في ضوء كشفها تفاصيل عملية “غصن الزيتون” قبل وقوعها، أشارت صحيفة “قرار” التركية ـ مقربة من بعض البيروقراطيين الأتراك ـ في تقريرٍ لها في يونيو/حزيران 2017، إلى أن العملية تستهدف مدينة عفرين ومحيطها، غير أنها قد تتفرع إلى تل أبيض والحسكة، بل ومحيط سنجار وشنكال في العراق على المدى البعيد.
ربما كان طرح صحيفة “قرار” تل أبيض والحسكة ومحيط سنجار وشنكال، كهدف إستراتيجي لمواصلة تركيا عملياتها العسكرية ضد طموح حزبي الاتحاد الديمقراطي والعمال الكردستاني، ضربًا من الخيال أو أضغاث أحلامٍ غير واقعية، لكن مع تنفيذ تركيا لعمليتها العسكرية في عفرين، وشروعها، صباح 28 من أكتوبر/تشرين الأول، في ضرب مواقع تعود لوحدات الحماية الكردية “ي ب ج” في عين العرب “كوباني” الواقعة شرق الفرات، طُرح تساؤل عن مدى إمكان إقدام تركيا على فتح معركة شاملة شرق الفرات؟
إن الخط الأحمر الأساسي الذي طرحته تركيا إزاء تحركات وحدات الحماية الكردية يقوم على “انعدام وجودها غرب الفرات”، في ظل وجود بعض هذه القوات غرب الفرات إلى الآن، تمتلك تركيا ذريعة قانونية مصدرها “قواعد الاشتباك”، تلوح بها في كل مرة تُقدم على استهداف الوحدات شرقي الفرات بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
لماذا تأخرت تركيا في التحرك تجاه منطقة شرق الفرات؟
ربما السؤال الذي كان يطرحه المتابعون للشأن السوري دومًا هو: لماذا تركّز تركيا على مناطق غرب الفرات، في حين أن الخطر الإستراتيجي الحقيقي لوحدات الحماية الكردية ضدها، يكمن في مناطق شرقي الفرات ذات التماس المباشر مع كردستان العراق والمناطق ذات الوجود الكردي الكثيف مقارنة بمدنها المحاذية بمناطق غرب الفرات؟
أوضحت تصريحات الساسة الأتراك وتقارير الصحف المُقربة من الحكومة التركية، التي أكّدت احتمال توجه الحكومة صوب تل أبيض ومناطق شرق الفرات بعد الانتهاء من إدلب، تراتبية سلم الأولويات ونظام التوازنات الإقليمي والدولي بالنسبة لتركيا
وللحصول على إجابة شافية أقرب للواقع عن هذا السؤال، تم توجيه هذا التساؤل لأحد البيروقراطيين الأتراك، وبالركون إلى إجابة البيروقراطي التركي أنس مارت دامير، الموظف في مكتب الاتصالات المؤسسية لرئاسة الوزراء التركية سابقًا، والموظف في مكتب الاتصالات المؤسسية لرئاسة الأركان حالًًّا، يبرر ذلك الأمر من خلال الإشارة إلى أن أي دولة حول العالم تتبع درجات سلم الأولويات في تحركها سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي، وهذا ما جعل تركيا ترى أن غرب الفرات يشكّل خطرًا أكبر على مصالحها القومية، إذ يُعد أقرب للمتوسط، ويحتضن قوات المعارضة السورية المتعاونة مع تركيا، لذا كان لا بد من التحرك تجاه غرب الفرات أولًا، من أجل الحفاظ على وجود قوات المعارضة السورية التي شكّلت السد المنيع لتركيا أمام التقدم الروسي الإيراني نحو حدودها القومية”.
ويُضيف دامير الباحث في العلاقات الدولية أيضًا: “تركيا تتحرك وفقًا (لنظام التوازنات)، وتنتظر الوقت والفرصة المناسبين لطرح مسألة شرق الفرات على الطاولة”.
لقد أوضحت تصريحات الساسة الأتراك وتقارير الصحف المُقربة من الحكومة التركية، التي أكّدت احتمال توجه الحكومة صوب تل أبيض ومناطق شرق الفرات بعد الانتهاء من إدلب، تراتبية سلم الأولويات ونظام التوازنات الإقليمي والدولي بالنسبة لتركيا.
هل نحن أمام عملية شاملة؟
في ظل الحديث عن وجود تراتبية في التحرك التركي حيال سوريا، تُصبح أولوية التحرك التركي الحاليّة متمحورة حول بعض مناطق غرب الفرات التي ما زالت تخضع لسيطرة وحدات الحماية الكردية، رغم عروبية هويتها، كمحافظة الرقة، وتل رفعت في حلب.
يمكن ملامسة توافق التوجه الأمريكي مع الطموح التركي على صعيد إستراتيجي، الذي يقوم على تأسيس مجالس إدارية مناطقية وليس ديموغرافية
وكان من اللافت استهداف مواقع تابعة لوحدات الحماية، بعد يوم من القمة الرباعية المُنعقدة في إسطنبول، التي جمعت رؤساء فرنسا وألمانيا وتركيا وروسيا، إذ اتجهت الأنظار نحو توقع وجود توافق تركي ـ روسي ـ أوروبي، يدعم التحرك التركي أمام التعنت الأمريكي في دعم “ي ب ج” وعدم إيلاء حساسية الأمن القومي التركي أي أهمية، وزاد هذا التوقع رسوخًا بعد تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأن “العملية هي عملية تطهير حتى سنجار”.
لكن لاستقاء جزئية أو شمولية العملية، لا بد من النظر إلى مآرب تركيا في المناطق التي تخضع لسيطرة وحدات الحماية، ويبدو أن تجزئة السيطرة الكردية هو الهدف الأساسي لتركيا، حيث تحاول، قدر الإمكان، التماشي مع الخطة الأمريكية القائمة على تأسيس مجالس حكم إدارية محلية مُنتخبة بأكثرية تمثل المناطق القائمة فيها، ومحاولة إقناع واشنطن بتعجيل تنفيذ هذه الخطط، في سبيل القضاء على نفوذ “الوحدات”، وقصر مستوى نفوذها في مساحاتٍ جغرافيةٍ ضيقةٍ، لا تشكّل خطرًا إستراتيجيًا على مصلحتها؛ أي المصلحة التركية.
مع النظر في إمكان خلق ميزان قوى داخل المناطق التي تُسيطر عليها “الوحدات”، من خلال المجلس الوطني الكردي الذي يلقى دعمًا منها ومن أربيل، ولعل تصريح الرئيس أردوغان الذي يقول فيه: “يجب أن يحكم إخواننا العرب منبج، وليس الإرهابيين، فهذا هدفنا من التعاون مع الحليف الأمريكي”، خير دليل على مآرب تركيا في حصر نفوذ وسيطرة “ي ب غ” عبر تأسيس مجالس إدارية تحكمها أكثرية المناطق، كما أن تصريحه بأن “تركيا بدأت تقطف ثمار تعاونها الدبلوماسي مع واشنطن” يؤكد، بما لا يدع مجالًا للشك، أن أنقرة ترمي إلى تخفيض خطر “ي ب غ” عليها لأقل مستوى عبر الطرق الدبلوماسية التي قد تتضمن مشاركة الأطراف الكردية الأخرى في إدارة المناطق ذات الكثافة الكردية.
ويمكن ملامسة توافق التوجه الأمريكي مع الطموح التركي على صعيد إستراتيجي، يقوم على تأسيس مجالس إدارية مناطقية وليس ديموغرافية، من خلال النظر إلى تأسيس واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية بخليط قومي، ودفعها لتأسيس مجالس إدارية في المناطق التي سيطرتها عليها في الريف الشرقي لدير الزور والرقة، من أهالي المنطقة.
إذًا، يُظهر المأرب التركي تجاه مناطق شرق الفرات تواضعًا ملموسًا، ولعل مرده إلى عدة عوامل، أهمها:
ـ الوجود الأمريكي ـ الغربي المباشر: لم تستطع تركيا اختراق هذا الوجود خلال تحركها تجاه مدينة منبج على هامش عملية “درع الفرات”، فكيف يمكن لها أن تخترقه في ظل شموله ما يقارب 35% من مساحة الجغرافيا السورية؟ وبوضع منطقة شرق الفرات كأولوية أمريكية جيوسياسية وجيواقتصادية مهمة، نتيجة موقعها الإستراتيجي الواقع في مثلث الحدود بين تركيا وسوريا والعراق، ومقدراتها النفطية والزراعية، يبدو أن الإشارة إلى عملية تركية شاملة صعب بعض الشيء.
التشكيلة الديموغرافية لمناطق شرق الفرات: على العكس من ديموغرافية مناطق “درع الفرات”، فالأكثرية هي كردية، وبالتالي فإن أي هجوم تركي على هذه المنطقة، غير مبرر بأي ذريعة شرعية، كذرائع “مسؤولية حماية المدنيين” أو “الدفاع عن النفس”
ـ الإغراء الخليجي والضغط الأوروبي ـ الإسرائيلي والمؤسسي الأمريكي على ترامب لتمديد واشنطن وجودها العسكري في المنطقة، حتى يتم مواجهة النفوذ الإيراني، ومن ثم يتم ترتيب تسوية تخدم مصالح واشنطن وحلفائها، بعد أن صرح ترامب، في أكثر من لقاء، بأنه ماضٍ نحو الانسحاب من سوريا.
ـ الرفض الروسي ـ الإيراني المُحتمل للعملية: إذ يمكن أن تعرقل روسيا، إن لم يُنسق معها، أو إيران، التحرك التركي عبر زج قوات النظام في طريقها، وبحسبان شرعية قوات النظام وفقًا للقانون الدولي، فإن تحرك تركيا ضده يُصبح اعتداءً احتلاليًا صارخًا، أيضًا، ينبع الرفض الروسي ـ الإيراني المُحتمل من رغبتهما في قصر النفوذ التركي في سوريا، أيضًا عدم رغبة روسيا على وجه التحديد في إبقاء جذوة الصراع مُشتعلة في سوريا، لا سيما بعد إجرائها عدة لقاءات تفاوضية مع واشنطن، فعلى الأرجح، تسعى موسكو، في الوقت الحاليّ، لإبعاد أي عنصر يعرقل تفاوضها الرفيع المستوى مع واشنطن.
ـ التشكيلة الديموغرافية لمناطق شرق الفرات: على العكس من ديموغرافية مناطق “درع الفرات”، فالأكثرية هي كردية، وبالتالي فإن أي هجوم تركي على هذه المنطقة، غير مبرر بأي ذريعة شرعية، كذرائع “مسؤولية حماية المدنيين” أو “الدفاع عن النفس”، وغيرها، فانعدام الحق الشرعي لدى تركيا لاقتحام المدينة، سيُصنف دخول القوات التركية على أنه “احتلال” جاء ضد رغبة معظم السكان، وهو ما سيجعل مقاومة وحدات الحماية له مقاومة شعبية، وهذا ما قد يزيد من حدة الضغوط الدبلوماسية والحقوقية والإعلامية عليها، التي لا شك أنها ستُرهقها اقتصاديًا ودبلوماسيًا وعسكريًا.
ـ محدودية الهدف التركي أصلًا: لقد عكست تركيا محدودية هدفها إزاء سيطرة “ي ب غ” انطلاقًا من الواقعية السياسية التي جعلتها ترى استحالة القيام بعملية شاملة تتجاوز الرغبة الدولية، لا سيما الأمريكية، وقد أظهرت تركيا ملامح تمتعها بالواقعية السياسية من خلال استقبال صالح مسلم في أنقرة مطلع عام 2014، وعرضها لخطتين، في فبراير/شباط 2017، على البيت الأبيض من أجل التحرك المُشترك في تحرير الرقة والريف الشرقي لدير الزور، بما يشمل مشاركة قوات تابعة للمجلس الوطني الكردي وأخرى تابعة للجيش الحر.
وقد أظهرت تفاصيل الخطتين مسعى تركيا لفتح ممر جغرافي إما من الباب باتجاه الرقة، أو من تل الأبيض باتجاه الرقة، وفي الحالتين كان الهدف إضعاف تأثير وأهمية قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في مناطق مُحددة، وليس في كل المناطق، ويمكن الاطلاع على تفاصيل الخطتين أكثر من هنا.
تُعد منطقة قرا قوزاق منطقة تشمل مربع سيادة لتركيا في محيط ضريح الشاه سليمان الذي تم نقل رفاته إلى قرية “آشمة” السورية في حلب، لذا قد تتذرع بهذه الذريعة، وتجنح لإجراء عملية عسكرية في محيط هذه المنطقة
ـالوضع الاقتصادي التركي: خوض حرب سواء أكانت جزئية أم شاملة، يعني وجود “خطر جيوسياسي” يؤثر سلبًا في المؤشرات الاقتصادية، لذا هل تستطيع تركيا التي بالكاد تحاول الخروج من المؤشرات السلبية التي خلفتها أزمتها مع الولايات المتحدة، إجراء عملية عسكرية شاملة؟
وفي إطار ذلك، ما المناطق التي قد تشملها العملية التركية “الجزئية”؟
كراتشوك وقرا قوزاق وتل أبيض وعين العرب، تأتي ضمن المناطق المُتوقع أن يتم شملها في إطار العملية التركية “الجزئية” التي يمكن أن تتم من خلال التوافق مع موسكو وواشنطن عملية عسكرية جوية، يوازيها تحرك فصائل الجيش الحر بالوكالة، وإن لم تستطع إتمام توافق مع موسكو وواشنطن، قد تتجه نحو حرب العصابات التي تقوم على تحريك عناصر داخلية تستهدف عناصر ومواقع “ي ب غ” بطرق استخباراتية غير واضحة.
ضريح سليمان شاه في سوريا
وفي ضوء ذلك، يمكن الإشارة إلى “عملية كراتشوك” التي قامت بها الطائرات التركية، في 23 من أبريل/نيسان 2017، بمشاركة 40 طائرة استهدفت تحركات لعناصر من حزب العمال الكردستاني كان في طريقها من سوريا إلى العراق.
وتُعد منطقة قرا قوزاق منطقة تشمل مربع سيادة لتركيا في محيط ضريح الشاه سليمان الذي تم نقل رفاته إلى قرية “آشمة” السورية في حلب، لذا قد تتذرع بهذه الذريعة، وتجنح لإجراء عملية عسكرية في محيط هذه المنطقة.
أما منطقة تل أبيض، فهي مناطق ذات كثافة عربية لجأ قسم كبير منها إلى الأراضي التركية، ما يعني توفر مبدأ “مسؤولية الحماية” الذي يمنح الدول القومية شرعية التدخل ضد المنظمات غير الحكومية التي تسيطر عنوةً على بعض المناطق.
وقد تسوق تركيا، في هذا الإطار، تقارير منظمة العفو الدولية التي اتهمت “ي ب غ” بارتكاب جرائم فصل عنصري وتطهير عرقي بحق المواطنين العرب، كما تجدر الإشارة إلى أن منطقة تل أبيض تشكّل أهمية إستراتيجية بالنسبة لـ”ي ب ج”، حيث تُعد حلقة وصل جغرافية بين عين العرب ومناطق السيطرة الكردية الأخرى، لذا فإن سيطرة تركيا عليها، يأتي في إطار محاولتها لإحباط مشروع إقامة حكم ذاتي متصل في المناطق الخاضعة لسيطرة “ي ب ج”.
لكن تنعدم في الحقيقة أي ذريعة شرعية تمنح تركيا حق التحرك باتجاه عين العرب، فهي منطقة ذات كثافة كردية، لكن ألم تكن عفرين ذات كثافة كردية؟ بمعنى لو حدثت صفقة تركية ـ أمريكية تتضمن منح تركيا الولايات المتحدة دعمًا لوجستيًا وجغرافيًا وأمنيًا ودبلوماسيًا في تحقيق أهداف داخل سوريا، مقابل سماح الولايات المتحدة لتركيا بالتحرك باتجاه عين العرب، فإن هذه المنطقة قد تكون ضمن العمليات العسكرية التركية الجزئية.
في الختام، ترمي تركيا لإظهار أقصى قدراتها الدبلوماسية والعسكرية في الأراضي السورية، للحصول على نتائج إيجابية تصب في صالحها في أثناء عملية التسوية النهائية، وتأتي سيطرتها على المدن المذكورة، لا سيما تل أبيض ومحيطها من المدن العربية الأخرى التابعة لمحافظة الرقة، في إطار خدمة مصالحها القومية المُعتمدة بشكلٍ أساسي على إحباط مشروع “ي ب غ” الرامي إلى ترسيخ ذاته كإقليم حكم ذاتي، وعليه، يبدو أن تركيا قد تواصل سعيها لتحقيق ذلك عبر التفاوض الدبلوماسي مع واشنطن وموسكو في آن واحد، أو من خلال الضغط بتحريك عناصر الوكالة التي تتبنى حرب الوكالة.