“لقد طعنت شخصًا بالسكين ثم تعرض عليه التفاوض عليك أولاً أن تنزع السكين”، العبارة للرئيس الإيراني حسن روحاني، أما السكين فغرزت باللحم الحي للاقتصاد الإيراني، بعد أن بدأ سريان العقوبات في أغسطس الماضي، وثمة حزمة أخرى في الـ5 من نوفمبر الحاليّ، وقد وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إيران قبل تطبيقها بساعات أمام خيارين إما تغيير نهجها أو مواجهة تدهور اقتصادها.
وبينما تراهن الإدارة الأمريكية على تشديد العقوبات وشل الاقتصاد الإيراني لإجبار مسؤولي البلاد على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والقبول باتفاق جديد يلقى قبولاً لدى ترامب ويصحح عيوب الاتفاق النووي المبرم في 2015، أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن العقوبات الأمريكية قد يكون لها تداعيات اقتصادية لكنها لن تغير من سياسات طهران.
مع تصاعد توظيف الدول للعقوبات في التفاعلات الدولية اختلفت آراء الخبراء والباحثين عن كيفية تأثير العقوبات الاقتصادية على الدول
هكذا حال المواجهة الأمريكية الإيرانية: ترقب لإعادة فرض عقوبات أمريكية واسعة النطاق على قطاعي النفط والبنوك الإيرانيين، وأسفٌ أوروبي، وتحرك إيراني، وتحذير أمريكي أطلقه ترامب، لكن خامنئي اعتبر أن ترامب ألحق العار ببلاده، وأن سياسته أدت إلى تراجع هيبة الولايات المتحدة عالميًا في المجالات الاقتصادية والعسكرية.
يُثير ذلك جدلاً متصاعدًا بشأن مشروطيات فاعلية العقوبات ومدى تسببها في تغيير سلوك الدول، خاصة مع اقتراب تطبيق حزمة جديدة من العقوبات الأمريكية على إيران في نوفمبر 2018، ومع تصاعد توظيف الدول للعقوبات في التفاعلات الدولية اختلفت آراء الخبراء والباحثين عن كيفية تأثير العقوبات الاقتصادية على الدول.
العقوبات كأداة لتغيير سلوك الدول
أصبحت العقوبات أداة أساسية ضمن استجابات الدول الغربية للعديد من التحديات الجيوسياسية بما في ذلك البرنامج النووي لكل من كوريا الشمالية وإيران، وتدخل روسيا في أوكرانيا، أو كرد على انتهاك القوانين الدولية، مثل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا إثر اتهام بريطانيا للمخابرات الروسية بتسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته في مارس الماضي من خلال استخدام مادة الأعصاب “نوفيتشوك” المُنتَجة في روسيا.
وبتعدد أنماط العقوبات الدولية بين الشاملة والذكية – التي تشمل حظر شراء السلاح أو تجميد الأصول المالية أو العقوبات الدبلوماسية أو حظر الطيران – يبقى الخلاف بشأن قضية جدوى العقوبات كوسيلة ناجعة لدفع حكومة بلد آخر إلى تغيير سلوكها أكثر قدمًا من التفنن في معاقبة الدول، ففي عام 432 قبل الميلاد حاول رجل الدولة اليوناني بريكليس ممارسة الضغط بفرض عقوبات اقتصادية.
جرى فحص نحو 200 حالة تمتد من الحرب العالمية الأولى إلى بداية هذا القرن، وتوصل الباحثون إلى نتيجة أن “نحو ثلث العقوبات بالنظر إلى تغيير السلوكيات كانت فعالة”
وفي محاولة قام بها باحثون بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية لقياس مدى فعالية العقوبات، جرى فحص نحو 200 حالة تمتد من الحرب العالمية الأولى إلى بداية هذا القرن، وتوصل الباحثون إلى نتيجة أن “نحو ثلث العقوبات بالنظر إلى تغيير السلوكيات كانت فعالة”، إلا أن هذه النسبة تبقى مثيرة للجدل، فبعض الباحثين يرون أن النسبة منخفضة جدًا، فقط في حدود نحو 5%.
ففي الحالات التي يتم فيها في آن واحد ممارسة ضغط عسكري لا يتضح في الغالب ما مساهمة العقوبات في تغيير السلوك، أضف إلى ذلك أن العقوبات يمكن أن يكون لها أهداف مختلفة، فمرة يُراد لها أن تغير السلوك، ومرة تقليص مجال تحرك بلاد، وأحيانًا تكون نوعًا من العقاب ضد خرق قوانين عامة.
لا يبدو أن سياسة العقوبات الحاليّة مصمَّمة للاحتواء على الرغم من أهدافها المعلنة
ويرى بعض المحللين أن العقوبات أداة غير فعالة في السياسة الخارجية، حيث إنها لم تُحقق في كثيرٍ من الأحيان الأهداف المبتغاة منها، بل كان لها – في كثيرٍ من الأحيان – تأثير عكسي، حيث تدعم النزعة القومية، وتدفع المواطنين إلى التضامن مع النظام السياسي في الدولة المستهدفة، فضلًا عن أنها قد تؤدي إلى حدوث كوارث إنسانية.
فيما يجادل البعض الآخر بأن “العقوبات الذكية” تحقق نجاحًا أكبر من العقوبات الشاملة المفروضة على إيران، فضلًا عن ذلك فإن العقوبات الاقتصادية قد تنجح في تحقيق التأثير الاقتصادي المرغوب، بيد أنها قد لا تتجاوز ذلك لتغيير سلوك الدولة ذاتها، ولكنها تمثل تعبيرًا احتجاجيًّا عن عدم الرضا عن تصرفات أو أنشطة دولة ما.
وبحسب كريستوف دازه، خبير الشؤون السياسية في جامعة فرانكفورت، فإنه “ليس هناك دولة ستقول بأننا أُرغمنا بسبب العقوبات على العمل على هذا النحو، فكثيرًا ما يتم تعليل ذلك بشكل مختلف، وبالتالي يصعب التحقق من المفعول الدقيق للعقوبات”، ويمكن على الأقل التأكيد أن العقوبات لها مفعول أكبر على الديمقراطيات أكثر من على الأنظمة الاستبدادية، ففي الديمقراطيات توجد قنوات يمكن من خلالها أن يعبر السكان عن استيائهم وبالتالي ممارسة الضغط على الحكومة.
بحسب تحليل منشور في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” في سبتمبر 2018، فإن سياسة العقوبات في صيغتها الحاليّة مصمَّمةٌ لتغيير سلوك إيران عبر تغيير النظام
وبالنظر إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وحتى الاتحاد السوفيتي، فإنها تعطي انطباعًا بأن واشنطن تعتمد على إحدى الإستراتيجيتين عند محاولة “تغيير السلوك”: إما الاحتواء أو تغيير النظام، وتمثل الإستراتيجية الأولى حلاً وسطيًا بين الانفراج والتراجع، حسبما اقترح الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان في الخمسينيات من القرن المنصرم بهدف احتواء الاتحاد السوفيتي.
ومع ذلك، لا يبدو أن سياسة العقوبات الحاليّة مصمَّمة للاحتواء، على الرغم من أهدافها المعلنة، فمن خلال الخروج من الصفقة النووية مع إيران، رفض ترامب فرصة احتواء إيران مستخدمًا المفاهيم نفسها، أمّا العقوبات التي ستُنفّذ في هذا الشهر فتشير إلى أن التداعيات التي ستترتب عليها ستزيد من عدم الاستقرار الإقليمي أكثر مما ستغير سلوك إيران.
إيران نموذجًا
تقايض إدارة ترامب وقف العقوبات الاقتصادية بتخلي طهران عن برامج عسكرية من ضمنها تطوير الصواريخ البالستية وإعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي الإيراني بشروط مشددة نشرتها وزارة الخارجية الأمريكية عبر حسابها في تويتر، في مقطع فيديو تضمن قائمة من 12 شرطًا تراها واشنطن ضروريةً، وعلى إيران الاستجابة لها مقابل رفع العقوبات.
العقوبات تأتي هذه المرة مفتقرة لتأييد بعض حلفاء واشنطن، فهناك الاتحاد الأوروبي والرهان عليه سياسي أكثر منه اقتصادي
وبحسب تحليل منشور في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” في سبتمبر 2018، فإن سياسة العقوبات في صيغتها الحاليّة مصمَّمةٌ لتغيير سلوك إيران عبر تغيير النظام، فمن خلال إضعاف النظام عن طريق العقوبات والضغوطات الأخرى، تكون هذه الإستراتيجية قد بدأت أساسًا في إشعال فتيل أزمة اقتصادية قد تحثّ الشعب الإيراني على الإطاحة بقادته.
ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تصريحات للرئيس الأمريكي في مقابلة له مع “بلومبرج” في أغسطس 2018، قال فيها: “النظام الإيراني قد ينهار بسبب سياسات إدارته”، بيد أنه بحسب التحليل فإن العقوبات عادةً لا تحقق مثل هذه الأهداف، كما أن تأثيرها في إحداث تغيير طويل الأمد لسلوك النظام منخفض.
يضاف إلى ذلك أن العقوبات تأتي هذه المرة مفتقرة لتأييد بعض حلفاء واشنطن، فهناك الاتحاد الأوروبي والرهان عليه سياسي أكثر منه اقتصادي، فالأوروبيون ضد عقوبات ترمب التي يعتبرونها فعلاً أحاديًا ليسوا ملزمين به، بل إنهم أكدوا إصرارهم على حماية شركاتهم التي تتعامل مع إيران.
العقوبات تبقى صالحة لإلحاق الضرر الاقتصادي بأي بلد وليس تغيير نظامها
لكن آخرين يقولون إن ثمة خيار آخر تعتبره إيران رأسمالها الرمزي الأثمن والأخير، وهو الصمود، فمنذ تحولها إلى دولة إسلامية عام 1979، وهي تعاقب وتحاصر بدرجة أو بأخرى من دون أن تنهار، وفي “هناك حقيقة أساسية في هذا السياق: في إطار هذا التحدي المستمر منذ 40 عامًا، الطرف الخاسر هو الولايات المتحدة والرابح هو الجمهورية الإسلامية”.
ورغم عدم الوضوح عما إذا كان بالإمكان تحقيق شروط واشنطن، فإن العقوبات تبقى صالحة لإلحاق الضرر الاقتصادي بأي بلد، وكوبا وكوريا الشمالية مثالان جيدان على ذلك، إلا أن تغيير السلوك لم يطرأ عليهما بخلاف إيران، فبعد عقوبات عام 2010 والاتحاد الأوروبي عام 2012 انهارت صادرات النفط بقوة وتراجعت المردودية الاقتصادية إلى الثلث، وقد يفسر ذلك التوصل في 2015 إلى تفاهم عن النزاع النووي.
العقوبات الأمريكية على إيران سوف تؤثر على الاقتصاد والمجتمع لكنها لن تصل إلى حد انهيار الدولة أو إسقاط النظام أو إحداث ثورة شعبية لا تستطيع السلطة السيطرة عليها
لكن هذه المرة يخرق ترامب سمتين أساسيتين للعقوبات الناجحة، فمن جهة هو يخلط بين أهداف عقوبات مختلفة، فإذا لم يكن واضحًا بالنسبة إلى إيران متى ستُلغى العقوبات، فإن مفعول التحفيز للعقوبات ضيق، ومن جهة أخرى، يكون من المهم بالنسبة إلى عقوبات فعالة أن توجد جبهة عقوبات موحدة وأن لا تنقسم البلدان التي تفرض عقوبات.
يؤكد ذلك ما خلصت إليه الندوة التي نظمها مركز الجزيرة للدراسات ومركز دراسات الخليج بجامعة قطر، فقد خلصت إلى جملة من المعطيات، من أبرزها أن العقوبات الأمريكية على إيران سوف تؤثر على الاقتصاد والمجتمع لكنها لن تصل إلى حد انهيار الدولة أو إسقاط النظام أو إحداث ثورة شعبية لا تستطيع السلطة السيطرة عليها.
وأفاد المتحدثون أن هذه العقوبات قد لا تغيِّر من السياسة الخارجية الإيرانية إزاء الإقليم كما تهدف الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها، وعزوا ذلك إلى أن الأمن القومي الإيراني يبدأ من خارج حدود إيران، ومن ثمَّ فإن إيران سوف تستمر في نهجها الذي تعتقد أنه يحمي هذا الأمن، وأن الميزانية المخصصة لتحقيق هذا الأمن لن تتأثر بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن العقوبات.
خيارات إيران
يعتمد الاقتصاد الإيراني بشكل رئيسي، على أموال بيع النفط والغاز، وهو الأمر الذي لن يكون سهلاً عليها أن يصل بيعها من النفط إلى “صفر” بفعل العقوبات، في الوقت نفسه أكد وزير النفط الإيراني بيجن نامدار زنجنة، في سبتمبر الماضي، أن إيران ستجد “طرقًا أخرى” للحفاظ على مستوى صادراتها النفطية.
ومن خلال البحث في حيل طهران القديمة، والخيارات الجديدة التي أطلقتها مؤخرًا يمكن القول إن المرشد الإيراني علي خامنئي، سيكون أمام 5 حيل للحفاظ على مستوى الإنتاج وإجهاض تأثير هذه الحزمة من العقوبات المؤلمة بالنسبة لطهران.
بدأت إيران بتطبيق مجموعة من الإجراءات لمواجهة تداعيات العقوبات الأمريكية
في المقابل، تعتقد واشنطن أنها بفرض العقوبات ستجبر النظام الإيراني على الحد من نشاطه في المنطقة – كما تقول – والقبول باتفاق جديد غير ذلك الذي دأبت على وصفه بـ”المروع”، ترد طهران التي تملك أوراق ضغط إقليمية لا يستهان بها ولها نفس طويل في المفاوضات سنرى من سيرضخ للضغوط في الآخر.
وفي سبيل ذلك بدأت إيران بتطبيق مجموعة من الإجراءات لمواجهة تداعيات العقوبات الأمريكية، منها ما هو على المستوى الداخلي، مثل تشكيل غرفة عمليات الحيوية لمواجهة الحرب الاقتصادية، وتأمين السلع الحيوية، وتخفيف الضغط على النقد الأجنبي.
وعلى المستوى الخارجي، عززت طهران علاقاتها مع تركيا وباكستان وأفغانستان إلى جانب العراق، في محاولة لإنشاء حزام إقليمي آمن وداعم لها، لإيجاد حالة سياسية جديدة داعمة لها في مواجهة ضغوطات واشنطن، غير أن هذه الإجراءات لا يبدو أنها ستعزز قدرة إيران على احتواء العقوبات الأمريكية.
تعول إيران بشكل كبير، على الآلية المالية الجديدة التي حددتها أوروبا في سبتمبر الماضي، والتي تشبه نظام المقايضة، لمواصلة تجارتها مع إيران، والالتفاف على العقوبات الأمريكية، ورغم أن مدى فعالية هذه الآلية لمواجهة العقوبات غير واضح حتى الآن، إلا أن طهران لا تجد خيارًا آخر أمامها.
في حال عدم نجاح هذه الإجراءات في تعزيز قدرتها على احتواء تداعيات العقوبات، فإن تجربتها التاريخية تشير إلى تفضيلها الحرب بالوكالة
لذلك في حال عدم نجاح هذه الإجراءات في تعزيز قدرتها على احتواء تداعيات العقوبات، فإن تجربتها التاريخية تشير إلى تفضيلها الحرب بالوكالة، وفي هذه السياق ستختبر عدة خيارات أكثر حدة لمواجهة الضغوط الأمريكية من خلال وكلائها وليس مباشرة.
وباستثناء توجيه ضربات استباقية مباشرة للأكراد الإيرانيين، ستعمل من خلال وكلائها على خلق مشاكل في مضيق باب المندب بدلاً من إغلاق مضيق هرمز، وتوجيه ضربات للمصالح الأمريكية في سوريا والعراق، ودعم عناصر من طالبان لتوجيه ضربات للمصالح الأمريكية في أفغانستان.
وإذا كانت طهران قد صرحت رسميًا بأنها ليست مثل كوريا الشمالية، كما أوصى خامنئي نفسه بعدم التفاوض مع واشنطن، فإن روحاني أيضًا يرفض إجراء محادثات مع الولايات المتحدة في ظل العقوبات: “الولايات المتحدة تعيد فرض العقوبات على طهران وتنسحب من الاتفاق النووي ثم تريد إجراء محادثات معنا، دعوة ترمب لإجراء محادثات مباشرة للاستهلاك المحلي فحسب في أمريكا وإثارة الفوضى في إيران”.