاد على رأسهم رمضان السويحلي وسليمان باشا الباروني.
يذكر أن ليبيا كان إلى غاية سنة 1912 ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية، غير أنها انتقلت إلى السيادة الإيطالية عقب توقيع معاهدة أوشي أو اتفاقية لوزان الأولى بين العثمانيين والإيطاليين إثر الحرب العثمانية الإيطالية التي امتدّت من سبتمبر/أيلول 1911 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 1912.
من بنود تلك المعاهدة التي وقعت في قلعة أوشي (ضواحي لوزان) بسويسرا، أن يلتزم السّلطان العثماني بمنح الاستقلال الذّاتي لطرابلس وبرقة، وموافقة الحكومة الإيطالية أن يعين السّلطان العثماني القضاة في برقة وطرابلس، وسحب جميع الجنود والضّباط والموظفين من طرابلس وبرقة.
هذه المعاهدة التي تمنح ليبيا استقلالها الداخلي، أراد الليبيون أن يستغلوها لفائدتهم، فبدأوا في تنظيم صفوفهم بقيادة سليمان الباروني وغيره من الزعماء الوطنيين تمهيدا لإعلان جمهورية مستقلة، حتى يفوتوا الفرصة على المحتل الإيطالي.
قبل اعلان الجمهورية بسنتين أي سنة 1916، أصدر السلطان العثماني “محمد الخامس رشاد” “فرمانا” بإعادة طرابلس لأراضي الدولة العثمانية، وتعيين سليمان الباروني والياً عليها، مستغلا انشغال إيطاليا بالحرب العالمية الأولى، الأمر الذي لم تستسغه إيطاليا.
عرف الوالي الجديد لليبيا بأنه من أكبر المجاهدين السياسيين الليبيين في تلك الفترة، حيث كان عضوا في مجلس المبعوثان العثماني (مجلس النواب) وتحصل على رتبة البكلورية وكانت له عدة مبادرات في ليبيا منها طباعة عملة سماها البارونية، كما أسس المدرسة البارونية بمدينة يفرن بليبيا وأسس بمصر عام 1906م “مطبعة الأزهار البارونية”، وفي عام 1908م أصدر جريدته التي أسماها (الأسد الإسلامي).
في تلك الفترة، قاربت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء، وانكسرت شوكة الإيطاليين وتراجع العثمانيين وفقد كلاهما أراضي كبيرة، فقرّر أعيان ليبيا أن يتولوا إدارة شئونهم من خلال سلطة وطنية شرعية يتوافق عليها الجميع، تُنشئ المؤسسات، وتؤسس قوات للمقاومة الموحدة وتملأ الفراغ السياسي والأمني وتنشر الأمن الاجتماعي، فتمّ الإعلان عن جمهوريتهم الفتية في غرب البلاد تحت اسم “الجمهورية الطرابلسية”.
ويقول الشيخ الطاهر الزاوى، في كتاب جهاد البطال فى طرابلس عن هذه الجمهوريةك “كان للجمهورية الطرابلسية أحسن الأثر في نفوس الشعب، ونشاط سري في جميع مرافق الحياة وأحس الناس بتطور غريب في حياتهم السياسية؛ اعتقدوا أن مصدره هذه الجمهورية التي رأوا فيها فتحاً مبيناً، وثمرة من ثمرات جهادهم الموفق، ولم يكن سكان المدن أقل فرحاً بهذه الجمهورية من إخوانهم المجاهدين ، فقد كان شعور الليبيين جميعاً متجهاً إلى ناحية واحدة وهي التغلب على الطليان، وكانت الجمهورية مثالاً بارزاً في التعبير عن هذا المعنى، فكانت في محل الإجلال والتعظيم من نفس كل ليبي.”
مؤسسات الدولة
مباشرة إثر الإعلان عن تأسيس الدولة بمدينة مسلاتة، اانتخب لمجلس رئاستها كل من: رمضان الشتيوي السويحلي من مدينة مصراتة، سليمان عـبد الله الباروني من جبل نفوسة، أحمد المريض من مدينة ترهونة، عبد النبي بالخير من مدينة بني وليد.
كما تم انتخاب مجلس لشورى الجمهورية تألف من 24 عضو يمثلون مختلف مناطق البلاد، وعيّن محمد سوف المحمودي الطرابلسي رئيساً له. كما أُنتخب لمجلس شورى علماء الفتية والتشريع كل من الشيخ عمـر الـميساوى، والشيخ الزروق بورخيص، والشيخ محمد الإمام، والشيخ مختار الشكشوكي. وتم بالإجماع اختيار الشيخ مختار كعبار ليتولى الشؤون المالية، والسيد عبد الرحمن عزام مستشارا للرئاسة.
علمت إيطاليا أنها لن تقدر على هزيمة الليبيين عسكريًا فحاولت هزيمتهم سياسيًا وهو ما كان لها
أولى المهام التي قام بها مجلس رئاسة الجمهورية، هي مناشدة الدول الكبرى الاعتراف بالجمهورية الطرابلسية ومساندتها في نيل حقوقها الشرعية وتقرير مصيرها وإعلان استقلالها، حيث وجه رسائل إلى كل من رئيس وزراء بريطانية وإيطاليا وأرفقت بالرسائل ملحق يتكون من 6 مواد به مطالب وحقوق الشعب.
اتخذت الجمهورية الطرابلسية مدينة الزاوية (غرب) مقرا لقيادة المجاهدين التي أسندت مهمتها إلى الأميرالاي الليبي “عبد القادر الغناي”، فيما اختار الزعامات الطرابلسية مدينة العزيزية (على مسافة 45 كيلومتر جنوب طرابلس) عاصمة لجمهوريتهم.
نهاية مبكرة
لم تدم هذه الدولة كثيرا، فالإيطاليين لم يرق لهم قيام جسم شرعي يوحّد الليبيين ويحرمهم من فرص الاستئثار بالبلاد، لذلك عملوا رغم خسارتهم الحرب العالمية الأولى وخروجهم منها منهكين، على احباط كافة العمليات السياسية والادارية والدبلوماسية التي يتخذها زعماء الجمهورية الجديدة.
علمت إيطاليا أنها لن تقدر على هزيمة الليبيين عسكريا، فحاولت هزيمتهم سياسيا وهو ما كان لها، فقد دخلت في مفاوضات معهم، حتى تضعف من عزيمتهم وتبثّ الفرقة والشقاق والانقسام داخل صفوفهم، فحصل ما أرادت.
في 22 إبريل 1919، وصلت المفاوضات إلى توقيع الليبيين اتفاقا سُمَي بـ”اتفاق سواني بنيادم” مع إيطاليا، وبناء على هذا الصلح أصدر ملك ايطاليا، في 1 يونيو/حزيران 1919، مرسوما بالقانون الأساسي للقطر الطرابلسي، يخولهم أن يقوموا بحكم إقليم طرابلس بشكل ذاتي، على أن تكون سيادة الإقليم تابعة لإيطاليا، وشكّل بذلك الليبيون مجلس حكومة تكون من 8 أعضاء من الليبيين واثنين من الإيطاليين بقرار من الوالي الإيطالي.
في ذلك اليوم، أعلن رسميا عن نهاية الجمهورية الطرابلسية، ويقول الفقيه والمؤرخ د.علي محمد الصلابي: “لقد كانت فترة ما بعد صلح بنيادم 1919 من أتعس الفترات التي مر بها التاريخ الليبي المعاصر، خاصة وأن الإيطاليين خانوا العهد ففي نوفمبر من العام نفسه، أعلنت إيطاليا أن إقليم طرابلس وبرقة ملك لها، وتم إرسال قوات تعزيزية استعمارية من روما إلى ليبيا”.