في ظل ما تشهده المنطقة من تصعيد وخاصة على الجبهة اللبنانية، قد تصل تداعياته إلى سوريا، تشهد مناطق شمال غربي سوريا، الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية، جدلًا حول إمكانية شن عملية عسكرية ضد قوات النظام السوري وميليشياته على طول خطوط التماس الفاصلة بين المناطق.
هذا الجدل جاء بعد ترويج الإعلام الرديف التابع للفصائل العسكرية بما فيها “هيئة تحرير الشام” وفصائل أخرى منضوية ضمن غرفة عمليات “الفتح المبين“، بشأن شن عملية عسكرية لاستعادة مناطق في ريف حلب الغربي كانت المعارضة خسرتها في معارك 2020.
وترافق الترويج الإعلامي غير الرسمي مع تحركات عسكرية على الأرض لغرفة عمليات “الفتح المبين”، ما زاد من الضبابية التي تسيطر على المشهد العسكري، وسط تخوف مما ستؤول إليه الأمور.
انقسام الشارع
انقسم الشارع في الشمال السوري تزامنًا مع الدعاية عن شن عملية عسكرية، بين مؤيد للعملية وآمال العودة إلى الديار، ومعارض يرى أنها تشكل خطرًا وتهديدًا على ما تبقى من المناطق المحررة في ظل غياب الدعم والضمان الدولي.
ولم تكن المطالبات الشعبية بفتح معركة وليدة اللحظة، لكنها تنامت على خلفية ما تشهده الساحة اللبنانية ومقتل مختلف قيادات حزب الله اللبناني في مقدمتهم حسن نصر الله وخليفته، إلى جانب اجتياح الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية.
ويعتقد الأهالي لا سيما النازحين والمهجرين أن ما يجري فرصة محورية لا بد من استغلالها في عمل عسكري، في ظل انشغال نظام الأسد وإيران وروسيا في الحربين الإسرائيلية على لبنان والروسية على أوكرانيا.
حالة الانقسام تبدو أسبابها منطقية إلى حد ما، فلكل طرف تبرير يمكن اعتباره أولوية، لكن في الواقع أن شن العملية العسكرية دون وجود رعاية دولية يعتبر تحديًا كبيرًا ربما ينقلب على المنطقة، خاصة أن روسيا ستتخذها ذريعة لشن عملية عسكرية معاكسة نحو مناطق المعارضة.
وتوقفت المعارك بين النظام وفصائل المعارضة في مارس/آذار 2020 بعد اتفاقية سوتشي لوقف إطلاق النار برعاية كل من روسيا وتركيا. والتي جاءت عقب عمليات عسكرية واسعة النطاق من النظام وحلفائه سيطروا خلالها على مدن وبلدات ضمن محافظات حماه وإدلب وحلب.
وجاءت اتفاقية موسكو، بعد مخالفة النظام وحلفائه لاتفاقية خفض التصعيد التي نتجت عن الجلسة السادسة من مسار أستانة في سبتمبر/أيلول 2017، ونصت على اعتبار إدلب منطقة خفض التصعيد الرابعة.
إلا أن نظام الأسد وحلفاءه استمروا في قضم المناطق المشمولة في الاتفاقية بشكل متتالي خلال عمليات عسكرية متواصلة تسببت في قتل وتهجير ونزوح آلاف السوريين من سكان المنطقة إضافة إلى المهجرين الذين استقبلتهم من مختلف المحافظات السورية.
وتسبب توقف المعارك العسكرية لأكثر من أربع سنوات في فقدان الأمل لدى المهجرين والنازحين من العودة إلى مدنهم وقراهم، لا سيما أن معظمهم ينحدرون من المحافظات السورية الشمالية، ويواجهون ظروفًا صعبة في مخيمات النزوح، وهو ما يوضح تعويل الأهالي على العمل العسكري.
دعاية وإشغال للشارع
توازيًا مع المطالبات الشعبية نشطت حسابات ومنصات إعلامية رديفة لهيئة تحرير الشام في الترويج لشن عملية عسكرية تهدف إلى السيطرة على مدينة حلب شمالي البلاد، التي خسرتها المعارضة السورية لصالح نظام الأسد بدعم من إيران وروسيا في 2016.
وتواصل “نون بوست”، مع الجبهة الوطنية للتحرير المشاركة في غرفة عمليات “الفتح المبين”، للتأكد من صحة الأنباء التي تتحدث عن شن عملية عسكرية تجاه مناطق سيطرة نظام الأسد، إلا أنه لم يحصل على تأكيد أو نفي للعملية منهم، معللين ذلك بأسباب عسكرية.
في سياق آخر، روجت القوة المشتركة التابعة للجيش الوطني السوري المدعوم تركيًا عبر إعلامها الرديف عن تحضيرها لعمل عسكري باتجاه منطقة تل رفعت (مناطق الشهباء) شمال حلب، وهي مناطق تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
العميد ومدير مركز رصد للدراسات الاستراتيجية، عبد الله الأسعد، اعتبر أن الترويج لعملية عسكرية في ظل الظروف الحالية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط يشكل حربًا إعلامية لا أكثر، لأن العمل العسكري يحتاج إلى تسليح وعتاد وتحضيرات واسعة النطاق.
وقال الأسعد لـ”نون بوست”: إن “خوض عملية عسكرية للسيطرة على مناطق واسعة مثل حلب وجنوب إدلب يحتاج إلى غرفة عمليات مشتركة بين جميع الفصائل، ولا بد أن يكون هناك دور للحليف التركي في ظل الخلافات الفصائلية الحالية، لأنها تشكل عثرة أمام أي عملية جديدة”.
وأضاف “التعويل على مدينة حلب لأنها تتميز بثقل استراتيجي وتموضع جغرافي وتمتلك حاضنة شعبية واجتماعية واسعة للشعب السوري والمقاتلين في فصائل المعارضة، لذلك باتت هدفًا أوليًا لنظام الأسد وحلفائه في العام 2016”.
وتعد مدينة حلب خلاصًا لمسألة إعادة اللاجئين السوريين على الأراضي التركية إلى بلادهم، فضلًا عن أنها منطقة تتمتع بنشاطين صناعي وتجاري، وسبق الحديث عن شن عملية عسكرية ووعود من “هيئة تحرير الشام” على لسان زعيمها، أبي محمد الجولاني، خلال اجتماعاته المتكررة مع مهجرين من مدينة حلب إلى إدلب.
من جانبه يرى الباحث السياسي، هشام سكيف، أن توصيف المنطقة شمال غرب سوريا أنها منطقة خفض تصعيد وليست منطقة آمنة، لذلك يستطيع محور نظام الأسد وإيران وروسيا في حال خرق الاتفاقية من قبل المعارضة كسره وشن عملية عسكرية للوصول إلى معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: إن “دعاية المعركة كان لها أهدافها الداخلية، مثل تخفيف الضغط على الجولاني بعد مضي عام على قمع التظاهرات المناهضة، فضلًا عن تأمين غطاء معقول لشرعنة التعاون بين بعض الفصائل والهيئة”.
واعتبر سكيف أن الترويج هو “ابتزاز للجانب التركي فيما يتعلق بمعبر أبو الزندين جنوبي الباب والفاصل بين مناطق الجيش الوطني ومناطق سيطرة النظام في ظل رغبة الهيئة في الحصول على نسبة من واردات المعبر، وهذا الضغط يحرج تركيا الموقعة على اتفاقية وقف إطلاق النار مع روسيا”.
تخيم حالة من الضبابية بخصوص شن عملية عسكرية على مناطق نظام الأسد، في المقابل تبدو التحركات العسكرية لغرفة عمليات “الفتح المبين” في نقل العتاد الثقيل إلى خطوط التماس ورفع الجاهزية لقواتها ونزوح السكان من تلك المناطق تحضيرًا لعمل عسكري، لكنها مجرد تكهنات في الوقت الحالي.
النظام يعزز حضوره
على الجهة المقابلة، عززت قوات النظام والميليشيات الإيرانية مواقعها على طول خطوط التماس الممتدة من أرياف حلب الغربية وأرياف إدلب الشرقية والجنوبية، وأرياف حماه واللاذقية الشمالية.
وتحدثت مصادر متطابقة، أن تحركات النظام تضمنت رفع سواتر ترابية وتحصينات عسكرية ضمن خطوط التماس الخلفية في ريف حلب الغربي وقرب مواقعها المنتشرة على طريق أستراد حلب – دمشق، تخوفًا من هجمات قد تشنها فصائل المعارضة.
وأكد ناشطون ومراسلون حربيون تابعون لنظام الأسد استعداد قوات الأخير للتصدي لأي عملية عسكرية، مشيرين إلى إمكانية شن هجوم معاكس بهدف تغيير خريطة السيطرة التي رسمتها معارك 2020 وتوقفت مع اتفاق وقف إطلاق النار.
ونقلت صحيفة الوطن الموالية للنظام عن مصادر ميدانية، أن جيش النظام عزز نقاط انتشاره على طول جبهات القتال مع “هيئة تحرير الشام” في منطقة خفض التصعيد من ريف اللاذقية الشمالي وسهل الغاب غرب حماه، مرورًا بريف إدلب الجنوبي، وصولًا إلى ريف حلب الغربي، تحسبًا لأي طارئ.
وأكد العميد عبد الله الأسعد، أن النقاط العسكرية التابعة لنظام الأسد والميليشيات الإيرانية على طول خطوط التماس لم تشهد انسحاب كامل، وإنما الانسحابات كانت لوحدات عسكرية تابعة لحزب الله اللبناني.
وأشار إلى أن النظام لا يمكنه الانسحاب من المنطقة، لأنه يستند إلى قوى خارجية، وعلى الرغم من انشغال روسيا في أوكرانيا، وإيران و”حزب الله” مع “إسرائيل”، فإن قواتهما متواجدة على الأرض.
ورغم تراجع عدد المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا بين منتصف عامي 2023 و2024 بشكل محدود من 570 إلى 529 موقعًا، لا تزال صاحبة الانتشار العسكري الأكبر، لا سيما في حلب، حيث تمتلك 177 موقعًا، و27 في إدلب، و27 في حماه، حسب خريطة المواقع العسكرية للقوى الخارجية في سوريا، التي أعدها مركز جسور للدراسات في يوليو/تموز الماضي.
مناخ دولي غير ملائم
حالة الانكشاف التي مني بها “حزب الله” اللبناني مع الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والحرب الروسية على أوكرانيا من جهة أخرى، قد تشكل فرصة يعتبرها البعض مواتية ولا تعوض للفصائل العسكرية المعارضة شمال غربي البلاد، لكنها في الوقت ذاته تفتقر إلى دعم دولي واضح، ما يجعل إطلاق عمل عسكري بشكل اعتباطي يعد حرب استنزاف جديدة قد توصل المعارضة إلى خسارة آخر معاقلها.
ويرى الباحث السياسي، هشام سكيف، أن القوى المستفيدة من العملية العسكرية هي محور نظام الأسد وإيران وروسيا، لأن إيران لا تزال تحتفظ بقواتها وسلاحها على الأراضي السورية، وهي بحاجة إلى فتح معركة بهدف تحقيق نصر معنوي، أما بالنسبة لروسيا ستكون ذريعة للضغط على تركيا في ظل الملفات العالقة بين الدولتين.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تركيا ترى أن الوقت غير مناسب لاستفزاز الأطراف الأخرى، لا سيما أنها منخرطة في مفاوضات مع روسيا في سياق التطبيع مع نظام الأسد، بينما أمريكا لا تريد إضافة توتر في منطقة الشرق الأوسط بالوقت الحالي، فعمليًا يتبين أن العمل العسكري يصب في مصلحة النظام وحلفائه”.
وأضاف “لكن إذا أرادت أمريكا الضغط على إيران، فهي تمتلك حليفًا لها ضمن مدينة حلب في حيي الأشرفية والشيخ مقصود، ولا تحتاج الكثير لإزعاج إيران في حلب، بدلًا من التورط بدعم فصائل تعتبر مصنفة على قوائم الإرهاب مثل هيئة تحرير الشام”.
بينما اعتبر الإعلامي والباحث السياسي، ماجد عبد النور، أن شن عملية عسكرية على مناطق سيطرة محور نظام الأسد وروسيا وإيران ممكن، لكن الظروف الدولية غير مهيأة لتغيير خرائط السيطرة على الجغرافية السورية.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: إن “فتح معركة دون موافقة أمريكية مباشرة يشكل خسارة للمعارضة، لأن فتح معركة محدودة والانسحاب منها بشكل مباشر يعرض المناطق المحررة للتهديد، وقد يصل الأمر إلى خسارة آخر معاقل الثورة السورية”.
وأضاف “محور النظام وحلفائه ليس سهلًا، فالنظام أعاد هيكلة الجيش وجهز قواته بالسلاح، كما أن روسيا إلى الآن قادرة على قصف وتدمير المناطق المحررة، بينما إيران وميليشياتها لا تزال متواجدة على الأراضي السورية، في حين، لا تمتلك فصائل المعارضة إمدادات وطرق تذخير تجعلها تستمر في معركة قد تطول لأشهر”.
ويتفق العميد الأسعد مع الباحث ماجد عبد النور، بأن “المعارك العسكرية تحتاج إلى دعم دولي، وعلى وجه الخصوص الجانبين التركي والأمريكي، لأن كل ما يجري في منطقة الشرق الاوسط مرسوم بمخطط دولي ولا تخرج أي عملية عسكرية خارج نطاق هذا التخطيط الذي ترعاه أمريكا”.
خطورة العمل العسكري
يشكل افتتاح عمل عسكري ضد نظام الأسد خطرًا على أرواح السوريين الذين ذاقوا الويلات خلال السنوات الماضية، وتجلى ذلك مع بدء نزوح المدنيين من القرى والبلدات المحاذية لخطوط التماس، مع احتمالية التصعيد يخشى السوريون في الشمال أن تكون لدى النظام ردة فعل بعملية عسكرية برية معاكسة.
واعتبر عبد النور، أن “شن أي عملية عسكرية تفتقر إلى قرار وضمان دولي بمثابة كارثة وخطيئة بحق سكان وأهالي مناطق شمال غربي سوريا، رغم الحاجة الماسة للنازحين والمهجرين في العودة إلى مدنهم وبلداتهم، لكن استقرارهم في الشمال أفضل من تعريضهم للخطر”.
واعتبر عبد النور أن “المعركة غير المرتبطة بقرار دولي ستنعكس بشكل سيئ على السكان، لأن هناك عدوًا شرسًا وقاتلًا، يقصف ويرتكب المجازر بحق المدنيين، وذاكرة الأهالي لا تزال حاضرة عندما كانت تموت على أيدي النظام وروسيا، فضلًا عن تدمير المشافي والمباني السكنية والمرافق العامة”.
وأشار إلى أن “العالم استوحش، فـ”إسرائيل” أبادت غزة وتبيد الآن جنوب لبنان والعالم ينظر من بعيد دون تحريك ساكن، ما يعني أن المنطقة ستتعرض لعدو مماثل بالتوحش، والمعركة ستعرض الأهالي للإبادة، لا سيما أن روسيا ستجدها ذريعة لشن عملية معاكسة تسيطر فيها على ما تبقى من إدلب”.
وتخضع منطقة إدلب لاتفاق سوتشي الذي ينص على وقف إطلاق النار وتسيير دوريات مشتركة بين روسيا وتركيا في الأول من مارس/آذار 2020، وفي حال اختراق اتفاق وقف إطلاق النار من المعارضة، فإنه يشكل تبريرًا لروسيا وإيران ونظام الأسد في إبادة المنطقة.
وتبدو التجهيزات العسكرية غير المعلنة لفصائل “الفتح المبين” في إدلب بهدف شن عملية عسكرية نحو مناطق النظام غير واضحة الأهداف حتى اللحظة، وسط غياب التصريحات الرسمية، لكنها في الوقت ذاته قد تعرض حياة أكثر من 5 ملايين إنسان للخطر في حال عدم دراسة تداعيات العمل العسكري بالشكل الأمثل.