انتهت الانتخابات الرئاسية في تونس وأمسك الرئيس القائم بكرسيه لـ 5 سنوات أخرى. وخاب ظنّ من رغب في إحداث حدث أول في التاريخ، وهم قلة حالمة بإنهاء وضع انقلابي بالصندوق الانتخابي. لم يسبق أن سُجّل في التاريخ السياسي حدث مماثل، لذلك لم تقدّم تونس الاستثناء المنتظر والمرغوب في تونس وخارجها.
يسود الآن جوّ من السخرية السوداء في السوشيال ميديا يفرغ به الناس شحنة الخيبة والغضب، خاصة أن الأرقام التسعينية العربية المعتادة تثير كل الشكوك في مصداقية الهيئة الانتخابية.
فكل الذين حكموا أكلت ممارسة السلطة من أرصدتهم الفعلية والرمزية، فتراجعت نسب التصويت لهم كلما عاودوا الظهور، إلا في حالة الرئيس قيس سعيّد. رغم فقر سنواته الخمس الأولى إلى أي إنجاز يمكن أن يشكّل رصيدًا لنجاح واستمرارية، وعدم تقديمه أي برنامج اقتصادي للسنوات الخمس المقبلة.
والسؤال الآن ليس كيف سيحكم البلد بل كيف ستنظم المعارضة الرافضة للنتائج عملها، هل ستقع في حفرة الإحباط وتنهار عزيمتها أم ستقوم ضده فتحمل سنوات حكمه نهايته؟
الحكم بلا برنامج
رغم إن انقلاب 25 يونيو/ حزيران قد حظيَ في بدايته بحماس نخبة قانونية وسياسية يسارية وقومية بالخصوص، إلا أن 3 سنوات كانت كافية لينفضّ من حوله كل المتحمسين، لذلك لم نجد حول الرئيس متحدثًا مقنعًا في الاقتصاد وفي السياسة. فلم نسمع حديث البرامج التنموية، رغم وجود اتفاق عام في الساحة بأن البلد يعيش فترة صعبة، وأن شحّ الموارد ينعكس على الحياة اليومية فتظهر طوابير المعيشة في كل مكان.
لم يبدُ الرئيس منشغلًا بهذا الجانب، وكل تركيزه أو من يتحدث باسمه وهم قلة من غير ذوي الخبرة، كان على إكمال برنامج الرئيس القانوني بتغيير هيئة الدولة، عبر توسيع صلاحيات الرئيس وتحويلها إلى صلاحيات إمبراطورية، متجاوزًا في ذلك كل تراث الدولة القانوني والمؤسساتي الذي شقيَ قوم كثير في ترسيخه منذ الاستقلال. عينُ الرئيس على فسخ دستور 2014 ومحو آثاره وفرض دستوره الذي كتبه بيديه، دون العودة إلى من حوله ولو للتصحيح اللغوي.
كان في بعض خطابات الرئيس قبل الانتخابات حديث عن مقاومة الفساد، لكن الناس لم يروا نتائج فعلية، وكثير ممّن يعرف الناس فسادهم لا يزالون في مواقعهم، فالسوق الموازي عنوان فساد، لكنه يشتغل حتى اللحظة بكفاءة عالية.
لقد حصر مفهوم الفساد في الموضوع الاقتصادي، لكن لا أحد يصنّف تحطيم المؤسسات القانونية والقضائية مثل المحكمة الإدارية في الفساد. وكان من عناوين الفساد التي برّر بها الانقلاب وتدبّر أنصارًا، هو فساد حزب النهضة واستيلاؤه على المال العام، لكن بعد 5 سنوات لم يثبت من ذلك شيء، وقيادات الحزب الآن سجينة بلا تهم ولا ملفات، وهذا فساد آخر لا يأتي في الأخبار.
بماذا سيحكم الرئيس فترته القادمة؟ ومن سيموّل مشاريعه مثل القطار السريع من الشمال إلى الجنوب ومثل المدن الصحية الشاملة في الوسط والشمال؟ ليس هناك أي علامة جادة على وجود مصادر تمويل، سوى الضغط الضريبي على المؤسسات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة وعلى الرواتب، وهي غير كافية. يقول الساخرون الآن أمطار الشتاء ستنزل باليورو.
هل توجد معارضة للانقلاب؟
هل توجد معارضة فعلًا خارج الفيسبوك التونسي النشيط جدًّا؟ يرسّخ الافتراضي التونسي انطباعًا بوجود معارضة نشطة وسليطة، وحتى الآن لا يهذّب الكتبة فيها لغتهم من خوف أو من حذر. لكن هل سيستمرون في ذلك خلال الأيام القادمة؟
لقد حفّزت أجواء الحملة الكثير، فقيل الكثير لكن لم يتحول الكلام إلى كتلة سياسية وازنة في الشارع ولا في الصندوق. أكثر من 70% من الكتلة الناخبة لم تشارك في التصويت لا مع الرئيس ولا ضده. فأين المعارضة فعلًا؟ وما الذي قد يجمعها وهي التي كانت شتاتًا قبل الانقلاب ولا تزال بعد الانتخابات لا تتحدث بلسان واحد؟
لقد حلَّ مناخ من عدم الثقة بين الناس والمعارضة، نتيجة سنوات الهرسلة الإعلامية التي سلّطت على من حكم منذ الثورة، فلم ينجُ أحد، ولم يفلح أحد في ترميم سمعته أو استعادة موقعه، بل يستحسن الكثير من الناس لجم النقابة ومنعها من الحركة، ولم يراجع أحد من العوام خاصة (وهم القوة الناخبة التي خرجت لصالح الرئيس) صحّة المعطيات/ التهم الموجهة ضد حزب النهضة. هاتان قوتان سياسيتان مشلولتان الآن، وقيادتهما تتخفى من المطاردة وتنظر إلى الأرض من خشية.
بقية المعارضة ،والتي عبّرت عن نفسها فجأة بعنوان مستحدث شبكة الحقوق والحريات، خرجت ضد الانتخابات واتهمت الهيئة بالتزييف، لكنها بدت قليلة العدد مشتّتة الشعارات وتعمل على الجزئي دون الكلي، فتصرخ ضد المنشور عدد 54 المكبّل لحرية الإعلام، ولا تعود إلى المرجعية الجامعة دستور 2014، ولم تتبرَّأ من الخطاب الاستئصالي، ففي كل مظاهرة ترفع شعارات استئصالية خاصة عند ظهور بعض العناصر الإسلامية بين الصفوف. ويمكن القول إن هذه الشبكة محدودة الفعالية، وليس لها جمهور خارج العاصمة فضلًا عن حزازات بينية تشقها.
هل تستفيق المعارضات فتتوحّد؟
الذين رفضوا المقاطعة وخرجوا مع المرشح العياشي الزمال طيف متنوع سياسيًا، وحّدته فكرة حماية الحد الأدنى الديمقراطي، لذلك أغفل الشعارات الاستئصالية، وبدا كما لو أن هناك مشروع وحدة سياسية من أجل الحفاظ عبر النضال السلمي على هيئة الدولة المهددة بالتغيير.
لكن رغم ذلك نرجّح بقوة أن فترة ما بعد الإقرار بالنتيجة ستحل فترة ذهول طويلة، وسيقوم الترهيب الإعلامي بكسر إرادة الناس بما يصرف المتحمسين إلى شؤونهم، فيسود نوع من الهدوء المقهور ستتخلّله تحركات قانونية للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، وآخرهم المرشح الرئاسي الذي حكم حتى الآن بـ 14 سنة ولا تزال قضاياه مفتوحة.
ونرجّح بقوة أيضًا أن محاولات توحيد الصف المعارض سيصطدم كالعادة بالروح الاستئصالية الكامنة والظاهرة في النخب، رغم أننا سمعنا في حلقات كثيرة أن غياب ماكينة حزب النهضة الانتخابية قد كشف عجز البقية عن توفير ملاحظين في مكاتب الاقتراع لصالح السيد الزمال.
ونجزم ضمنًا وعلنًا بأن كثيرًا من الطيف المعارض لا يزال يبارك عملية استئصال الحزب من الساحة، ويفضّل الاستمرار مع الرئيس على عودة مناخ ديمقراطي يستفيد منه الإسلاميون.
وإلى حين الإقرار بأن هذا الانقسام العميق هو الطريق التي جاء بالانقلاب حتى ترسّخ بانتخابات، فإن الرئيس سيحكم مرتاحًا إلى أن ليس له معارضون جدّيون، بل يمكنه ممارسة المزيد من الاعتقالات بتهم لا يقدم عليها أدلة.
لن يقرّ رؤوس هذه النخبة بغلطهم في حق البلد والناس والمستقبل. إلى متى ستستمر هذه الحالة؟ سنرمي خلاصة موجعة في الحوار. هذه الانتخابات قضت نهائيًا على النخب السياسية التي ملأت المشهد قبل الثورة وبعدها، وفشلت في استثمار الثورة وتحويلها إلى دولة جديدة ديمقراطية. تونس حالة عربية لم ترسل رسالة حرية ثانية للعرب من حولها.