أخيرًا، رأى التعديل الوزاري المبرمج إعلانه منذ أكثر من سنة النور، غير أنه حمل كما هو متوقع مفاجآت منها حجم الحقائب التي طالها التعديل وأسماء الوزراء المغادرة والوافدة إلى قصر القصبة بالعاصمة تونس، والأهم رفض الرئيس الباجي قائد السبسي له، وهو ما يؤكد وصول الصراع بين قطبي السلطة التنفيذية في تونس إلى درجة تنبئ بأزمة كبرى يصعب التعامل معها في ظل إصرار الطرفين على المضي قدمًا في برامجهم.
تفاصيل التعديل
التعديل الوزاري الذي أعلنه رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد مساء أمس الإثنين، شمل 18 خطة، بينها 13 حقيبة وزارية و5 كتاب دولة، بهدف إضفاء مزيد من النجاعة على عمل الحكومة ووضع حد للأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد، وفق قول الشاهد في كلمة موجهة للشعب.
ولم يشمل التعديل وزارات الداخلية والدفاع والخارجية والمالية، فيما شمل وزارات الصحة والعدل والسياحة والرياضة والتشغيل والنقل والتجهيز وأملاك الدولة والشؤون المحلية والوظيفة العمومية، فضلاً عن عدد من كتابات الدولة.
وتم تعيين كمال مرجان وهو آخر وزير للخارجية في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وزيرًا للوظيفة العمومية، كما عين الشاهد رجل الأعمال روني الطرابلسي وزيرًا جديدًا للسياحة، وهو من الأقلية اليهودية التي لا يتجاوز عددها في تونس ألفي شخص، في بلد الغالبية العظمى من سكانه مسلمون.
كما شمل التعديل، تعيين أصغر وزيرة في الحكومة التونسية، من مواليد 1987، وهي القيادية في حزب حركة النهضة الإسلامية، سيدة الونيسي في منصب وزيرة التشغيل، فيما لم يحمل هذا التحوير أي أسماء جديدة لتولي حقائب وزارية من حزب نداء تونس الذي علق عضوية الشاهد فيه.
الرئاسة ترفض التعديل
لم تمر دقائق على إعلان يوسف الشاهد فحوى هذا التعديل، حتى أطلت الناطقة الرسمية باسم رئاسة الجمهورية التونسية سعيدة قراش، في وسائل إعلامية عدة معلنة رفض الرئاسة للتغيير الحكومي الذي أعلنه رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
ونقلت وكالة تونس إفريقيا للأنباء الرسمية في تونس عن الناطقة قولها: “رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي غير موافق على التمشي الذي انتهجه رئيس الحكومة يوسف الشاهد بخصوص التحوير الوزاري، لما اتسم به من تسرع وسياسة أمر واقع”.
هذا التعديل الوزاري الجديد رأى فيه عديد من الخبراء والمحللين إعلانًا لولادة خريطة سياسية جديدة في تونس
أضافت قراش “لم يتم التشاور مع رئيس الجمهورية بخصوص هذا التحوير الحكومي، وتم إعلام رئيس الجمهورية بقائمة في آخر النهار، يبدو أنها تغيرت فيما بعد”، وكان الرئيس الباجي قايد السبسي قد التقى اليوم الإثنين بقصر قرطاج رئيس الحكومة يوسف الشاهد وتم خلال اللقاء استعراض مستجدات الوضع العام بالبلاد، وفق بلاغ لرئاسة الجمهورية.
بدوره أكد المستشار لدى رئيس الجمهورية، نور الدين بن تيشة، في تصريح لإذاعة جوهرة الخاصة، أنه لم تتم استشارة رئيس الجمهورية بخصوص التعديل الوزاري، وفق تعبيره في إعلام للرأي العام، وأضاف أنه تم إعلام رئيس الجمهورية بالتعديل في وقت متأخر من اليوم وبقائمة مختلفة عن تلك التي أعلنها رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وأوضح أنه يتم إجراء التعديل الوزاري عادة بعد العودة إلى رئيس الجمهورية للاستشارة بوصفه الضامن للدستور ويتم الإعلان بقصر الجمهورية بقرطاج، مذكرًا بتعديل وزاري مع الحبيب الصيد وتعديلين آخرين مع الشاهد.
خريطة سياسية جديدة
هذا التعديل الوزاري الجديد رأى فيه عديد من الخبراء والمحللين إعلانًا لولادة خريطة سياسية جديدة في تونس، تقطع مع الخريطة السياسية التي كانت موجودة قبل هذا التعديل، في هذا الشأن يقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية هاني مبارك: “يمكن القول إن هذا التعديل يعكس أو يعطي مؤشرات قوية على ولادة خريطة سياسية جديدة بعض الشيء تعني بالدرجة الأولى مكونات الطيف السياسي المنبثق أساسًا من باقي النداء والحركة الدستورية بصورة عامة.”
انضمام حزب محسن مرزوق إلى الحكومة
وأضاف هاني مبارك في تصريح لنون بوست “الاعتقاد الأكبر أن عديد من الأطراف وصلت إلى بعض القناعات بانعدام إمكانية تجاوز الواقع الذي يؤكد على وجود قوى فاعلة على الأرض وهو ما دفع بهذه القوى للبحث على إعادة انتشار وتموقع.”
وأوضح محدثنا أنه للتطورات الإقليمية والدولية تأثير كبير على ما يحصل في تونس، وقال: “بعض التطورات على الساحتين الإقليمية والدولية لم تعد مواتية للاستمرار بنهج قديم قائم على مقاربات ذات أبعاد ثقافية مزعومة وأيديولوجية طواها الزمن”.
استقرار نسبي على المحك
تضمن هذا التعديل دخول أسماء تابعة لحزب مشروع تونس الذي يقوده محسن مرزوق، وأخرى تابعة لحزب المبادرة الوطنية الدستورية الذي يقوده كمال مرجان، فضلاً عن بقاء وزراء حركة النهضة وحركة المسار الاجتماعي، وعدد من المستقلين، بدعم من “كتلة الائتلاف الوطني” الداعمة للشاهد، لتمثل الحكومة بذلك حالة القطع النهائي مع النداء والسبسي، ما من شأنه أن يفتح خط مواجهة سياسية حقيقية بين الطرفين، لا أحد يتوقع تطوراتها في الأيام المقبلة.
هذه المواجهة يمكن أن تهدد الهدوء والاستقرار النسبيين في تونس، قبل عام من الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فنداء تونس ومن خلفه الرئيس السبسي من المستبعد أن يقبل بسهولة بقائه على الهامش وضياع الحكم منه، وهما اللذان يريان في حكم تونس حق مشروع لهما.
الاستقواء ببعض الثغرات الدستورية قد يخلق أزمة سياسية
هذا التعديل الحكومي الثالث الذي يطال حكومة يوسف الشاهد منذ تشكيلها في شهر أغسطس/آب 2016، حمل معه مؤشرات كبيرة على تصاعد الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية في تونس، فالإعلان جاء على غير العادة من قصر الضيافة عوضًا عن قصر قرطاج، في دليل على انقطاع حبل الاتصال بين الطرفين.
بعض المحسوبين على الرئيس السبسي بدأوا في الترويج لإمكانية إقدام وزير الدفاع الوطني عبد الكريم الزبيدي استقالته من منصبه، الأمر الذي من شأنه أن يعيد خلط الأوراق مجددًا، فالدستور يفرض على الشاهد استشارة الرئيس عند تعيين وزيري الدفاع والخارجية وأخذ موافقته.
غير أن “الاستقواء ببعض الثغرات الدستورية أو العرفية في الممارسة السياسية التونسية قد يتيح إمكانات ولو محدودة لخلق أزمة سياسية في البلاد”، وفق قول الأستاذ بالجامعة التونسية هاني مبارك في حديثه لنون بوست.
اشتداد الصراع بين قصري قرطاج والقصبة من شأنه أن يزيد من إرباك الوضع في البلاد في كل المجالات
يوضح مبارك “استقالة أي من وزيري الدفاع أو الخارجية قد يعطي رئيس الجمهورية إمكانية فتح الأزمة في محاولة لإعادة ترتيب أطراف المعادلة السياسية، غير أن المبالغة في الاعتماد على استخدام تلك الثغرات للتوسيع في الأزمة ونقلها إلى حدودها الدستورية قد لا يكون متاحًا للرئيس، إذ بإمكان رئيس الوزراء اللجوء إلى عدة خيارات تمكنه من الاستمرار في العمل الحكومي”.
وما يزيد من تعميق هذه الأزمة عدم انتخاب البرلمان للمحكمة الدستورية التي خولها الفصل 101 من الدستور صلاحية الفصل في حال حصل نزاع يخص الصلاحيات الموكلة لرئيس الحكومة ورئيس الجمهورية بطلب من أحدهما.
ويؤكد هاني مبارك في معرض حديثه أن “هذه الأزمة ستبقى سياسية وحلها يبقى رهين الاعتراف بواقع الحالة السياسية الراهنة والخروج من التصورات غير الواقعية التي تعكس غياب نضج سياسي عند هذه الأطراف التي تعمل على تصدير فشلها الداخلي إلى الساحة السياسية الوطنية والاختباء خلف مجموعة من الشعارات التي أصبحت معروفة وغير مجدية”.
الواقع يبقى دائمًا أقوى من التخيلات
تبقى أهمية هذا التعديل واضحة، وفقًا لهاني مبارك، على مستوى الاستحقاقات المقبلة لذا فإن “معظم الأطراف ترى به مقدمة أو صورة لمستقبلها السياسي، وهذا بالذات ما يجعل الصورة مزدحمة ومشوشة، بيد أن ذلك سيبقى مؤقتًا، فالواقع يبقى دائمًا أقوى من التخيلات”.
وما زالت بعض القوى السياسية في تونس، تتحرك وفق تصورات لا علاقة لها بالواقع في البلاد، فهي تسعى للاستحواذ على الحكم والسلطة دون أن تحسب للآخر أي حساب، كأن الأمر بيدها وهي الآمر الناهي، الأمر غير المقبول حاليًّا.
انتقال نداء تونس لمعارضة الحكومة
يقول هاني مبارك في هذا الشأن: “هناك أحزاب تتحرك وفق مخيال غريب أي أنها أحزاب ليس لها من القوة ما يمكنها من الاقتراب من واقع الحياة السياسية ومع ذلك تتخيل أنها قادرة على فعل الكثير، لذلك ستقبل إن عاجلاً أو آجلاً بالواقع رغم ارتهانها لأجندات إقليمية ودولية”.
اشتداد الصراع بين قصري قرطاج والقصبة من شأنه أن يزيد في إرباك الوضع في البلاد في كل المجالات، وهو ما سيمثل تحديًا حقيقيًا للائتلاف الحكومي الجديد، ومدى صلابة الأرضية السياسية والمشاريع التي يقف عليها.