مهما أتفقت قوى المعارضة وتنظيماتها السياسية جميعاً على أنها من حيث المبدأ غير رافضة معرضة عن إدارة حوار سياسي شامل حول القضايا الوطنية السودانية، لكن ذات قوى المعارضة تفرّقت بها وجهات النظر متبائنة حول المسائل الإجرائية التي يتوسل بها إلى إدارة ذلك الحوار، وإذ أعلنت قوى سياسية أقبالها على طاولة الحوار الذي دعت له حكومة المؤتمر الوطني، لا تجد مسوغاًً يفرض شروطاً تستبق تفاعل المتحاورين ونقاشهم إلا أجندة تطرح كلها داخل ساحة التفاوض وأطره وآلياته، يفصل فيها من ثم بواسطة تلك الآليات، فإن شِقّاً من كتلة تنظيمات المعارضة أعرض متجافياً عن الدخول إلى عملية الحوار الوطني ما لم يلبي النظام القائم حزمة من الشروط وضعتها تلك الكتلة فأسمتها مطلوبات تهيئة المناخ المحيط بالحوار، وهكذا صرّح السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني بالقول: “نحن من حيث المبدأ لا نرفض الحوار، ولكننا لا ندخل في حوار بدون تهيئة المناخ المواتِ له.. فنحن لا نريد حواراً من أجل الحوار، وانما حواراً مثمراً يُسهم في استقرار حقيقي للسودان، ويُحسِّن من اوضاع معاش الناس…”
وإذ يبدو التصريح متسقاً مع موقف التنظيمات والأحزاب التي أظهرت قبولاً واستجابة لدعوة الحوار، فإنّ سكرتير الشيوعي يضيف فقرةً مهمةً تضع أساساً للتبائن في وجهات النظر مع حلفائه إذ قال: “تهيئة المناخ تكون بمعالجة الاسباب التي قادتنا الى الازمة، والاعتراف بها وتقديم تنازلات من السلطة الحاكمة تقود الى هذا الاتجاه للحل الشامل والحوار الحقيقي..” وكان تحالف قوى المعارضة قد طرح حزمة من المطالبات قال أنه لن يقبل الدعوة للحوار ما لم تتم الاستجابة لها بصورة واضحة منها إطلاق سراح المعتقلين والغاء القوانين القوانين المقيدة للحريات وعلي رأسها قانون الأمن الوطني والنظام العام والنقابات والصحافة وإتاحة الحريات العامة.
لكن مهما تكن أحزاباً من داخل تحالف المعارضة مثل حزب الأمة والمؤتمر الشعبي لم تجد في هذه الإشتراطات إلا مواضيع يصلح التداول حولها من داخل حلقة الحوار، فإنّ ذلك الموقف ما كان يرقى لأن ينقل حالة التباين التباين في وجهات النظر وتطويرها إلى خلاف حقيقي إلا حين أقدمت هيأة قيادة تحالف المعارضة على استصدار قرار قضى بتجميد عضوية المؤتمر الشعبي داخل ذلك الكيان، لتلحقه بحزب الأمة الذي كان قد جمد نشاطه هو الآخر منذ حين.
إذاً فقد مثل ذلك القرار بداية الخلافات داخل تحالف المعارضة وعبّر الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي عن أن القرار يخالف النظام الأساسي واللوائح المنظمة لعمل التحالف التي لا تبيح للهيئة العامة تجميد عضوية الأحزاب الأعضاء. لكن كمال عمر أشار إلى قضية مهمة ظل مسكوتاً عنها داخل أطر التحالف مهما تكن قد تبدت خلال مواقف بعض مكونات التحالف في مناسبات مناسبات عديدة، تلك هي مسألة درجة إيمان بعض تنظيمات التحالف بالحرية والديمقراطية، ذات الشعارات التي رفعها التحالف كثيراً، لقد وصف كمال عمر قرار تجميد عضوية الشعبي بأنه: “سقطة من القوى التي تدعي الديمقراطية والحرية..” إذ أن ما أقدم عليه المؤتمر الشعبي لا يعدو كونه وجهة نظر أخرى “إجرائية ليست جوهرية” تباين تباين شروطاً وضعها التحالف للحوار، في الوقت الذي يرى فيه المؤتمر أن الشروط تناقش أثناء الحوار، بما في ذلك قضية الحريات، وحذر كمال عمر من أن يؤدي قرار التحالف تجميد عضوية الشعبي لـ(حالة اصطفاف) بين العلمانيين والإسلاميين.
ثمّة قراءات كثيفة لموقف تحالف المعارضة الذي باتت تسيطر عليه أحزاب اليسار السوداني، وهو موقف ما يزال يتحول في كل لحظة منذ ساعة إعلان الدعوة إلى الحوار حتى أنتهى إلى ما قال رئيس تحالف قوى الإجماع الوطني أنها استراتيجية جديدة يتجه تحالفه إلى تبنيها وتقوم على فكرة تصفية النظام القائم عبر الحوار السياسي لكنه في ذات اللحظة التي كان يتحدث فيها في ندوة أقامها أحد احزاب التحالف قال: “هذه الرؤية ليست بديلة لهدفهم الرئيس، إسقاط النظام..”
ويقرأ التحليل السياسي لمواقف تنظيمات اليسار أنها تصوب نحو هدف استراتيجي هو “سقوط الحركة الإسلامية بطريقة كارثية تخرجها عن دائرة الفعل السياسي بالتمام أو إضعافها بدرجة كبيرة لا يسهل من بعد أن تستجمع قواها عاجلاً”
لكن الإمام الصادق المهدي يقرر أن تنظيمات اليسار ليس لديها استعداد أو قدرات لتغير بها الواقع وهذه إفادة توافق التحليل الذي يذهب إلى أن تنظيمات اليسار تخشى مواجهة تكاليف تحول ديمقراطي يضعها أمام تحديات العمل الجماهيري المفتوح على ساحة الجماهير والإنتخابات إلى جانب فتح جبهة أخرى داخلية تفتح مراجعات في أصل الأفكار التي تقوم عليها بعض تلك التنظيمات، وهي معضلة قائمة لكنها مكتومة بمعالجات كلها ظرفية على نحو ما فعل الحزب الشيوعي في مؤتمره الأخير حين أختار لقيادة الحزب شخصاً بعيداً عن الصراع يؤمن مسألة ترحيل الصراع إلى الأمام.
الإمام الصادق المهدي لا يذهب بعيداً وهو ينظر إلى داخل جسم المعارضة فيقول: “نحن نعتقد أن هناك أناس داخل التحالف هم مبدئياً ضد أي حوار، وفي رأيي أنهم ينتظرون جهة ما لتقوم بالتغيير، ليقفوا معها.. ليس لهم استعداد ولا قدرات ليغيروا بها، لكن الواقع الموجود أنهم لا يملكون بديلاً غير الحوار، ونحن لسنا منزعجين من أن يتكلموا بهذه اللغة، لكني أظن أن هناك أطرافا كثيرة في التحالف موافقة على الحوار وتراه معقولا..”
حديث الصادق المهدي عن انتظار البعض لجهة ما تقوم بالتغيير ليقفوا معها يبعث التساؤلات عن ماهية تلك الجهات وما مدى مواكبة آلياتها لشروط الديمقراطية والتحول السلمى، بل إن هذا الحديث يفتح سؤالات حول مدى إيمان تنظيمات اليسار بالحرية والديمقراطية، وهي تساؤلات تثيرها أعلى تلك التحية التي استهل بها القيادي بالحزب الشيوعي صديق يوسف حديثه في ندوة الحزب بميدان الأهلية وأرسلها لما أسماها “الثورة المصرية في 30 يونيو” في إشارة إلى الإنقلاب العسكري الدموي الذي قوّض الديمقراطية والشرعية الانتخابية في مصر، وهذا موقف يدعو إلى فحص مدى تصالح بعض مكونات المعارضة مع العملية الديمقراطية وتطهرها من النزعات الديكتاتورية التي واقعتها مرات عبر تاريخها.