لا بدّ أنّك تساءلت مرةً عن السبب الذي يجعل بعض الأشخاص راضين من تناول ملعقة واحدة من قطعة الحلوى ثمّ يشعر بالرضا ويتوقّف، بينما ينتهي الأمر بك إلى تناول قطعة كاملة أو اثنتين في نفس الجلسة، قبل أن تنتابك مشاعر الندم والبؤس حيال سلوكك، أليس كذلك؟ أو هل سبق وأنْ فكّرت مطوّلًا في الوقوف عند أحد مطاعم الوجبات السريعة في طريقة عودتك من العمل كخيارٍ أسرع وأسهل من أنْ تقوم بتحضير وجبتك في المنزل، فينتهي بك الأمر بذلك فعليًا؟ فما الذي يجعل صديقك يتصرف بطريقةٍ مغايرة عنك؟ ولماذا يمكن بسهولة أنْ تخضع لخيارات وسلوكيات غير صحية مع أنك تفكّر بألّا تأتي بها؟
واحدة من الأسباب السائدة لزيادة الوزن أو الانخراط في سلوكيات الأكل غير الصحي هي عجزنا عن ضبط النفس والتحكّم فيها فيما يتعلّق بالكيفية والطريقة التي نأكل بها؛ كأنْ نعجز عن ضبط أنفسنا عن التوقف عن الأكل عند وصولنا لنقطة الشبع فنستمرّ حتى نصاب بالتخمة والامتلاء، أو أنْ نعجز عن ضبط أنفسنا عن طلب وجبة من الطعام السريع، أو عن أكل الحلويات والسكريّات وغيرها.
وعلى عكس اعتقاد الكثيرين، فإنّ أنّ القدرة على التحكّم بالنفس وضبطها ليست ميّزة ثابتة طوال الوقت، على غرار معدّل الذكاء أو صفات الشخصية على سبيل المثال، تمامًا كما أنها ليست ميزة مستحيلة. تجربة المارشميلو الشهيرة، حقّق الأطفال الذين قاوموا تناول قطعة المارشميلو لفترة من الزمن خلال سير التجربة، أداءً أفضل في كلٍ من الحياة الأكاديمية والاجتماعية بعد 10 سنوات مقارنة بالأطفال الذين كانوا غير قادرين على مقاومة إغراء المارشميلو وتناولوها خلال التجربة.
واحدة من الأسباب السائدة لزيادة الوزن أو الانخراط في سلوكيات الأكل غير الصحي هي عجزنا عن ضبط النفس والتحكّم فيها فيما يتعلّق بالكيفية والطريقة التي نأكل بها
وفي الواقع، لم يطوّر الأطفال قدراتٍ ومهاراتٍ أفضل خلال العشر سنوات اللاحقة لأنهم يمتلكون قدرةً فطرية على ضبط النفس أو لأنهم امتلكوا هذه القدرة صغارًا فبقيت ثابتةً معهم لاحقًا، بل أرجع الباحثون السبب إلى أنّ أولئك الأطفال كانوا أكثر قدرةً على الاستفادة من الاستراتيجيات المتعلّمة، بحيث أنّهم في وقتٍ لاحق من مراحل حياتهم كانوا أيضًا قادرين على استخدام تقنيات ضبط النفس الفعالة تمامًا كما فعلوا بالتجربة.
ليس هناك ما يكفي من الدوبامين
يقترح عالم الأعصاب والنفس “كينيث بلوم“، أنّ العديد من الأشخاص مصابون بما يسمّيه هو “متلازمة نقص المكافأة” أو ” Reward Deficiency Syndrome“، والتي تُعرف اختصارًا بـِ RDS، والتي تنطوي على فشل في نظام مكافأة الدوبامين في المخ، وهو المادة الكيميائية في الدماغ المسؤولة عن مشاعر السرور والرضا. وبالتالي، فإنّ من يعاني من هذه المتلازمة يجد صعوبةً كبيرة بالوصول إلى تأثير الدوبامين المطلوب لتحقيق مستوىً من السعادة والرضا. هذا يعني أنه لا يحصل على نفس مستوى الإشباع الذي يصل إليه شخص طبيعي. لهذا السبب، قد تأكل أكثر من اللازم في محاولة لاشعورية منك لتعزيز مستويات الدوبامين في دماغك والشعور بالسعادة.
تجعلك “متلازمة نقص المكافأة” تأكل أكثر من اللازم في محاولة لاشعورية منك لتعزيز مستويات الدوبامين في دماغك والشعور بالسعادة
وفي الوقت نفسه، فمن الممكن أنْ يخدعك دماغك بطرقٍ عديدة حتى تستمرّ في الأكل دون أنْ تمارس التحكّم وتضبط نفسك، كأنْ يحفّزك دماغك على الاستمرار بهذا النشاط من خلال ربطه مع مشاعر المتعة أو المكافأة. وبصفة أنّ الطعام واحد من النشاطات الأساسية التي تحافظ على الحياة والبقاء على قيد الحياة، يعمل الدماغ على تضخيم تلك الرغبة في الإفراط بالأكل بحجة الرغبة بالاستمرار.
لذا، إذا كان لديك متلازمة نقص المكافأة، فإنّ ندرة مستقبلات الدوبامين في دماغك تجعل من الصعب عليك أن تشعر بالمتعة الناتجة عن تناول الطعام. حتى تصبح في نهاية المطاف ساعيًا إلى المزيد والمزيد من الطعام الذي يجلب لك بعض المتعة، عوضًا عن أنّ دماغك يجعلك تشعر كما لو أن تناول قالب كامل من الحلوى أو الحصول على كيس من المعجنات هو مسألة حياة أو موت.
تحيّز ضبط النفس: كيف تخدعنا معتقداتنا؟
في عام 2003، قام باحثون من جامعة “نورث وسترن” بأربع دراسات هدفت إلى دراسة أثر المعتقدات الفردية المتعلقة بقدرة المرء في السيطرة على الذات وضبط النفس في التعامل مع الكثير من الأمور في الحياة مثل الإفراط بالأكل والجنس والتدخين والمخدرات وغيرها. وتوصّلوا في واحد من الاختبارات إلى أنّ المدّخنين الذين عجزوا عن مقاومة الامتناع عن التدخين لفترة من الوقت وقعوا ضحية “التحيّز في ضبط النفس” أو “restraint bias“، وهو ميل الفرد إلى المبالغة في تقدير قدرته على السيطرة على سلوكياته الاندفاعية.
قد ينخرط الشخص في سلوك الأكل المفرِط وذلك ببساطة لأنه يعتقد أنّه بإمكانه مقاومة أيّ إفراط وفجع محتملين
يؤدي الاعتقاد “السطحي” والمضخّم عن ضبط الذات إلى زيادة التعرّض للإغراء، ومن ثمّ زيادة الاندفاع للقيام بالسلوكيات المختلفة، ويشكّل هذا التحيّز أحد التفسيرات المنطقية لميل الأشخاص إلى الإدمان بمختلف أشكاله، بما في ذلك الإفراط في تناول الطعام. فعلى سبيل المثال، قد ينخرط الشخص في سلوك الأكل المفرِط وذلك ببساطة لأنه يعتقد أنّه بإمكانه مقاومة أيّ إفراط وفجع محتملين، فهو يظنّ أنه قادر على إيقاف نفسه عن الأكل في اللحظة الي يريدها هو.
كما يقدّم لنا “التحيّز في ضبط النفس” تفسيرًا ممكنًا للسبب الذي يجعلنا ننخرط في سلوكيات أكل غير صحية بمجرّد معرفتنا بنقصان أوزاننا، إذ يتضخّم اعتقادنا بسيطرتنا على الموقف وبالتالي نعتقد أيضًا أننا قادرين على ضبط أنفسنا حيال الطعام. لكنّ هذا ليس ما تسير عليه الأمور بالضرورة. وبكلماتٍ أخرى، عند اتخاذنا لقرارٍ ما، فإنّنا كثيرًا ما نبالغ في تقدير قدرتنا على مقاومة الإغراءات أو الدوافع. هذا الاعتقاد يسمح لنا باتخاذ قرارات تزيد من تعرضنا لهذه الإغراءات، وبالتالي تزيد من احتمال خضوعنا لها.
هل يمكن تعزيز ضبط النفس؟
قام خبراء التغذية ودارسي علم النفس في الآونة الأخيرة بالبحث عن الاستراتيجيات التي يمكن للفرد من خلالها تحسين مستويات ضبط النفس فيما يتعلق بالإفراط في تناول الطعام وغيره من السلوكيات الاندفاعية. وكما هو الحال مع العديد من المفاهيم النفسية، فإن ضبط النفس يعتمد بشكل كبير على معتقداتنا عن أنفسنا. ولهذا فغالبًا ما يرى المعالجون والخبراء بأنّ المستوى “الفعلي” للتحكم في النفس وضبطها يُعتبر ذا أهمية أقلّ بكثير مقارنةً باعتقادنا عن مدى التحكّم الذي نملكه أو مدى فعاليّته. ما يعني أنّ الاعتقاد والإيمان بقدرة النفس على التحكّم أهمّ بكثير من أي تحقيق فعلي وملموس في ذلك.
إدمان الطعام والإفراط في تناوله هو مسألة من مسائل كيمياء الدماغ، كما أنها مسألة الظروف والمزاجات، ولا تتوقف فقط على الضعف الشخصي وانعدام القدرة على ضبط النفس
لكن بالنهاية، وعينا بأنّ ثمة الكثير من العوامل الأخرى التي تلعب دورًا هامًّا في كيفية ومقدار أكلنا جنبًا إلى جنب مع ضبط النفس، هو خطوة مهمّة لحلّ المشكلة. فنحن نعلم، على سبيل المثال، أنّ عوامل عديدة مثل المزاج السلبي والإرهاق والإجهاد، جميعها تلعب دورًا كبيرًا في فشلنا في ضبط أنفسنا. عوضًا عن الكثير من الأنظمة البيولوجية التي تعمل خلف الكواليس والمسؤولة عن جوعنا وشبعنا وشعورنا بالامتلاء أو بالرغبة الملحّة بالاستمرار بالأكل، وما إلى ذلك. فالسيطرة على الشهية وتنظيم تناول الطعام تعدّ عملية معقدة للغاية مع العديد من الهرمونات في الدماغ والجسم والتي تسهم في إشارات الجوع والشبع.
وبالتالي، من الأسهل أن تغفر لنفسك إذا كنت تعرف أن إدمان الطعام والإفراط في تناوله هو مسألة من مسائل كيمياء الدماغ، كما أنها مسألة الظروف والمزاجات، ولا تتوقف فقط على الضعف الشخصي وانعدام القدرة على ضبط النفس. لهذا، يمكن أن يساعدك هذا الفهم في الابتعاد عن اللوم الذاتي الشائع جدًا بين الأشخاص الذين يعانون من الإفراط في تناول الطعام الإدمان عليه.
كما أنّنا جميعنا نعرف منذ فترة طويلة أن الأهداف التي يتم تحفيزها من الداخل، لأسباب ذات أهمية شخصية بالنسبة إلينا، من المرجح أن تنجح أكثر من تلك التي يتم تحفيزها من الخارج. ومّما لا شكّ فيه فإنّ هذه القاعدة العريضة تنطبق أيضًا على ضبط النفس فيما يتعلّق برغباتنا في تناول الطعام غير الصحي والإفراط فيه، وجميع الإغراءات والانغماسات الأخرى. ولهذا، يمكننا القول أنّ النجاح في ضبط النفس يتعلق أكثر بالرغبة وليس بالقدرة على القيام بذلك.