الموشحات الأندلسية
كل عربي أصيل، وما يخرج منه يتميز بتلك الأصالة والجمال، من الأهازيج العربية إلى النثر، ومن الشعر إلى الموسيقى والمزج بينهما في تنوع رائق من اختلاف المعاني والمفردات لتعبرعن الإنسان ومشاعره وحياته اليومية، وجاءت الموشحات الأندلسية التي ظهرت للمرة الأولى في بلاد الأندلس خلال القرن الـ3 الهجري عندما أقدم الشعراء الأندلسيون على إحداث تغيير في شكل القصائد العربية التقليدية لكسر رتابة القصيدة ذات القافية الواحدة والوزن الواحد، لتخرج من عباءة القصائد العربية تلك الموشحات المميزة للغاية التي بقيت حتى يومنا هذا دليلًا على أصالة اللغة وتميزها ومرونتها.
أبلغ لغرنـاطـة السـلامْ
وصفْ لها عهديَ السليمْ
فلو رعى طرفها ذمـام
ما بت في ليلـة السـليمْ
تأثرت الموشحات الأندلسية بالموسيقى الوافدة والمحلية، منتجة حالة إبداعية جديدة ذات قيمة فنية عالية الصياغة والتذوق، حيث يكون اللحن متعدد المقامات والأوزان الإيقاعية، وقد صمد هذا الفن لأكثر من 5 قرون حتى سقوط غرناطة عام 1492.
ولعل أحد أهم الأسباب التي حافظت على هذا التراث من الاندثار والاختفاء هو انتقالها إلى بلاد المغرب العربي ومصر وبلاد الشام قبل سقوط الأندلس، مما حافظ عليها وطورها وأوصلها إلينا اليوم، لتبقى فنًا عربيًا أصيلًا ليس فيه عناصر دخيلة من الشرق أو الغرب، وتحتوي على كنوز من المقامات والأوزان والجماليات الموسيقية، ما يجعل أداءها حكرًا على الفنانين المقتدرين غناءً وعزفًا حتى زماننا الحاليّ، ورغم التطوير الذي أدخله بعض الموسيقيين على الموشحات، فإنها حافظت على روحها الخاصة ونكهتها المميزة، حيث إن المستمع العادي يميزها فورًا حال سماعها.
تعتبر الموشحات الأندلسية فنًا مستحدثًا له فلسفة خاصة به ويعتمد على قواعد تقنية تبتعد عن بحور الشعر المعروفة، تمتزج فيها الفصاحة مع المفردات العامية بوضوح، وقد تأثر فيها الشعراء العرب بالأغاني الإسبانية الشعبية المتحررة من الوزن والقافية وسهولة الكلام الذي يسر الغناء والتلحين للموشحات الأندلسية، وهي من القوالب الغنائية القابلة للغناء الجماعي الذي يظهرها بصورة أبهى وأكثر جمالية وقبولًا وطربًا من الشعر العربي المعروف، وأكثر قابلية للتداول والتوارث والتحول إلى تراث، ولذلك يصعب في كثير من الأحيان معرفة من الملحن الأصلي للموشح الأندلسي المتداول حتى يومنا هذا.
ليتَ شعري أي شيءٍ حرما
ذلك الوردَ على المُغتَرِسِ
أنفدَتْ دمعيَ نارٌ في ضرامْ
تَلْتظي في كلِ حِينٍ ما يشا
هيَ في خَديه بَردٌ وسلامْ
وهي ضرٌ وحريقٌ في الحشا
أتقي منه على حكمِ الغرام
اسدًا وردًا، وأهواهُ رشا
قلتُ لما أن تبدى معلما
و هو من ألحاظهِ في حرسِ
أيها الآخِذُ قلبي مَغنَما
اجعلِ الوَصلَ مَكانَ الخُمُسِ
شعراء الموشحات الأندلسية
مقدم بن معافى القبري هو أول الشعراء العرب الذين نظموا الموشحات الأندلسية، من مواليد مدينة قبرة التي تقع بقرب مدينة قرطبة بالأندلس، ويشير المؤرخون إلى أن الشاعر يوسف بن هارون الرمادي هو الذي رسخ أسس فن الموشحات الأندلسية بعد القبري الذي كان أول من نظم الموشحات، ومعه الشاعر أبو بكر عبادة بن ماء السماء، ومن أشهر شعراء الموشحات الأندلسية أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد وعبادة القزاز وابن سهل الأندلسي صاحب موشح “هل درى ظبي الحمى” وعبد الله بن الخطيب وزير بنى الأحمر صاحب موشح “جادك الغيث” والملقب بذي الوزارتين الأدب والسيف وكان شاعرًا وأديبًا وطبيبًا وفيلسوفًا ومؤرخًا أيضًا.
وصلت الموشحات إلى بعض الموسيقيين العرب أواسط القرن الـ19 فطوروها وأنتجوا موشحات جديدة عرفت بإيقاعها الرخيم الهادئ
يضم الموشح عادة 3 أقسام، دورين وخانة كل منها يكون بلحن مختلف، والختام بالخانة الأخيرة غالبًا ما يكون قمة اللحن من حيث الاتساع والتنويع، والفقرة في الموشح يطلق عليها “بيتًا” وتتكون من أشطار عدة وليس شطرين فقط كما في القصائد العادية، وتتوزع الفقرة على جزأين يسمى الأول “الغصن” ويأتي على قافية موحدة لكنها تختلف من فقرة إلى أخرى، وأما الجزء الثاني فيسمى “قفل” ويأتي على قافية واحدة تتوافق مع بقية أقفال الفقرات التالية، ويسمى القفل الأخير في الموشح “خرجة” وهو الأساسي من بين فقرات الموشح.
ما لعيني عَشِيَت بالنظر
أنكرَت بعدَك ضوءَ القمر
فإذا ما شئت فاسمع خبري
عَشِيَت عينياي من طول البُكا،
وبـكى بعضي على بعضي معي!
وقد ساعدت الطبيعة الخلابة والحياة الناعمة التي تميزت بالبذخ والرفاهية في بلاد الأندلس على إضفاء ثراء خاص بمفردات الموشحات الأندلسية، وكانت سببًا رئيسيًا في كثرة مجالس الطرب مما ترتب عليه السعي إلى التجديد الدائم ومواكبة التغيرات الإجتماعية في الأندلس، ومن ناحية أخرى جاء انتقال المغني زرياب إلى الأندلس سببًا في إضافات متنوعة للموسيقى والغناء الأندلسي، وبذلك كانت الموشحات الأندلسية استجابة لواقع فني وثقافي وطبيعي واجتماعي وفكري متجدد.
ورغم أهمية وجمال الموشحات الأندلسية فإن كثيرًا ممن أرخوا للأدب الأندلسي لم يشيروا إليها باعتبارها خارج نطاق الأدب الرفيع الذي يستحق التأريخ، ورغم ذلك وصلتنا الموشحات الأندلسية وذاع صيتها في العالم أجمع وانتشرت رغم تجاهل كثير من المؤرخين لها، كما أشار لذلك الكاتب صلاح فضل في كتابه “طراز التوشيح”.
الموشحات في العصر الحديث
وصلت الموشحات إلى بعض الموسيقيين العرب أواسط القرن الـ19 فطوروها وأنتجوا موشحات جديدة عرفت بإيقاعها الرخيم الهادئ وكلماتها القوية التي تقترب من الموشحات الأندلسية الأصل، وكان من هؤلاء الموسيقار المصري محمد عثمان والمطرب عبده الحامولي الذي كان سببًا في انتقال الموشحات من المجالس الشعبية إلى القصور والملوك.
وقد انتقلت الموشحات إلى الأوساط الشعبية وظهر عدد من الفنانين الذين أضافوا الكثير إلى هذا الفن، كان من أشهرهم داوود حسين وسلامة حجازي وسيد درويش الذي اشتهر بغنائه للموشحات وإبداعه فيها ويعد آخر من ألف الموشحات، ولذلك لم يحدث تطور بعده في هذا الفن ولم يألف أحد بعده موشحًا آخر، فتوارى فن الموشحات الأندلسية فترة من الزمن حتى أعيد غناؤه مجددًا بصفته مادة تراثية ليعود تألقه من جديد على الساحات الفنية، فكانت الموشحات الأندلسية تُغنى في مصر من فرقة الموسيقى العربية بقيادة المايسترو عبد الحليم نويرة، كما غناها كذلك كورال سيد درويش في مدينة الإسكندرية بقيادة المايسترو محمد عفيفي.
جادك الغيث إذا الغيث همى
يازمان الوصل في الأندلسِ
لم يكن وصلك إلا حُلما
في الكرى أو خُلسة المختلسِ
ورغم أن تاريخ الموشحات الأندلسية يعود إلى أكثر من ألف عام، فإنها ما زالت حية حتى يومنا هذا بغناء بعض الفنانين المعاصرين لها مما أدى إلى إحيائها وانتشارها واستمرارها حتى الآن، منها موشحة “جادك الغيث” للشاعر الأندلسي لسان الدين الخطيب التي غنتها الفنانة اللبنانية فيروز، وشاعت وانتشرت تلك الموشحة لقوة كلماتها والقدرة البليغة فيها على التصوير.