دخول العقوبات الأمريكية على إيران موضع التنفيذ بشقها الأول، وثمة حزمة أخرى في الـ5 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ تستهدف صادرات النفط الإيرانية، وقد تكون الأشد قسوة وإضرارًا بالاقتصاد الإيراني، وثمة أيضًا مأزق كبير في إيران قد يؤدي إلى انهيار النظام كما يذهب “صقور” البيت الأبيض، أو على الأقل لإجبار طهران على طلب التفاوض بشروط ترامب كاملة.
ومع اقتراب موعد تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية، بدأت حكومة الرئيس حسن روحاني في اتخاذ إجراءات استباقية تحاول من خلالها تخفيف وطأة هذه العقوبات، لكن ثمة عقبات عديدة ما زالت تقلص من قدرة الحكومة على تمرير خططها لمواجهة العقوبات.
ماذا ينتظر إيران بعد ساعات؟
تأتي الحزمة الجديدة من العقوبات الأمريكية عقب قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 8 من مايو/أيار الماضي انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران المبرم عام 2015 الذي يقيد البرنامج النووي الإيراني، حينها أصدرت وزارة المالية الأمريكية قائمة عقوبات ضمن جدول زمني لإعادة فرض العقوبات على إيران، إضافة إلى فرض العقوبات على الشركات المرتبطة بعلاقات تجارية معها.
يُنظر للحزمة الثانية من العقوبات باعتبارها “الأكثر إيلامًا للاقتصاد الإيراني”، لأنها تتعلق بصادرات النفط التي تمثل خُمس اقتصاد إيران
تضمن الجدول الزمني تطبيق العقوبات على مرحلتين، بدأت الأولى عقب انقضاء مهلة الـ90 يومًا في الـ6 من أغسطس/آب الماضي لمنح الشركات فرصة لإنهاء معاملاتها، وشملت عقوبات هذه المرحلة معاقبة القطاع الصناعي الإيراني مثل قطاع الطيران، بما يتضمنه من سحب تراخيص التصدير من شركات الطيران المدني إلى إيران بما فيها “بوينغ” و”إيرباص”، إضافة إلى قطاع السيارات الإيراني والقطاع المصرفي.
وهناك عقوبات على قطاعات التعاملات المالية تخص شراء الدولار الأمريكي أو حصولها على احتياطي منه، إضافة إلى المعاملات المالية المتعلقة بشراء أو بيع الريال الإيراني أو الاحتفاظ بأموال أو حسابات بنكية بالريال خارج إيران، كما تشمل العقوبات البيع المباشر أو غير المباشر لإيران من مواد الغرافيت والألمنيوم والحديد والصلب والمعادن الثمينة.
العقوبات سوف تساهم في تصعيد حدة الأزمة الاقتصادية الداخلية التي تواجهها
لكن الأكثر تأثيرًا وخطرًا هي الحزمة الثانية التي تخص قطاع النفط، وستدخل حيز التنفيذ بعد 180 يومًا من الحزمة الأولى، أي في الـ5 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، وتشمل فرض قيود على التعاملات المتعلقة بقطاع النفط، إضافة إلى قيود على التحويلات المالية بين المؤسسات المالية الأجنبية والبنك المركزي الإيراني وخدمات الاكتتاب والتأمين، كذلك هناك عقوبات على قطاع الموانئ الإيرانية والسفن ومصانعها.
ويُنظر للحزمة الثانية من العقوبات باعتبارها “الأكثر إيلامًا للاقتصاد الإيراني”، لأنها تتعلق بصادرات النفط التي تمثل خُمس اقتصاد إيران، وتهدف إلى وقف مبيعات النفط الخام لفرض أقصى درجات الضغط الاقتصادي على إيران، علمًا أن دولًا مثل الصين والهند وتركيا أعلنت أنها غير مستعدة لتنفيذ رغبة ترامب، وأنها لن تتوقف بشكل كامل عن شراء النفط الإيراني.
ووفقًا لما كتبه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في مقاله المعنون “مواجهة إيران: إستراتيجية إدارة ترامب” المنشور بدورية الشؤون الخارجية Foreign Affairs”” في عددها عن شهري نوفمبر وديسمبر، فإن إدارة ترامب تهدف إلى جعل الواردات العالمية من النفط الخام الإيراني قريبة من الصفر بقدر الإمكان بحلول الـ4 من نوفمبر/تشرين الثاني.
قرار ترمب سيجعل الشركات الأوروبية والأجنبية تحت طائلة العقوبات الأمريكية إذا أبقت معاملاتها مع إيران
ومن المقرر أن يكون للقرار مزيد من التداعيات السلبية على الشركات الأوروبية والأجنبية التي تتعامل مع إيران، إذ إن قرار ترمب سيجعل تلك الشركات تحت طائلة العقوبات الأمريكية إذا أبقت معاملاتها مع إيران، وهذا سيشمل شركات عملاقة مثل “إيرباص” و”توتال” و”فولكسفاغن” التي دخلت السوق الإيرانية بعد توقيع الاتفاق النووي.
يعني هذا خسارة هذه الشركات عقودها المقدرة بمليارات الدولارات، فشركة “توتال” خسرت عقدًا بقيمة 5 مليارات دولار كانت قد أبرمته لتطوير حقل غاز “بارس”، كما أن “فولكسفاغن” الألمانية أُجبرت على الاختيار بين إيران أو السوق الأمريكية ثاني أكبر سوق لها في بيع السيارات.
وتهدف الإدارة الأمريكية من إعادة فرض العقوبات على النظام الإيراني إلى ممارسة حملة “ضغط قصوى” على طهران لإرغام النظام الإيراني على الجلوس إلى طاولة التفاوض، ولكن هذه المرة ليست للتفاوض بشأن البرنامج النووي الإيراني فقط كما حدث خلال إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ولكن على البرنامج الصاروخي الإيراني ودور طهران الإقليمي المزعزع للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ووقف مصادر التمويل التي يستخدمها النظام وبخاصة الحرس الثوري الإيراني.
تحركات إيرانية لمواجهة الحزمة الأكثر إيلامًا
ترتب إيران أوراقها السياسية والاقتصادية تحسبًا للعقوبات الأمريكية المقبلة، فقد أعلنت منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي أنها ستتخذ إجراءات على المستويين الداخلي والخارجي للتصدي للعقوبات، بعد أن طلبت الولايات المتحدة من حلفائها وقف جميع واردات النفط الإيراني ابتداءً من نوفمبر/تشرين الثاني، فهي وإن قللت عبر مواقف مسؤوليها من أهمية هذه العقوبات، لكنها تعلم أن مرحلة ما بعد العقوبات لن تكون سهلة على الاقتصاد والداخل الإيراني.
بعد أيام قليلة من سريان حزمة العقوبات الأولى، تم توقيع اتفاق جديد بخصوص الوضع القانوني لبحر قزوين وكيفية استغلال ثرواته
داخليًا، لم يجد الرئيس الإيراني حسن روحاني صعوبة في إجازة البرلمان وزرائه الـ4 الجدد، ويكون بذلك قد أقدم على خطوة لطالما انتظرها كثيرون، وهي تغيير فريقه الاقتصادي، ولم يجادل البرلمان كثيرًا لمنح الثقة لكل من وزراء الاقتصاد والصناعة والعمل والطرق والمواصلات، فربما لا يريد أن تبقى المقاعد في حكومة روحاني خالية والبلاد مقبلة على مرحلة جديدة من العقوبات الأمريكية.
نالت حكومة الرئيس روحاني إذًا ما أرادت من البرلمان، لكنها تعلم أن مرحلة ما بعد حزمة العقوبات الأمريكية المقبلة لن تكون سهلة، خاصة أن تلك العقوبات سوف تساهم في تصعيد حدة الأزمة الاقتصادية الداخلية التي تواجهها، التي لم تنجح الإجراءات الحكومية في تقليص تداعياتها خلال المرحلة الماضية، لذلك اتجهت إيران نحو رفع مستوى علاقاتها الثنائية مع بعض دول الجوار مثل باكستان وتركيا ودول بحر قزوين.
وقد بدأت التحركات الإيرانية مبكرًا، فبعد أيام قليلة من سريان حزمة العقوبات الأولى تم توقيع اتفاق جديد بخصوص الوضع القانوني لبحر قزوين وكيفية استغلال ثرواته، وقضت الاتفاقية – التي وُقعت خلال القمة الخماسية التي عقدت في كازاخستان – بأن تكون المنطقة الرئيسية لسطح بحر قزوين متاحة للاستخدام المشترك، وتقسيم الطبقات السفلية إلى أقسام متجاورة بالاتفاق فيما بين الدول الـ5 على أساس القانون الدولي، وتحدد الاتفاقية الحكم المتعلق بمنع وجود أي قوات عسكرية لقوى أجنبية دولية أو إقليمية في البحر.
قادة الدول الـ5 المطلة على بحر قزوين خلال توقيع الاتفاق على كيفية استغلال ثرواته
وعلى نحو يشير إلى أنها تحاول استباق بدء تفعيل الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية، بدا حرص إيران على تطوير علاقاتها مع الكثير من الدول جليًا في المسارعة إلى فتح قنوات تواصل مع حكومة عمر خان، فقد كانت إيران من أولى الدول التي رحبت بوصول عمر خان إلى رئاسة الحكومة الباكستانية، حيث سارعت إلى إيفاد وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى إسلام أباد لإجراء مباحثات مع خان والمسؤولين الباكستانيين في 30 من أغسطس/آب 2018.
وكان لافتًا أن تلك المباحثات تركزت على قضايا لا تنفصل عن جهود إيران لاحتواء تداعيات العقوبات الأمريكية، على غرار التعاملات المصرفية الثنائية ومشروعات نقل الطاقة من إيران إلى باكستان خاصة الغاز، والمشاركة في تطوير الموانئ لا سيما تشابهار وغوادار، إلى جانب الملف الأمني.
وعلى نحو انعكس في تأكيد طهران وقوفها إلى جانب أنقرة ومطالبتها الولايات المتحدة الأمريكية بـ”وقف إدمانها للحظر”، زار وزير الخارجية محمد جواد ظريف أنقرة وعقد اجتماعًا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو في 29 من أغسطس/آب الماضي، قبيل القمة الثلاثية التي سوف تجمع أردوغان مع الرئيسين الإيراني حسن روحاني والروسي فيلاديمير بوتين في إيران في 7 من سبتمبر/أيلول الماضي.
قال موقع وزارة النفط الإيرانية “شانا” إن إيران بدأت بيع النفط الخام لشركات خاصة من أجل تصديره، بعد أن أعلنت ذلك في يوليو/تموز الماضي
كما شهدت أروقة الأمم المتحدة موقفًا آخر تمثل في تحرك الاتحاد الأوروبي إلى جانب روسيا والصين لتأكيد التزام هذه الدول بالاتفاق النووي الإيراني رغم انسحاب الولايات المتحدة منه، وإعلان آلية جديدة لتسهيل المعاملات المالية المشروعة مع إيرانللرد على العقوبات الأمريكية، في خطوة تشكل ضربة قاسية للولايات المتحدة عشية خطاب ترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي إطار إستراتيجية مواجهة العقوبات التي سيبدأ سريانها بعد أيام قليلة، قال موقع وزارة النفط الإيرانية “شانا” إن إيران بدأت بيع النفط الخام لشركات خاصة من أجل تصديره، بعد أن أعلنت ذلك في يوليو/تموز الماضي، وتهدف إيران بهذه الخطوة إلى تعزيز قيمة نفطها داخل البلاد وضمان تدفق السيولة قبل الحزمة الثانية من العقوبات التي تستهدف النفط.
تنتظر إيران إذًا عقوبات تطال قطاعها المصرفي والنفطي، ما اضطرها مؤخرًا إلى بيع نفطها الخام الذي عرضته للمرة الأولى في بورصة طهران للطاقة بسعر أقل من السعر الذي حددته الوزارة بسبب عدم إيجاد زبائن للشراء، وتعد إيران ثالث أكبر منتج للبترول في منظمة الدول المصدر للنفط “أوبك” بـ3.45 مليون برميل يوميًا، وبمتوسط صادرات 2.1 مليون برميل يوميًا.
عقبات في مواجهة العقوبات
هناك عقبات عديدة تضع حدودًا للنتائج المحتملة التي ربما تحققها الإجراءات الإيرانية خلال المرحلة القادمة، وترتبط هذه العقبات بحدود التغييرات المحتملة التي قد تجريها إيران في سياستها إزاء بعض القضايا الرئيسية التي تحظى باهتمام خاص من جانب الدول الأوروبية، فضلًا عن تأثير الضغوط الأمريكية المحتملة على بعض الأطراف، والتكلفة العالية التي سيتحملها مستوردو النفط الإيراني في إطار بحثهم عن بدائل له.
وهناك أيضًا عقبات ما زالت تقلص من قدرة الحكومة على تمرير خططها لمواجهة العقوبات، يتمثل أبرزها – بحسب مركز المستقبل للأبحاث ودراسات المتقدمة – في محاولات النظام تفعيل أدوار بعض المؤسسات المُعيَّنة التي تمتلك سلطات رقابية على برامج الحكومة مثل مجلس تشخيص مصلحة النظام، ومواصلة استجواب وزرائها مثل وزيرى الداخلية والثقافة والإرشاد في بعض القضايا الأمنية والثقافية.
الشارع الإيراني غير مهتم كثيرًا بتغيير أسماء في الحكومة بقدر اهتمامه بعمل الحكومة ذاته، وما يهمه بالدرجة الأولى ألا يكون هو المستهدف في صراع الإرادات بين طهران وواشنطن
وبتغييرها الحكومي الذي جرى مؤخرًا لا تريد إيران أن يتعثر نشاط بنوكها وتعاملاتها المالية مع الخارج أو تتوقف مبيعات نفطها، في وقت يواجه فيه النظام حالة من السخط الشعبي بسبب تردي الأوضاع المعيشية، لكن يبدو أن الشارع الإيراني غير مهتم كثيرًا بتغيير أسماء في الحكومة بقدر اهتمامه بعمل الحكومة ذاته، وما يهمه بالدرجة الأولى ألا يكون هو المستهدف في صراع الإرادات بين طهران وواشنطن.
ويدرك الإيرانيون أن الحقيقة أكثر قسوة مما توحي به تعهدات الأوربيين الذين يقفون ضد عقوبات ترامب التي يعتبرونها فعلًا أحاديًا ليسوا ملزمين به، فكثيرًا ما تقول بروكسل ما ترغب طهران في سماعه، لكن الشركات الأوروبية الكبرى قد لا تحبذ المجازفة باختبار صدق النوايا السياسية لدى أي من الأطراف، والإجراء الأكثر أمنًا بالنسبة لها هو الانسحاب من السوق الإيرانية وبسرعة.
يدرك الأيرانيون أن الحقيقة أكثر قسوة مما توحي به تعهدات الأوربيين
فعلت ذلك سلفًا شركات فرنسية وألمانية كبرى دون أن تلتفت إلى تطمينات القادة الأوروبيين الذين أكدوا إصرارهم على حماية شركاتهم التي تتعامل مع إيران، فالسوق الأمريكية بالنسبة لها أهم، وهي لن تغامر بخسارة عشرات المليارات سنويًا من سوقها الأمريكي مقابل بضعة مليارات من إيران.
وهناك دائمًا ما هو أكثر تعقيدًا، فحظر شراء الدولار المفروض على إيران يزيد من تعقيد أي تعاملات لأي شركة أوروبية كبرى قد ترغب في تحدي العقوبات الأمريكية والإصرار على التعامل مع طهران، خاصة أن ذلك يتزامن مع ما يشبه انهيار الريال الإيراني الذي خسر أكثر من ثلثي قيمته خلال الشهور الـ6 الأخيرة.
وعلى المستوى الخارجي تدرك طهران أنه لا يمكن التعويل في الفترة الحاليّة على مدى قدرة حكومة عمر خان في باكستان على الاستمرار في تنفيذ المشروعات الثنائية الخاصة بنقل الطاقة والتعاملات المصرفية الثنائية خلال مرحلة ما بعد تفعيل الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية في 4 من نوفمبر/تشرين الثاني القادم، حيث إن موقعه الجديد سوف يفرض عليه خيارات محددة.
لا يبدو أن الجهود التي تبذلها إيران لرفع مستوى علاقاتها الثنائية مع بعض دول الجوار سوف تنتج تداعيات إيجابية قوية قد تعزز من قدرتها على احتواء تأثيرات العقوبات
كما أن محاولات إيران استثمار التوتر الحاليّ المتصاعد بين تركيا والولايات المتحدة تواجهها عقبة الخلافات المتصاعدة بشأن الموقف في إدلب، حيث ما زالت أنقرة حريصة على توجيه تحذيرات من عواقب التدخل العسكري من جانب روسيا وإيران والنظام السوري في إدلب، خاصة على صعيد تفاهماتها الأمنية المستمرة مع موسكو وطهران.
وعلى ضوء ذلك، لا يبدو أن الجهود التي تبذلها إيران لرفع مستوى علاقاتها الثنائية مع بعض دول الجوار سوف تنتج تداعيات إيجابية قوية قد تعزز من قدرتها على احتواء تأثيرات العقوبات التي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تفرضها، لا سيما أن الأخيرة تبدو حريصة على منع إيران من استخدام الآليات نفسها التي تبنتها في المرحلة السابقة للتعامل مع العقوبات الأمريكية والدولية التي تعرضت لها.