تحذيرات جهاز الأمن السوداني من اختراق الصحفيين.. حقيقية أم مبالغ فيها؟

تتواصل حالة الشد والجذب بين الصحافة السودانية من جانب وجهاز الأمن والمخابرات الوطني من الجانب الآخر فكثيرًا ما يلجأ الأخير إلى سلاح مصادرة الصحف واعتقال الصحفيين ومنع العديد منهم من الكتابة في الصحف اليومية عقابًا لهم لآرائهم التي لا تتفق وتوجهات السلطة الحاكمة.
منتصف نهار الخميس الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، وقّع عدد من رؤساء تحرير الصحف السودانية بالبرلمان على ميثاق الشرف الصحفي بحضور مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني صلاح عبد الله ورئيس اتحاد الصحفيين السودان الصادق الرزيقي، ويتكون الميثاق من بنودٍ عديدة أهمها دعم الموقعين لجهود المصالحة الوطنية حسب موجهات الدستور، كما أكدوا التزامهم بالحقوق والواجبات المهنية التي تضمنت 20 بندًا، من أبرزها، عدم نشر أي مواد أو أخبار عن القوات النظامية وتحركاتها إلا نقلًا عن الناطق الرسمي.
ومن أهم البنود التي تضمنتها وثيقة “الشرف الصحفي” في تقديرنا، أنه يحظر على الصحفي استغلال مهنته في الحصول على هبات أو إعانات أو مزايا خاصة من جهات أجنبية أو محلية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما نصّ الميثاق على عدم جواز حرمان الصحفي من أداء عمله أو من الكتابة دون وجه حق بما يؤثر على أي من حقوقه المادية والأدبية المكتسبة، إضافة إلى ضمان أمن الصحفي وتوفير الحماية اللازمة له في أثناء قيامه بعمله في كل مكان عام وبخاصة في مواقع الأحداث ومناطق الكوارث والحروب.
مدير الأمن يهاجم سفارة السعودية وينتقد سفر الصحفيين
أكثر ما لفت الانتباه في حديث المدير العام لجهاز الأمن السوداني صلاح قوش خلال التوقيع أنه نبّه إلى أن كثيرًا من السفارات أخذت تعمل على دعوة الصحفيين عبر المقابلات والزيارات والهدايا وتغذيتهم بالمعلومات، مشيرًا الى أن هناك هجمة منظمة من أجل فتح الباب لاختراق المجتمع وصفها بالكبيرة.
وذكّر قوش قائلاً: “الصحفيون الذين غادروا إلى المملكة العربية السعودية.. عقب الزيارة استدعيناهم واحدًا واحدًا بغرض التنبيه وقلنا لهم اعملوا حسابكم”، وزاد “أبلغناهم أن هذا الطريق مشروع عمالة وتجنيد”.
سنتوقف هنا ونقدم المزيد من التفاصيل عن زيارة الوفد الصحفي السوداني إلى السعودية التي تمت في رمضان الماضي وسبقتها زيارة وزير الإعلام في الحكومة السابقة أحمد بلال عثمان.
فقبل نحو عام تقريبًا، قام نائب رئيس الوزراء وزير الإعلام السوداني السابق أحمد بلال عثمان بزيارة مطولة إلى المملكة اجتمع فيها بعددٍ من المسؤولين السعوديين وتعرّف على أقسام وإدارات وكالة الأنباء الرسمية “واس” في العاصمة الرياض.
سأل صحفيون وزير الخارجية السابق إبراهيم غندور عن تصريحات أحمد بلال التي هاجم فيها “الجزيرة” فقال (بنص العبارة) “يُسأل عن ذلك وزير الإعلام وأتمنى أن أتعرف على رده أنا أيضًا!!”، وتم إغلاق ملف تصريحات بلال باعتذاره أمام لجنة خاصة بالبرلمان
والتقى بلال بنظيره السعودي عواد العواد حيث جرى بينهما تفاهم على اتفاقية إطارية في مجال التدريب والتعاون وتبادل الخبرات والزيارات والبرامج، إلى جانب قيام أكاديمية تدريبية في السودان، وتعاون في مجال الأخبار بين وكالة الأنباء السودانية ووكالة الأنباء السعودية.
ومعروف للصحفيين السودانيين أن وزير الإعلام السابق أحمد بلال الذي انتقل إلى وزارة الداخلية حاليًا صاحب مواقف وسقطات إعلامية متعددة أبرزها ظهوره في تسجيل فيديو واضح هاجم فيه قناة الجزيرة، متهمًا إياها بالعمل على إسقاط النظام في مصر وإثارة الفوضى، مشيرًا إلى أن ذلك خطأ ومرفوض، “كررها مرتين”.. لقي ذلك التصريح الغريب انتشارًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي خلال ساعات قليلة، وفجّر غضبًا كبيرًا في أوساط الشارع السوداني نسبة لأن السودان، رسميًا، لم ينحز لأي من طرفي الأزمة الخليجية لحساسية موقفه.
وقد سأل صحفيون وزير الخارجية السابق إبراهيم غندور عن تصريحات أحمد بلال التي هاجم فيها “الجزيرة” فقال (بنص العبارة) “يُسأل عن ذلك وزير الإعلام وأتمنى أن أتعرف على رده أنا أيضًا!!”، وتم إغلاق ملف تصريحات بلال باعتذاره أمام لجنة خاصة بالبرلمان.
أتينا بهذه القصة للدلالة على خلفيات دعوة السلطات السعودية للوزير السابق إلى زيارة المملكة ضمن مشروعٍ واضح لاستقطاب الإعلام السوداني من القيادة كما سيتضح لنا في الأسطر الآتية، ولكن يبدو أن قيادة الدولة انتبهت أخيرًا إلى أن بلال لا يصلح لحقيبة الإعلام فقررت نقله إلى حقيبة الداخلية التي أفرغت من صلاحياتها بعد تغول مدير عام قوات الشرطة على معظم السلطات.
تحركات مريبة للسفير السعودي في الخرطوم
خلافًا لكل السفراء السعوديين السابقين في السودان، لاحظ مراقبون حجم النشاط الواسع للسفير الحاليّ علي بن حسن جعفر وسط فئات المجتمع من كثرة نشاطه وحراكه في الفعاليات وعُرف عن جعفر استقباله للصحفيين في السفارة ودعوته لهم باستمرار لأي نشاط حتى ولو لم يكن ضروريًا يستدعي تغطية إعلامية.
واعتبر تقرير لصحيفة السودان اليوم الإلكترونية أن السفير علي بن حسن جعفر يسعى لتحويل “الصوفية” أو على الأقل تحييد البعض منهم في صراعهم مع التيار السلفي الذي تدعمه السعودية بشكل واضح، وأضاف التقرير “نشاط السفير علي جعفر هو جهد استخباري بامتياز والرجل فيما يبدو أحد ضباط المخابرات السعودية التي تقود في هذه المرحلة حركة تغيير لبعض المجتمعات الإسلامية والعربية”، بحسب التقرير.
من الواضح أن الرياض عبر سفارتها كانت تسعى ـ وربما لا تزال ـ بقوة إلى التأثير في الإعلام السوداني ومحاولة استقطاب الرموز الصحفية السودانية
ولم يكن موقع السودان اليوم هو الوحيد الذي لفت إلى تحركات السفير السعودي، إذ ذكرت صحيفة “مصادر” أن جهات ومؤسسات حكومية ذات صلة بالعمل الدبلوماسي وعلاقات السودان الخارجية قد أبدت تحفظات شفاهية على تحركات وصلات سفير المملكة العربية السعودية بالسودان مع قطاعات واسعة داخل المجتمع السوداني.
وأوضحت الصحيفة أن تلك الجهات أعربت عما أسمته ضرورة مراعاة حدود العلاقات الدبلوماسية في تحركات السفير وصلاته التي أدت إلى بعض التعقيدات خاصة بعد التحقيق مع وفد إعلامي سوداني زار السعودية مؤخرًا دون علم السلطات ذات الصلة.
والوفد الإعلامي السوداني الذي تتحدث عنه “مصادر” هو ما قصده مدير جهاز الأمن صلاح قوش في خطابه على هامش حفل توقيع “ميثاق الشرف الصحفي” وتحذيراته من استقطاب الصحفيين السودانيين، وتذكيره كذلك بمساءلة الذين سافروا إلى السعودية بدعوة من سفارة المملكة.
من الواضح أن الرياض عبر سفارتها كانت تسعى ـ وربما لا تزال ـ بقوة إلى التأثير في الإعلام السوداني ومحاولة استقطاب الرموز الصحفية السودانية، إذ كانت قد دعت المرة الأولى في شهر رمضان الفائت عددًا من رؤساء التحرير وكبار الكتاب ضمن وفدٍ برئاسة عوض جادين مدير وكالة الأنباء السودانية الرسمية “سونا” الذي يشغل في الوقت ذاته أمين دائرة الإعلام في الحزب الحاكم، ومن ضمن نشاطات الجولة التي قام بها الوفد زيارته لصحيفة عكاظ ذات المهنية العالية سابقًا قبل أن تكشفها الأزمة الخليجية الأخيرة وتظهرها بمظهر الصحيفة الصفراء التي تفرد صفحاتها للأكاذيب والتلفيقات والعبارات السوقية التي يندى لها الجبين.
الأمن السوداني يمنع وفدًا صحفيًا من السفر إلى السعودية
يبدو أن جهاز الأمن لم ينتبه لسفر الوفد الصحفي السوداني إلا بعد أن وصل السعودية وبدأت وسائل إعلام المملكة في نشر تفاصيل جولاته، فعندما عاد الصحفيون أخضعتهم السلطات الأمنية بالتحقيق معهم بشأن الزيارة وما حدث فيها، ثم منع الجهاز الدفعة الثانية من السفر إلى الرياض ويضم الوفد الثاني كل من رئيس تحرير صحفية التيار عثمان ميرغني ورئيسة تحرير موقع باج نيوز لينا يعقوب ورئيس تحرير الجريدة شرف عبد العزيز ومدير تحرير الرأي العام فتح الرحمن شبارقة.
مصادرة صحيفة الوطن بعد هجومها على قطر
في خطوة ثانية تدل على جهود جهاز الأمن السوداني في محاصرة التحركات السعودية، صادرت السلطات الأربعاء الماضي، النسخ المطبوعة من صحيفة (الوطن) اليومية، واستدعت ناشر الصحيفة وحققت معه بشأن مقالٍ وجّه فيه انتقادات لاذعة إلى دولة قطر، وعمّم الجهاز توجيهات صارمة حذر فيها الصحف من المساس بالعلاقات الخارجية وعدها من الخطوط “شديدة الحمرة”.
يوسف استخدم العبارات التي ترد في اتهامات وسائل الإعلام السعودية لقطر ولم تقنع أحدًا مثل “إيواء الدوحة لمجموعات من المتطرفين دينيًا بهدف زعزعة بعض الدول العربية والتحريض عليها”، إلى جانب هجوم الكاتب على قناة الجزيرة والزعم بأنها “حاولت قلب الأنظمة التي تعاديها قطر دون مبرر واضح” على حد تعبيره
ويرى العديد من المحللين أن ناشر صحيفة الوطن يوسف سيد أحمد ـ على خلاف والده الراحل وشقيقه عادل المعروفين باتزانهما الصحفي ـ ينحاز بشكلٍ صارخٍ إلى السعودية منذ بداية الأزمة الخليجية لدرجة أنه كثير ما يخصص “المانشيت” الأول في صحيفته للترويج للمملكة ومشروعاتها واستثماراتها في السودان بل حتى للأوضاع الداخلية هناك.
واللافت أن يوسف استخدم العبارات التي ترد في اتهامات وسائل الإعلام السعودية لقطر ولم تقنع أحدًا مثل “إيواء الدوحة لمجموعات من المتطرفين دينيًا بهدف زعزعة بعض الدول العربية والتحريض عليها”، إلى جانب هجوم الكاتب على قناة الجزيرة والزعم بأنها “حاولت قلب الأنظمة التي تعاديها قطر دون مبرر واضح” على حد تعبيره.
الأمن السوداني منع الصحف من تغطية قضية اغتيال خاشقجي
لا ننسى أيضًا أن جهاز الأمن عمم توجيهًا للصحافة السودانية بعدم تناول تطورات قضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي حرصًا على علاقات الحكومة مع السعودية وبذلك حاول جهاز الأمن السوداني السيطرة على تغطيات وسائل الإعلام المحلية خوفًا من حدوث توتر في العلاقات الخارجية، وإن كان هذا الإجراء يعني فرض المزيد من التضييق على حرية الصحافة، بغرض إنهاك الصحفيين بالاستدعاءات والاعتقال الأمني، ما يجعل الكثير منهم يُفكّر في إيثار السلامة، بممارسة مبدأ الرقابة الذاتية خوفًا من لجوء السلطات إلى مصادرة الصحيفة بأكملها وبالتالي تكبد الناشر والعاملين خسارةً فادحة.
الانحياز الصارخ البعيد عن المهنية فهذا لم يكن موجودًا في الصحافة السودانية المعروفة برصانتها ولهجتها الهادئة نسبيًا، ومع ذلك يظل الغالب الأعم من الصحفيين السودانيين بعيدين عن محاولات الاستقطاب وشراء الذمم رغم الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تعيشها الصحافة السودانية والمجتمع السوداني ككل
وعلّق لـ”نون بوست” صحفي وكاتب معروف – فضّل عدم ذكر اسمه لحساسية الموضوع – بقوله: “الصحفيون السودانيون الذين غادورا للسعودية لا يتطرق الشك إلى وطنيتهم ونزاهتهم، ومن حق أي إعلامي السفر إلى أي بقعة في الأرض طالما وصلته دعوة رسمية”، لكنه شكّك بالمقابل في تغطية صحيفة الوطن وما ورد فيها يوم الثلاثاء 30 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لافتًا إلى أن انحيازها الصارخ إلى السعودية وتبنيها لنفس الاتهامات التي تثيرها وسائل الإعلام السعودية والإماراتية يثير الريبة والشكوك.
لا أحد بالطبع يلوم الأجهزة الأمنية في جهودها لحماية البلاد من الاختراق ولكن ينبغي ألا يكون ذلك مدعاة للتضييق على حرية التعبير التي نصّ عليها دستور البلاد وقانون الصحافة، ويمكن اتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة المخالفين بدلًا من اللجوء للقمع والاعتقال ومصادرة الصحف بعد طباعتها.
أما الانحياز الصارخ البعيد عن المهنية فهذا لم يكن موجودًا في الصحافة السودانية المعروفة برصانتها ولهجتها الهادئة نسبيًا، ومع ذلك يظل الغالب الأعم من الصحفيين السودانيين بعيدين عن محاولات الاستقطاب وشراء الذمم رغم الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تعيشها الصحافة السودانية والمجتمع السوداني ككل.