يحاول المحتل الإسرائيلي أن ينتزع ملكية الشعب الفلسطيني من أرضه وتاريخه وثقافته، فالهوية الثقافية بكل أنماطها وأصولها تعبر عن التراكم الحضاري والتراثي الذي ينمي الشعور بالانتماء إلى جماعة أو أرض ما، ولذلك لا يمكن الاستخفاف بكل ما تحاول “إسرائيل” نفيه عن الثقافة الفلسطينية ونسبه إليها.
انتقل الصراع بين الشعب الفلسطيني والمحتل الإسرائيلي في أكثر من مناسبة من ساحة النزاع السياسي إلى مائدة المطبخ، فقد حاولت دولة الاحتلال أن تسد فراغها وفقرها الثقافي بسرقة العديد من المكونات الثقافية الفلسطينية ومنها الأطباق الشعبية التي سوقتها على أنها منتجات إسرائيلية.
حيث تتعمد “إسرائيل” الترويج لتراثها المزيف في المحافل الدولية والعلامات التجارية التي تحمل اسمها، مثل ارتداء مضيفات طيران الخطوط الجوية الإسرائيلية الثوب الفلسطيني المطرز، وتقديم بعض المأكولات الفلسطينية للمسافرين على أنها أطباق وطنية وتعود أصولها إلى المطبخ الإسرائيلي. في المقابل، ظهرت مجموعة من الحركات الشبابية المنظمة والعشوائية التي تهدف إلى صد ووقف هذه السرقات، ومن أحد أشكال المقاومة الثقافية كانت هنا هي الكتب، إذ تلعب هذه الإنتاجات الكتابية دورًا مهمًا في أرشفة وتوثيق عادات المطبخ الفلسطيني، وتوثيق أصول أطباقه. لنستعرض بعضها في هذا التقرير.
“فلسطين على طبق”
كتبت هذا الكتاب الفلسطينية البريطانية جودي القلا بعد أن وقعت في حب المأكولات الفلسطينية التي تمتاز بالتنوع والبساطة، فبعد سنوات من إعداد الطعام وسماع القصص التي كانت ترويها لها جدتها عن يافا وصفد واللد، قررت القلا احتراف الطبخ، فتوجهت إلى الدراسة بأكاديمية “Leiths school of food and wine” في إنجلترا وتعلمت هناك خليط من أساليب الطهي البريطانية والفرنسية التقليدية.
عملت القلا لمدة 10 سنوات في مطاعم مختلفة إلى أن قررت في عام 2010 أن تفتح مطعمًا باسم “بيتي”، واعتبرته وسيلة لتكذيب الرواية الإسرائيلية التي تعبث بالتاريخ وتدعي أن مكونات المطبخ الفلسطيني هي إسرائيلية الأصل، فتقول القلا في إحدى الحوارات الصحفية: “وجدت أن المطاعم في لندن تعتبر الكثير من الأطباق الشعبية الفلسطينية منسوبة إلى إسرائيل”، وتضيف: “الكيان الذي احتل أرضي وسلبها الحرية، يخلط التاريخ والتراث، ويروج من خلال المنصات الرسمية والأهلية؛ للكثير من مأكولات الشرق الأوسط، بخاصة، فلسطين على أنها مأكولات شعبية إسرائيلية، الأمر الذي أزعجني جداً، وقررت من أجله أن يكون مطعم “بيتي” المكان الذي أُظهر فيه ما أُريد، لأؤكد على أن أننا عشنا هناك آلاف السنوات، ولنا حضارة وتاريخ وطعام، وهذا هو طعامنا وليس طعامهم”.
لم تكتفي القلا بافتتاح مطعم لتعريف بتاريخ فلسطين الثقافي، فقد ألفت كتاب عن وصفات المأكولات الفلسطينية، ووسعت مشاريعها وأدارت شركة متخصصة في تقديم الطعام للشركات والأفراد عبر طلبات تصل إلى صفحتها على إنستغرام، كما حولت هذه الفكرة إلى تطبيق خاص يحمل اسم الكتاب وعليه صور ومقاطع فيديوهات تشرح فيها طرق تحضير الأطباق الفلسطينية.
جودي القلا تعد طبخة “المقلوبة” الفلسطينية الشهيرة
بالنسبة إلى الكتاب فهو يضم فصولاً عدة ومتنوعة بين أساسيات المطبخ الفلسطيني من البهارات والأعشاب والمقبلات، ثم يقسم إلى أطباق نباتية، وهو الفصل الذي تعتبره القلا واحد من الأقسام الذي يتميز به المطبخ الفلسطيني لأنه صحي ومتنوع ويلائم العصر الحالي، وذلك إضافة إلى أقسام أخرى تحتوي على المنتجات الحيوانية والحلويات.
جدير بالذكر، أن والدة القلا كانت مصدرها الأول لهذه الوصفات، إذ تقول جودي: “المطبخ الفلسطيني الذي أتكلم عنه في الكتاب، هو مطبخ والدتي، حيث أخذت بعض الوصفات التي تعلمتها منها ومن بعض قريباتي؛ إلى أبعاد جديدة لتصبح أكثر ملاءمة للعصر الحديث، كما قمت بتغيير بعض وصفات والدتي لتصبح أقل دهوناً وتعقيداً، واستهلاكاً للوقت والجهد”.
وتضيف إلى ذلك قائلةً: “فلسطين على طبق، هو تحية إجلال لعائلتي، وأمي، ووطني، هي وصفات قديمة مزجت الحب في زمن مختلف عن الذي نعيشه اليوم، فلسطين بصورها، وتراثها، وأطباقها تنعكس بصورة هذا الكتاب”.
إلى جانب ذلك، تدعو القلا 40 شخصًا أسبوعيًا إلى مطعمها لتثقيفهم حول الأطباق الفلسطينية وتاريخها وأصولها، كما أنها ألفت كتابًا جديد باسم “بلدي”، وذلك من منطلق إيمانها بإن الطعام يمثل الشعوب وليس للاستهلاك فقط، وهو نقطة وصل بين الأرض والبهارات والأعشاب، فهي ليست مجرد أطباق بل أطباق من الأرض التي عمرها الشعب، بحسب قولها.
“المطبخ الغزي: رحلة الطبخ الفلسطيني”
ألفت هذا الكتاب الناشطة السياسية الفلسطينية ليلى حداد بالتعاون مع الباحثة الأمريكية ماغي شميت، وهو ما تعتبره ليلى “وثائقي” لا يسرد فقط طبيعة المطبخ الفلسطيني وأسراره ومميزاته، وإنما يتحدث أيضًا عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والظروف السياسية التي تؤثر على الإنتاج والحصاد.
كما يضم الكتاب معلومات عن محاولات التأقلم الغذائي الذي حاول سكان قطاع غزة تطبيقها في أوقات الحرب والحصار، وكيف تغيرت بعض المكونات الغذائية بناءً على وضعهم الاقتصادي، حيث اعتمدت الحداد على العائلات الغزية والفلاحين وأصحاب المزارع والصيادين في تسجيل القصص والمراحل التي مر بها المطبخ الغزي بسبب الظروف التي فرضها الحصار.
ليلى حداد تعد طبخة “المفتول” الفلسطينية
يحتوي الكتاب على 139 صفحة مقسمة إلى 8 أجزاء تلخص المأكولات التي يتميز بها الغزيون وتحديدًا السلطات والأطباق البحرية والبهارات، كما تعمدت الحداد وشميت الكتابة عن المأكولات التي لم تكن شائعة ولم يتم توثيقها من قبل، وخاصةً تلك التي تعود أصولها إلى المناطق والقرى المهجرة.
أما عن سبب اختيارهما للمطبخ الغزي بالذات، تقول شميت في مقابلة لها على إذاعة بي بي سي البريطانية: “أردنا أن نوثق المأكولات في غزة لأنها مميزة ولم يتم توثيقها، فأردنا وضعها في إطار الميراث الشعبي الذي يتناقل بين الأجيال، ومن جهة أخرى أردنا تغطية تعامل السكان مع صعوبة الحياة والحصول على المكونات الغذائية المرتبطة بالحالة الاقتصادية والوضع السياسي”.
وتضيف الكاتبة: “نأمل أن يساهم الكتاب في تغيير الفكرة عن غزة، فهو يهدف إلى خلق إحساس لدى الناس بأنهم ضيوف في بيت أحد السكان، وإذا راودهم هذا الإحساس فعلى الغالب سيفكر بالجانب الإنساني وسيكون من الصعب عليهم دعم السياسات التي تهدف إلى قصفهم أو إيذائهم”.
“زيتون وزعتر وليمون”
يرتكز اسم الكتاب على أهم عناصر المطبخ الفلسطيني، إذ تقول لنا الفلسطينية المهاجرة “راوية بشارة”، إنها تعتبر نفسها محظوظة جدًا لإنها كبرت في عائلة محبة للطعام وتملك ثقافة غنية بالنكهات والأذواق والألوان، ما دفعها لاحقًا إلى إنشاء مشروع مطعم باسم “تنورين” ببروكلين في نيويورك.
إلى جانب ذلك، تذكر بشارة أن جهل الثقافات الأخرى بالمطبخ الشرق أوسطي بشكل عام شجعها على مشاركة الناس لثقافتها الغنية بالأطباق المختلفة والتي لا تقتصر فقط على “الفلافل” و”الحمص” وإنما تضم مأكولات وأطعمة أخرى.
يحتوي الكتاب على 8 فصول من أهم وأبرز الأطباق الفلسطينية التقليدية والتي تعتبرها بشارة قصة ثقافية وفنية، كما ترى أنها طريقة لجمع الذكريات والعائلة من جديد وأسلوب لإحياء التاريخ والماضي بكثير من الحب والعناية في الإعداد.
إلى ذلك، يجدر بالذكر أن بعض هذه الكتب المتاحة الآن، لم تكن مسيرة ولادتها سهلة تمامًا، فقد رفضت العديد من دور النشر طباعة ونشر كتبهم، لعدم إيمانها بالقضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني الجغرافي والتاريخي، ولهذا السبب واجهت الكاتبات العديد من الصعوبات في إكمال مشوار التوثيق، عدا عن اضطرارهم عدة مرات إلى إحضار الكثير من الدلائل والبراهين التاريخية عن التاريخ والثقافة الفلسطينية للجهات الممولة أو الناشرة حتى ترى كتبهم النور.