تعيش منطقة الشرق الأوسط ومحيطها من دول الطوق حالة ارتباك وقلق ترقبًا للرد الإسرائيلي المزمع على الضربة الإيرانية (الوعد الصادق 2)، التي استهدفت العمق الإسرائيلي في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ردًّا على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، والأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، وأسفرت عن وقوع خسائر إلى حد ما مقارنة بالضربة الأولى في أبريل/ نيسان الماضي.
ومنذ ذلك اليوم والحكومة الإسرائيلية في حالة انعقاد شبه دائم، إذ لا يشغل رأس بنيامين نتنياهو ومجلسه المصغّر ومعه أقطاب اليمين المتطرف سوى الانتقام والثأر، بعدما تجاوزت الضربة الإيرانية التقديرات الإسرائيلية، لكن يبقى تحديد طبيعة هذا الرد ونوعيته وحدوده وتداعياته هي العقبة التي تؤجّل تنفيذه، رغم التهديد بأنه سيكون “حازمًا وقاسيًا”.
ومع تواجد عقلية جنونية كنتنياهو، منقادة من تيارات متطرفة مثل بن غفير وسموتريتش، على رأس حكومة الحرب الإسرائيلية، وفي ظل عجز الإدارة الأمريكية عن كبح جماحه، مع توفير كافة أنواع الدعم المقدّم له، تبقى كل الخيارات متاحة، الأمر الذي قد ينذر بحرب واسعة.. فأي السيناريوهات المحتملة للردّ الإسرائيلي وماذا عن ردّ الفعل الإيراني؟
الردّ الإسرائيلي.. سيناريوهات وتقييم
على مدار الأيام الثمانية الأخيرة لا صوت يعلو في الداخل الإسرائيلي على صوت الانتقام والرد على الهجوم الصاروخي الإيراني على تل أبيب، فيما أشار المتحدث باسم جيش الاحتلال، دانيا هاغاري، أن “إسرائيل” سترد لكن عندما يحين الوقت المناسب فيما أشارت مصادر سياسية وعسكرية بأن الرد سيكون قويًا وخارج التوقعات.
وعلى عكس العادة، لم يأتِ الرد الإسرائيلي سريعًا كما كان في السابق، حيث تعكف حكومة الحرب على دراسة وتقييم الخيارات والسيناريوهات المحتملة، في ظل التحفظات الأمريكية بشأن تجاوز الرد للخطوط الحمراء، وإدخال المنطقة في حرب مفتوحة قد تعرض مصالح واشنطن وتل أبيب معًا للتهديد.. وهناك 3 سيناريوهات رئيسية تحدد حجم ومستوى الرد الإسرائيلي:
أولًا: استهداف المنشآت النووية
الخيار الأبرز والأكثر حضورًا الآن على موائد النقاش، هو قصف المنشآت النووية الإيرانية وضرب مشروعها القومي، إذ يرى البعض أن الظروف الراهنة مواتية تمامًا لتصفية الحسابات القديمة مع إيران وبرنامجها النووي، وقد لا تتكرر الفرصة مرة أخرى، حيث يعاني محور طهران من ارتباك وضعف واضح بسبب استنزاف قدراته وإمكانياته منذ بداية حرب غزة.
لكن قد ينجم عن مثل هذا الخيار، والذي يمكن وصفه بـ”الجنوني”، مخاطر غير محسوبة ومفاجآت لم تكن متوقعة، هذا بخلاف الرفض الأمريكي له، وهو ما دفع صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية إلى الإشارة في تقرير لها، إلى أن محاولة “إسرائيل” تدمير المشروع النووي الإيراني -حال عدم الموافقة الأمريكية- قد يكون مستحيلًا لعدد من الاعتبارات.
من هذه الاعتبارات بأن المواقع النووية الإيرانية مدفونة عميقًا تحت الأرض ومحمية بطبقات صخرية وخرسانية مسلحة، ويصعب الوصول إليها وتدميرها بالقصف التقليدي، وأن طائرات إف-35-لايتنينغ المتوقع استخدامها من قبل جيش الاحتلال غير قادرة عل حمل القذائف الضخمة القادرة على اختراق الموقع المحصنة على عمق 60 مترًا أو أكثر، وكذلك إف-15 وإف-16.
كما أن مثل تلك العملية بحاجة إلى سرب كبير من الطائرات (100 طائرة حسب الصحيفة) تطير لمسافة طويلة (1600 كيلومتر على الأقل)، وتبقى معرضة لمخاطر إسقاطها أو سقوطها، بجانب ما تحتاجه من جهد عسكري هائل ومقاتلات تحمي القاذفات الإسرائيلية، ما قد يحولها إلى معركة جوية كبيرة لا تُعرف نتائجها.
وتشير الصحيفة إلى أنه لو استخدمت “إسرائيل” الصواريخ (مثل صاروخ أريحا الذي لم يُستعمل من قبل) لن تكون قادرة على إحداث أي ضرر بالمنشآت النووية، كما أنها لو استعملت مقاتلات إف-35 الشبح المتطورة قد تكون عرضة للإسقاط بمنظومات إس-300، خاصة مع الأنباء التي تشير إلى تزويد روسيا لإيران بأنظمة دفاع جوي متطورة.
أما في حال فشل الموجة الأولى في تحقيق أهدافها وتدمير القواعد النووية، فإنه من الصعب عمليًا تنفيذ موجة ثانية مع بُعد المسافة وفي ظروف قتال تكون فيها منظومات الدفاع الجوي الإيرانية فعّالة، علاوة على بعض العقبات اللوجستية مثل حاجة الطيران الإسرائيلي لعبور مجالات جوية لدول قد تكون من بينها السعودية والأردن والعراق وسوريا، وربما حتى تركيا، وهو ما قد لا تسمح به هذه الدول، أو يعرّض العملية للانكشاف.
ولعلّ هذا السيناريو هو الأصعب والأكثر حرجًا للجميع، رغم عدم ممانعة نتنياهو، المنتشي بالنجاحات المحققة على الجبهة اللبنانية، والمدفوع من اليمين المتطرف، من اللجوء إلى هذا الخيار الذي تحذّر الولايات المتحدة وتضغط لأجل استبعاده من قائمة الخيارات المدرجة على طاولة النقاش.
ثانيًا: قصف منشآت الطاقة والنفط
السيناريو الثاني يتعلق باستهداف المرافق والمنشآت الاستراتيجية المتمثلة في صناعات النفط والغاز والموانئ وبناها التحتية، في محاولة لضرب الاقتصاد الوطني الإيراني الذي يعتمد في المقام الأول على عوائد تلك الصناعات، وهو السيناريو الذي ربما يكون مكلفًا إيرانيًا ويزيد من تأزُّم المشهد الداخلي برمّته.
لكن في المقابل هناك من يرى أن قصف مصافي النفط وغيرها من منشآت ومقدرات الطاقة الإيرانية، من شأنه أن يُحدث حرائق هائلة قد تؤدي إلى كوارث بيئية تتحمل “إسرائيل” مسؤولتها، هذا بخلاف ما يمكن أن يترتب عن ذلك من هزّة عنيفة في أسواق الطاقة، بما يقود إلى ارتفاع جنوني في أسعار النفط والغاز، وهو ما يشكّل تهديدًا لـ”إسرائيل” والدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة التي لم تتعافَ بعد من أزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
ويرى البعض أن استهداف المنشآت النفطية وإن كان سيؤثر على الاقتصاد الإيراني، لكنه لن يُحدث الضرر المطلوب في قدرات إيران العسكرية ومشروعها النووي، هذا بخلاف احتمالية حصولها على الدعم الاقتصادي المطلوب من حلفائها في المعسكر الشرقي، وعلى رأسه الصين وروسيا.
ثالثًا: استهداف أهداف عسكرية
أما السيناريو الثالث والذي ربما يكون الأقرب، فيتعلق بقصف أهداف عسكرية للحرس الثوري ومقره الرئيسي في طهران، وقواعد القوات الجوية والدفاع الجوي ومراكز القيادة وأنظمة الاتصالات والاستخبارات، بجانب استهداف أذرع إيران في المنطقة، في اليمن والعراق ولبنان وسوريا.
ويقع ضمن هذا السيناريو شنّ حرب سيبرانية إلكترونية كالتي شهدها لبنان حيث تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية، وإصابة الدولة بالشلل التام إثر استهداف بناها التحتية مثل محطات الوقود، وحركة السكك الحديد، والموانئ، ومحطات الطاقة والمطارات، فضلًا عن استراتيجية الاغتيالات واستهداف كبار القادة العسكريين والسياسيين.
ويرجع محللون تأخُّر الرد الإسرائيلي إلى تقييم بنك الأهداف وقياس حجم ومستوى وتداعيات الضربة، ودراسة الرد الأمثل، ومراعاة عدم الانفلات وخروج الوضع عن السيطرة، والتورُّط في حرب واسعة لا يمكن إيقافها، وذلك بالتنسيق مع الحليف الأمريكي الذي يتحفّظ على بعض السيناريوهات، وإن كان داعمًا وبقوة لخطوة الرد بصفة عامة، ومنح تل أبيب الضوء الأخضر لذلك.
إيران تهدِّد
في الجهة الأخرى قابلت طهران التهديد بتهديد مماثل، حيث حذّر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، من أي ردّ إسرائيلي محتمل، مؤكدًا على أن صواريخ إيران “يمكنها الوصول إلى كل أهدافها”، وأضاف: “الإسرائيليون يعلمون أن صواريخنا يمكنها الوصول إلى كل أهدافها”، وأن على “الكيان الصهيوني ألا يعبث مع قدراتنا وعدم اختبار قدرة إيران”، حسب تعبيره.
وفي سياق التهديد ذاته، نقلت وكالة “تسنيم الدولية للأنباء” الإيرانية عن مصدر مطّلع في القوات المسلحة الإيرانية، قوله إن “خطة الرد اللازم على أي تحرك محتمل للصهاينة جاهزة تمامًا، وإذا تحركت إسرائيل فلن يكون هناك شكّ في تنفيذ الضربة المضادة الإيرانية”، مضيفًا أن هناك أكثر من سيناريو للردّ الإيراني حسب الاستهداف الإسرائيلي، وأن بنك أهداف إيران لديه أهداف كثيرة داخل الكيان الإسرائيلي، وأن عملية “الوعد الصادق 2” كشفت عن قدرة طهران على تدمير أي نقطة تريدها وتسويتها بالأرض على حد قوله.
الوكالة ذاتها كانت قد نقلت عن مصادر عسكرية مطّلعة أن هناك ما لا يقلّ عن 10 سيناريوهات أعدّتها وحدات التخطيط بالقوات المسلحة الإيرانية، للردّ على أي هجوم إسرائيلي محتمل، وأن تلك السيناريوهات جاهزة وقابلة للتحديث، مشددًا على أن الردّ الإيراني قد يكون أكثر شدة وليس ضروريًا أن يكون بالمثل على مستوى الرد الإسرائيلي.
وأضافت تلك المصادر وبلُغة تحذيرية أن الجغرافية الإسرائيلية -عكس الإيرانية- محدودة للغاية وبنيتها التحتية أقل حساسية، وهو ما يمكن أن يعزز من الخسائر والتداعيات والآثار المحتملة حال استهدافها إيرانيًا، مضيفة أن العديد من الدول أعلنت لإيران عدم مشاركتها في الضربة الإسرائيلية المتوقعة، لافتة إلى أنه وفي كل الأحوال أي دولة ستساعد تل أبيب في عمل محتمل ستتجاوز الخط الأحمر الإيراني وستتكبّد الخسائر، حسبما نقلت الوكالة الإيرانية.
حراك دبلوماسي للاحتواء المبكر
تعلم طهران جيدًا أن الردّ الإسرائيلي على ضربتها الأخيرة آتٍ لا محالة، وأن القرار بذلك تمّ اتخاذه بعد نصف ساعة من انتهاء قصفها تل أبيب، لكنها تحاول قدر الإمكان احتواء هذا الرد وإخضاعه لقواعد الاشتباك التقليدية وعدم تجاوزه للخطوط الحمراء، لا سيما منشأتها النووية، التي لو تمّ استهدافها ستضع نظام الملالي في مأزق كبير، كونها بمثابة إعلان حرب شاملة في المنطقة، لذا جاءت التحذيرات بتلك اللهجة التصعيدية.
وفي سبيل احتواء هذا التصعيد، بذلت طهران خلال الأيام الماضية جهودًا دبلوماسية مكثفة، لأجل تدشين رأي عام إقليمي ودولي ضاغط على تل أبيب وواشنطن لتلجيم نتنياهو، وتجنيبه الرضوخ لطموحاته الجنونية التي يغذّيها اليمين المتطرف، والهادفة إلى توسيع دائرة الصراع، رأسيًا وأفقيًا، على أمل تدشين قواعد اشتباك جديدة ومعادلة ردع مغايرة تضمن بها “إسرائيل” أمنها واستقرارها.
وكان وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، قد أجرى عدة زيارات لبعض العواصم، بداية من بيروت وبعدها دمشق، وصولًا إلى الرياض التي من المقرر أن يزورها اليوم، فيما استقبل رئيس الجمهورية الإيرانية مسعود بزشكيان قبل أيام وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في الدوحة، للتأكيد على ضرورة تجنُّب التصعيد في المنطقة واحتواء التوتر قبل فوات الأوان.
كما التقى عراقجي في نيويورك عددًا من نظرائه من روسيا والعراق وسلطنة عُمان وجمهورية أرمينيا وكازاخستان وجمهورية قيرغيزستان وبولندا وألمانيا وكوريا الجنوبية وهولندا وأستراليا والنمسا وقبرص وبوركينا فاسو وبروناي دار السلام، فيما أجرى عدة اتصالات ببعض وزراء الخارجية في المنطقة وعلى رأسهم نظيره المصري.
وفي مباحثاته الهاتفية مع وزراء خارجية بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أكّد عراقجي أن بلاده استخدمت فقط حقها في الدفاع المشروع وفقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، واستهدفت حصرًا القواعد العسكرية والأمنية للكيان الصهيوني، منوهًا أنه إذا ما أرادت تل أبيب القيام بأي عمل انتقامي فإن رد طهران سيكون أشد.
واختتم حديثه بأن إيران لا تسعى إلى تصعيد التوتر أو الحرب، رغم أنها لا تخشى الحرب، على حد تعبيره، داعيًا جميع الدول إلى بذل الجهود لتحقيق وقف إطلاق النار ومنع هجمات الكيان الصهيوني وتفاقم التوترات في المنطقة، خاصة في لبنان وغزة، حسبما ذكرت “وكالة تنسيم” الإيرانية.
تتأهّب المنطقة بأسرها ترقبًا لما يمكن أن تشهده خلال الأيام وربما الساعات القادمة، في ظل رغبة نتنياهو ويمينه المتطرف في كسر كل القواعد دون النظر إلى تداعيات هذه الخطوة، وسط مساعٍ حثيثة من واشنطن وحلفائها من جانب، وطهران وحلفائها من جانب آخر، لضمان التزام الرد المتوقع بالمنطقة الدافئة المتفق عليها، علنيًا أو ضمنيًا، وحتى ذلك فالساحة قابلة لكافة السيناريوهات.