من المعروف أنّ لكلّ مكانٍ مجموعة القواعد التي تحكمه وتنظّمه وتسيّر أموره، سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة، فأنتَ إنْ كنتَ تنوي حضور حفلة موسيقية فلن تتصرّف بنفس الطريقة فيما لو كنت ذاهبًا لمشاهدة مباراة كرة قدم، أليس كذلك؟ والأمر يتعدّى التصرف والسلوك الذي ينقسم إلى ما هو مقبولٌ وما عكس ذلك، ما هو جيد وما هو سيء وغير ذلك، ليمتدّ إلى اللباس والزيّ، وطريقة الكلام والمشاركة وغيرها الكثير من الجوانب.
وحين حديثنا على مستوى الشركات والمؤسسات، فالأمر ذاته ينطبق أيضًا. إذ تسعى جميعها، على اختلاف أشكالها وأنواعها، إلى بناءٍ شخصيتها الفريدة وهويّتها المميّزة التي تنظر بها إلى نفسها وتعكس الطريقة والكيفية التي ترغب فيها أنْ ينظر إليها العالم الخارجيّ. وتنطوي تلك الهوية على السلوكيات والمعتقدات والتوقّعات المشتركة والقيم الفردية والاجتماعية والخبرات التي ينبغي أنْ تكون في منظّمة ما وتهدف بدورها إلى تعزيز البيئة الاجتماعية والنفسية الفريدة في تلك المنظمة.
تعرّف تلك الهوية أيضًا بمصطلح “الثقافة التنظيمية” أو “ثقافة المؤسسة” أو “Organizational culture“. وبكلماتٍ أخرى، هي نظام من الافتراضات والمعتقدات والقيم المشتركة، التي تحكم كيفية تصرّف الأفراد في المنظّمات. وتؤثر هذه القيم المشتركة على المنظمة ككل وعلى الموظّفين بشكلٍ فردي، إذ تملي عليهم كيف يلبسون ويتصرّفون ويتحدّثون ويؤدون وظائفهم وواجباتهم في سبيل خلق البيئة الاجتماعية والفردية للمنظمة. وتقوم كل منظمة بتطوير ثقافتها الفريدة من نوعها والحفاظ عليها، من أجل توفير مبادئ توجيهية وحدود تنظيمية لسلوك أعضائها. يبدو الأمر بسيطًا في البداية بحسب التعريف، لكنّ بناء الثقافة التي تريدها المؤسسة ليس بالأمر السهل كما تظن. فمجرد الادّعاء أو التصريح بأنّ هناك مجموعة من القيم والمعتقدات التي تؤمن بها مؤسستك لن يبني لك ثقافةً خلّاقة وفعّالة.
تنطوي ثقافة المؤسسة على السلوكيات والمعتقدات والتوقّعات المشتركة والقيم الفردية والاجتماعية والخبرات التي ينبغي أنْ تكون فيها وتهدف بدورها إلى تعزيز البيئة الاجتماعية والنفسية الفريدة في تلك المنظمة
أمّا أهميتها فتنبع من كونها جزء لا يتجزأ من الحياة العملية اليومية لجميع الموظّفين داخل نطاق المؤسسة، فهي تشمل الممارسات الرسمية مثل مستويات الأجور والرواتب ووصف الوظائف على سبيل المثال، تمامًا كما تشمل الممارسات غير الرسمية مثل قواعد السلوك والاحترام والتعامل واللغة والمصطلحات المستخدمة داخل نطاق بيئة العمل، والترتيبات المادية بما في ذلك الديكور الداخليّ وقواعد اللباس والزيّ. ونظرًا لأنّ كلّ موظّف أو عامل يؤمن ويمتلك مجموعة من الاهتمامات والخبرات والقيم التي يختلف بها عن غيره من الموظّفين، أصبح من الضروريّ على كلّ مؤسسة تبنّي مجموعة واضحة من المواضيع تجمع بين موظّفيها وتقرّب من اختلافهم، لما يعود بالفائدة عليهم من جهة، وعلى المؤسسة من جهةٍ أخرى.
الإيمان بقيم المؤسسة كمحفّز قوي للعمل
تنطوي الثقافة التنظيمية للمؤسسات على ما يُعرف بالقيم المؤسسية “corporate values”، وهي المبادئ أو القواعد الفلسفية التي توجّه السلوك الداخلي للمؤسسة، بالإضافة لعلاقاتها مع عملائها وشركائها ومساهميها المختلفين، مثل الاحترام والمساواة والمشاركة والتواصل والإنجاز والإبداع وغيرها الكثير. وتعدّ هذه المبادئ حجر أساسٍ في الطريقة التي ينبغي أنْ تتصرف بها المؤسسة وموظّفيها.
وبكلّ تأكيد، هناك أنواع لا حصر لها من القيم المؤسسية، لذلك فتحتاج كلّ مؤسسة إلى اختيار قائمة القيم التي تتناسب معها. وبالرغم من أنّ ثمة إمكانية كبيرة في التوسّع بالقائمة وملئها بالقيم، إلا أنّه يُنصح بالتركيز على بعض القيم التي تساعد الموظّفين في أداء مهامّهم دون أنْ تشتيتٍ أو إلهاء.
تعدّ القيم المؤسسية حجر أساسٍ في الطريقة التي ينبغي أنْ تتصرف بها المؤسسة وموظّفيها
فعلى سبيل المثال، تعدّ شركة “جوجل Google” واحدة من الشركات التي تجمع بنجاحٍ وفعالية بين الابتكار التكنولوجي والثقافة التنظيمية القوية، إذ تهتمّ الشركة ببيئة العمل النفسية لموظّفيها بشكلٍ كبير، ولهذا صُنفت كأول “أفضل بيئة للعمل” من قبل مجلة Fortune في عام 2007، ورابع بيئة في عام 2010 ومن ثمّ الأولى عام 2017. أمّا ثقافتها فتركّز على تشجيع الابتكار والإبداع ومهارات اتخاذ القرارات وحل المشكلات من خلال تشجيع التعاون وزراعة الثقة بين الموظّفين والإداريّين والتأكد من حصول الموظفين على احتياجاتهم المادية والمعنوية.
في مقالته، “المواءمة بين العمل والقيم”، ناقش جيم كولينز أنّ القيم التنظيمية للمؤسسة لا يمكن “تحديدها”؛ وإنّما يمكنك اكتشافها. فهو يرى أنّ العديد من الشركات والمؤسسات ترتكب خطأً واضحًا في اختيارها للقيم الأساسية من فراغ ومن ثمّ تعمل على محاولة تطبيقها، وأنّ القيم لا تعدّ مقاسًا واحدًا يناسب الجميع. ولهذا، على كلّ مؤسسة وضع قيمها بناءً على وضعها الحالي والوضع المستقبلي الذي ترغب بالوصول إليه.
الراتب ليس كل شيء
تساعدنا الثقافة التنظيمية بالإجابة عن واحد من الأسئلة المهمّة التي نسأل أنفسنا إياها بشكلٍ دائم: لماذا يتحمس بعض الناس للذهاب إلى العمل بينما يكره البعض الآخر ذلك؟ أو لماذا يبدي آخرون رضاهم عن عملهم في حين لا يتوقف البعض عن الشكوى والتململ؟ فمن المفهوم والواضح جدًا لنا أننا جميعًا بحاجة إلى كسب لقمة العيش، لكن يبدو البعض مستمتعًا أكثر من غيره، وبكلّ تأكيد لا يخضع الأمر للعوامل الفردية فقط، فالمنظمة لها دورٌ كبير أيضًا.
لا يمكن تحقيق الرضا الوظيفي دون إيمان الموظّف بالقيم المؤسسية والفردية مثل احترام الذات والآخرين والمشاركة الجماعية والتعاون والتحصيل الذاتي
فعلى الرغم من أنّ الراتب يُعتبر واحدًا من محفّزات العمل، إلا أنّ أننا نعلم جميعًا أنه ليس كلّ شيء، وأنّ الرضا الوظيفي لا يمكن تحقيقه دون إيمان الموظّف بالقيم المؤسسية والفردية مثل احترام الذات والآخرين والمشاركة الجماعية والتعاون والتحصيل الذاتي والإبداع والتقدير والقدرة على التعبير والاستقلال، وغيرها الكثير. إذ تنظر غالبية المنظمات إلى الرضا الوظيفي باعتباره قائمًا على شيئين اثنين؛ الراتب والقيم التنظيمية اللذين يعملان بدورهما على تحفيز الموظف على أداء عمله، والبقاء في المؤسسة.
وقد أظهرت دراسة أجريت في عام 2005 أن امتلاك الشركة أو المنظّمة لثقافة قوية يزيد من مستويات الرضا الوظيفي عند الموظّفين، إضافة إلى تعزيز ارتباطهم بمؤسستهم والتزامهم بها، كما تزيد من فترات وجودهم فيها وترفع من أدائهم وتفوّقهم وإبداعهم.
كيف يمكن تغيير ثقافة المنظمة؟
يعدّ تغيير ثقافة المؤسسة واحدًا من أصعب التحدّيات، نظرًا لأنها تضمّ مجموعة واسعة ومتداخلة من الأهداف والأدوار والعمليات والقيم والخبرات والسلوكيات وغيرها. وبالتالي، فإنّ تشابك وتداخل هذه العناصر جميعها يجعل عملية التغيير صعبة إلى حدٍ ما، لا سيّما وأنها تحتاج إلى تجريبها على المدى البعيد للبتّ في احتمالية نجاحها أو فشلها، الأمر الذي يمكن استشفافه من التأكد من أنّ الشركة أو المؤسسة تخطو باتجاه تحقيق أهدافها أم لا.
على الموظّفين تغيير سلوكيّاتهم لخلق الثقافة التنظيمية المطلوبة، الخطوة التي ينظر إليها البعض بأنها أصعب خطوة في تغيير الثقافة
وجديرٌ بالذكر أيضًا، أنّ الثقافة التنظيمية عادةً ما تتكوّن على مدى سنوات من التفاعل بين العاملين في المنظمة، ولهذا فغالبًا ما يكون التغيير فيها بناءً على حدثٍ مهمٍّ أو جذريّ في المؤسسة؛ مثل النجاة من أزمة مالية أو فقدان العملاء أو حدوث خلافات حادّة بين العاملين أو بين المدراء.
ترى بعض الآراء أنّ الخطوة الأولى في تغيير ثقافة المنظمة تحدث من خلال فهم الثقافة الحالية، ومن ثمّ تحديد الرؤية المستقبلية والاتجاه الاستراتيجيّ الذي ترغب المؤسسة بالسير نحوه. بعد هذه الخطوة، يأتي دور الموظّفين والعاملين في أن يقرروا تغيير سلوكيّاتهم لخلق الثقافة التنظيمية المطلوبة، الخطوة التي ينظر إليها البعض بأنها أصعب خطوة في تغيير الثقافة، لا سيّما وأنّ كلّ موظف يحمل قيمه الخاصة به والتي يصعب عليه في بعض الأحيان تغييرها أو التخلّي عنها.