من جديد أطلت الطائفية بوجهها القبيح على باكستان، الدولة الإسلامية الكبرى صاحبة الـ196 مليون نسمة التي تقع جنوب آسيا، وهي متلازمة تعيش فيها البلاد من وقت لآخر، بسبب وضع نصل سكين قانون التجديف الذي يضع عقوبات مشددة على أعناق الأقليات الدينية – أبرزها الهندوس والسيخ والمسيحيون – إذا أساؤوا للإسلام، والطائفة الأخيرة تفجرت بشأنها أحداث دامية قبل أيام، بسبب إلغاء المحكمة العليا بالدولة حكم بالإعدام صدر عام 2010 ضد سيدة مسيحية بعد اتهامها بازدراء الدين الإسلامي.
وشايات لا تخفي الحقيقة
المحكمة الباكستانية حددت بوضوح أسباب إلغاء مثل هذا الحكم الذي تسبب في جلب إدانات دولية شديدة للقضاء الباكستاني، فآسيا بيبي السيدة المسيحية التي حكم عليها بالإعدام استطاعت هيئة الدفاع عنها إثبات التضارب في روايات جاراتها اللاتي شهدن عليها في الإساءة للإسلام، ولكن يبدو أن الأسباب القانونية والسياسية لوقف هذا الحكم لم تكن كافية لقطاع واسع من الإسلاميين الذين احتجوا بشكل متواصل ضد القرار، وعمت المظاهرات أرجاء البلاد بما أوقف الحياة بشكل شبه كامل في بعض مدن البلاد، وفي القلب منهم العاصمة إسلام أباد.
الاعتراض على الحكم أو حتى التظاهر ضده أخذ شكلًا تصاعديًا بانضمام بعض الأحزاب الكبيرة والفاعلة في الحياة السياسية – مثل حزب لبيك باكستان الإسلامي – إلى المظاهرات المناهضة للحكم، وتأزم الموقف بسبب الدعوى الصريحة لقتل القاضي بناءً على فتوى أصدرتها الهيئة الشرعية للحزب الذي يدافع بشراسة منذ نشأته عما يسمى قانون التجديف الذي كاد أن يصل بآسيا للإعدام، وأشعل الأحداث وعقّد الأزمة بشكل غير مسبوق.
الحملات الناقمة على الحكومة أجبرت رئيس الوزراء الباكستاني يوسف رضا جيلاني على الخروج في مؤتمر صحفي ليؤكد أن حكومته لا تعتزم إجراء أي تعديلات على قانون التجديف، وطالب الأطراف كافة بالتوقف عن الخوض في هذا الشأن
ويثير قانون التجديف موجات غضب محلية في باكستان من المسيحيين والهندوس وغيرهم من باقي الأقليات الدينية، خاصة أنه يقضي بعقوبات قد تصل إلى الإعدام لكل من يتطاول على الله أو يسب النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم أو يهين المصحف الشريف وثوابت دين الإسلام، منذ أن تم إقراره في ثمانينيات القرن الماضي في عهد الرئيس الراحل ضياء الحق.
وتخاف الحكومة الباكستانية من المساس بالقانون الذي لا يحظى بدعم الجماعات الدينية فقط، ولكنه صاحب شعبية كبيرة، بحسب العديد من وسائل الإعلام المحلية الباكستانية التي شنت حملة كبرى من قبل لاستمرار العمل به، بعدما سربت الحكومة أنباءً عن الدفع بأحد النواب للتقدم بطلب يسمح بتعديل بعض بنوده، خاصة أنه يثير الغضب الدولي ضد باكستان، ويضعها في تصنيفات تضر بها في مواضع أخرى كالاقتصاد والأمن والسياحة.
ولكن الحملات الناقمة على الحكومة أجبرت رئيس الوزراء الباكستاني يوسف رضا جيلاني على الخروج في مؤتمر صحفي ليؤكد أن حكومته لا تعتزم إجراء أي تعديلات على قانون التجديف، وطالب الأطراف كافة بالتوقف عن الخوض في هذا الشأن.
قانون أحادي الجانب
أبرز الانتقادات الغربية التي توجه للقانون، بمعزل عن أغلب المجتمعات العربية والإسلامية التي لديها قوانين تحاسب على ازدراء الأديان عمومًا ولا تنال نفس حدة الانتقادات التي تصوب تجاه باكستان، أن قانون التجديف أحادي الجانب، ولا يعاقب إلا أتباع الديانات الأخرى إذا تورط أحدهم في الإساءة للإسلام والمسلمين، بينما لا يحاسب المسلمون أنفسهم إذا وقع أحدهم في نفس الخطيئة التي تصل بغيرهم للإعدام.
أزمة أسيا بيبي التي رأى القضاء أنها مفتعلة، كانت عبارة عن وشاية بالسيدة من بعض جيرانها المسلمات بسبب خلافات عابرة، فتحت الباب للحديث عن الزج بالمواطنين للوقوع تحت مقصلة القانون بتهم كيدية لم يعفَ منها حتى الأطفال، وما يثبت ذلك حادثة الطفلة ريمشا مسيح التي لم يتجاوز عمرها الـ12 عامًا واتهمت بازدراء الدين الإسلامي، وبرأها القضاء أيضًا في 2012 ، بعدما أثبت الوشاية بها من رجل مسلم، وإثر الحكم شهدت البلاد أيضا أعمال عنف مماثلة لتلك المندلعة حاليًّا، بسبب الإصرار على تهجير عائلة الفتاة من البلدة التي تسكنها، ولم تستطع حتى بعد البراءة العيش في البلاد وهاجرت للغرب.
واصلت منظمة المؤتمر المسيحي الباكستاني الكاثوليكية حملاتها ضد الحكومة المركزية لإلغاء قانون التجديف
وتحاول المنظمات الدولية استخدام الزخم القائم بشأن حكم إعدام بيبي للهجوم على القانون ودفع القوى الدولية لمحاربته، لدرجة أن بنديكتوس السادس عشر بابا الفاتيكان تدخل في قضيتها شخصيًا أكثر من مرة، وطالب المجتمع الدولي بضرورة حماية المسيحيين في الشرق الأوسط، وضمان آدائهم لشعائرهم الدينية دون تمييز، وذكر دولًا بعينها تمارس ما أسماه اضطهاد الأقليات الدينية على رأسها مصر ونيجيريا وباكستان.
كما واصلت منظمة المؤتمر المسيحي الباكستاني الكاثوليكية حملاتها ضد الحكومة المركزية لإلغاء قانون التجديف، بل إن المنظمة جعلت من يوم الـ24 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي يومًا للاحتجاج ضد قانون التجديف، بحسب وكالة أنباء آسيا نيوز المتحدثة بلسان الطوائف الكاثوليكية التي أكدت أن المنظمات المسيحية عقدت مؤتمرًا في التاريخ نفسه للمطالبة بإلغاء القانون السابق ذكره.
ضغوط دولية مدججة بتقارير حقوقية
تزداد يومًا بعد الآخر الضغوط الدولية على باكستان والمدججة بتقارير جمعيات حقوق الإنسان، بما دفع ببعض المسؤولين في الحكومة الباكستانية إلى إعطاء وعود بمراجعة القانون، كان أبرزها تصريح وزير شؤون الأقليات بالحكومة الاتحادية شاهباز باتي الذي أكد أن حكومة بلاده تعمل على تشكيل لجنة علمية لمراجعة القانون، إلا أن الحكومة على المستوى الرسمي لم تقر تصريحات شاهباز وأعطت تصريحات لوسائل الإعلام تؤكد أن التعديل إن جاء لن يكون منها، بل من البرلمان.
عملية قتل تيسير المعارض والمسجون السابق الذي أفرد ساعات طويلة للحديث عن الظلم ومرارة السجون والمعتقلات، جعلت أعتى المسؤولين في الحكومة يخافون من مصير مشابه
في كواليس تهرب الحكومة من تبني حملة تعديل القانون، خوفها من نفس المسارات التي تعرض لها في السابق سلمان تيسير السياسي الباكستاني وحاكم إقليم وأحد أهم حلفاء رئيسة الوزراء بينظير بوتو، الذي تعرض للاغتيال من حارسه الشخصي عام 2011، بسبب دعوة تيسير إلى إلغاء قانون التجديف لإنقاذ آسيا بيبي التي شغلت الرأي العام الدولي منذ تفجر قضيتها.
عملية قتل تيسير المعارض والمسجون السابق الذي أفرد ساعات طويلة للحديث عن الظلم ومرارة السجون والمعتقلات، جعلت أعتى المسؤولين في الحكومة يخافون من مصير مشابه، ورغم تفرغ المنظمات الحقوقية الدولية لإفراغ مدفعيتها صوب باكستان والتنقيب عن ضحاياه، فإن ذلك لم يجعل الحكومة تتحرك وفق مسؤولياتها لإلغاء مثل هذه القوانين التي تسيء لسمعة المسلمين في العالم أجمع، خاصة إذا استُخدمت في الوشاية بأبرياء قد لا يسعفهم الحظ لإنقاذ رقبتهم من الإعدام.
معارضات موضوعية من الإسلاميين
التعرض بموضوعية لما يثار بشأن القانون في دول العالم، باعتبار باكستان دولة إسلامية كبيرة، ويجب عليها الالتفات لما يحدث في العالم، لا يجب معه حجب وجهات النظر الأخرى أيضًا، فمعارضو تعديل القانون ليسوا جميعًا من المتشددين، بل من عموم المسلمين الذي ينقسمون إما إلى معارضة تامة لا تريد المساس بالقانون من الأساس، أو الموافقة على تعديله ولكن مع تشديد العقوبات، خاصة أن رموز المسيحية والهندوسية لا يرتدعون إلا بهذا الشكل للابتعاد عن الإساءة الموجهة والممنهجة التي كانت تظهر بين الحين والآخر للتجريح في الدين الإسلامي والنيل من النبي والقرآن الكريم.
يعدد الإسلاميون أسبابهم في القتال لإبقاء القانون، على رأسها عدم التساهل في شرعنة الإساءة للمعتقدات، والابتعاد شيئًا فشيئًا عن هدي الإسلام
زعماء الجماعة الإسلامية الذين توصمهم المنابر الإعلامية والحقوقية الدولية بالتشدد رفضوا هذا الوصف، كما رفضوا أيضًا اللغط المثار ضد قانون يجرم سب النبي والقرآن الكريم، فالتساؤل الأساسي الذي يوجهوه لكل رافض للقانون: ما الذي يجعلك تقدم بالأساس على سب المسلمين لتخاف من عقابهم؟ وما الذي تضمره داخلك وتريد لأجله إلغاء القانون؟ وتبيت النوايا لإطلاق لسانك بسب الرسول الكريم بدعوى حرية الفكر الذي لن ينال منه أحدًا ما دام صاحبه يتحدث في سياقات عامة، ويريد العيش في سلام مع شركاء الوطن.
ويعدد الإسلاميون أسبابهم في القتال لإبقاء القانون، على رأسها عدم التساهل في شرعنة الإساءة للمعتقدات، والابتعاد شيئًا فشيئًا عن هدي الإسلام الذي أباح طعام أهل الكتاب وذبائحهم، وأمر بإحسان القول والخلق مع الناس أجمعين، والدعوة بالرفق واللين في نصرة الإسلام، بما يوجب على الآخر التعامل معه بالمثل.