المصائب في السعودية لا تأتي فرادى، فبينما تواجه الرياض ضغوطًا إقليمية ودولية جراء تورطها في حادثة اختفاء ومقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، وسط اتهامات تشير بإصبعها نحو ولي العهد وحاشيته، إذ بأزمة جديدة تلوح في الأفق ربما تهدد مستقبل الملايين من السعوديين وتضع أمنهم الغذائي أو المائي على المحك.
بالأمس أعلنت 5 شركات من كبريات الشركات السعودية العاملة في القطاع الزراعي توقفها وبصورة رسمية عن زراعة الأعلاف الخضراء في البلاد، تنفيذًا لقرار حكومي صادر في 7 من ديسمبر/كانون الأول 2015، ودخل حيز التنفيذ في 3 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ.
القرار الصادر عن مجلس الوزراء طالب بالتوقف نهائيًا عن زراعة الأعلاف الخضراء في المساحات التي تزيد على 50 هكتارًا (الهكتار يعادل 10 آلاف متر مربع)، بسبب ظاهرة الهدر المائي المتعلقة بإنتاج الأعلاف، في محاولة للحفاظ على المياه الجوفية التي تعاني من الشح خلال السنوات الأخيرة.
الأزمة تتعمق في أن الشركات الـ5 التي قررت التوقف عن زراعة الأعلاف وهي: المراعي ونادك وأنعام القابضة وتبوك والجوف، لوحت في بيانات لها إلى احتمالية نقل أصولها ورؤوس أموالها ونسبة كبيرة من أنشطتها خارج المملكة، وهو ما يعني مزيدًا من التأزم للاقتصاد السعودي الذي يعاني من اضطرابات في الآونة الأخيرة.
أسئلة عدة طرحت نفسها مع إعلان هذه الخطوة رسميًا، على رأسها: هل يتوقف الأمر عند منع زراعة الأعلاف فقط أم أن القائمة من المحتمل أن تزداد خلال المرحلة المقبلة في ظل زيادة معدلات استهلاك المياه من جهة وندرة الموارد المائية من جهة أخرى؟ هذا بخلاف تداعيات تلك الأزمة على مستقبل الاقتصاد الزراعي في المملكة، الذي قد يحولها خلال سنوات قليلة قادمة إلى دولة مستوردة لمواردها الحياتية كافة.
5 شركات تعلن توقفها
في بيانات منفصلة خاطبت الشركات الـ5 المعنية بالقرار مساهميها معلنة توقفها رسميًا عن زراعة الأعلاف استجابة لقرار مجلس الوزراء، فالبداية كانت مع شركة “المراعي” التي قالت إنها توقفت تمامًا عن زراعة البرسيم والأعلاف الخضراء في السعودية يوم 25 من صفر 1440هـ (3 من نوفمبر/تشرين الثاني 2018)، مؤكدة التزامها التام بالقرار، وذلك بتأمين 100% من إمدادات جميع حاجاتها من البرسيم والأعلاف الخضراء من خارج السعودية لدعم قطاعي الألبان والدواجن.
معروف أن “المراعي” التي تعد أكبر شركة ألبان في منطقة الخليج، تحصل على وارداتها من البرسيم والأعلاف عن طريقين، الأول من مزارعها داخل المملكة، والثاني عبر موردين من دول الخارج على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية والأرجنتين وإسبانيا وأوروبا الشرقية، حيث بلغ حجم استثماراتها في تلك الدول نحو 500 مليون دولار ما بين فترة 2014 – 2018.
الكلفة السنوية لاستيراد “المراعي” الأعلاف والبرسيم من الخارج تقدر سنويًا بنحو 350 مليون ريال (94 مليون دولار)، هذا بخلاف ما يثار بشأن دراسة الشركة خيارات نقل الأصول الزراعية إلى شركاتها الزراعية التابعة في الخارج.
الشركة منذ صدور القرار الحكومي الخاص بوقف زراعة الأعلاف في 7 من ديسمبر/كانون الأول 2015، حولت بوصلتها إلى زيادة معدلات الاستيراد من الخارج تغطية لاحتياجاتها الداخلية وحتى لا يتأثر خط الإنتاج بها، حيث زادت نسبة استيرادها من تلك المحاصيل من 52% عام 2016 إلى أكثر من 75%، لتصل في هذا العام وبعد التزامها بالقرار الوزاري إلى 100% .
جدير بالذكر أن الكلفة السنوية لاستيراد “المراعي” الأعلاف والبرسيم من الخارج تقدر سنويًا بنحو 350 مليون ريال (94 مليون دولار)، هذا بخلاف ما يثار بشأن دراسة الشركة خيارات نقل الأصول الزراعية إلى شركاتها الزراعية التابعة في الخارج، ومن المتوقع أن ينتج عن هذا شطب أصولها الزراعية كأثر صافي بنحو 50 مليون ريال، وسيظهر أثرها في القوائم المالية لهذه السنة، حسبما أشارت في بيانها.
الأمر لم يختلف كثيرًا عن الشركات الـ4 الأخرى، حيث أعلنت الشركة الوطنية للتنمية الزراعية (نادك) لمساهميها توقفها بصورة كاملة عن زراعة الأعلاف في مختلف مشاريعها الزراعية في المملكة وذلك بما ينسجم مع سياسة وخطط الدولة، لافتة إلى أنها ستقوم باستيراد كامل حاجاتها من الأعلاف الخضراء لمزارع أبقارها في المملكة من استثماراتها الذاتية من مشروعها الزراعي في السودان ومن خلال التعاقدات التي قامت بها مع عدد من الموردين من خارج المملكة.
بينما تدرس شركة “تبوك” للتنمية الزراعية بعد وقف إنتاجها من تلك المحاصيل إعداد إستراتيجية جديدة خلال المرحلة المقبلة تعتمد فيها على محاصيل جديدة، كما تفكر في الدخول في مجال إنتاج الأعلاف المركبة والدواجن والاستزراع المائي والزراعة الذكية في البيوت المحمية عالية التقنية، حسب بيان لها.
الأمر ذاته قامت به شركة “الشرقية للتنمية”، فبعد تقنين زراعة الأعلاف الخضراء من خلال تقليص عدد المحاور الزراعية بشكل تدريجي خلال الـ3 سنوات الماضية، ها هي إدارة الشركة تفكر في التحول إلى أنشطة تشغيلية أخرى بديلة، تستهدف من خلالها رفع رأس مالها العام من خلال الدخول في صفقات استحواذ على أصول عقارية وأعمال تجارية مدرة للدخل.
يبدو أن منظومة الزراعة والثروة الحيوانية بالمملكة لن تكون بمأمن خلال الفترة المقبلة، إذ من المرجح أن تواجه تحدي الشح المائي الذي ربما يقوض من إمكانياتها ويقلل من المساحات المزروعة ويضع مستقبل الملايين من السعوديين المعتمدين على عدد معين من المزروعات على المحك
وكانت وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية قد حددت آلية لتطبيق قرار منع زراعة بعض المحاصيل المستهلكة للمياه منها الأعلاف والبرسيم، مشيرة أن كل من يزاول زراعة الأعلاف الخضراء في المساحات التي تزيد على 100 هكتار (الشركات الزراعية والمزارعين أصحاب المشاريع الكبيرة والمستثمرين في زراعة الأعلاف الخضراء ومن يزرع الأعلاف على مساحة أكثر من 100 هكتار من شركات ومنتجي الألبان) وقت صدور القرار رقم (66) وتاريخ 25 من صفر1437هـ، فعليه التوقف كليًا عن زراعة الأعلاف الخضراء وله الحق فقط في الاستثمار في البدائل المتاحة الموضحة وفقًا للمعايير والإجراءات المتبعة لدى وزارة البيئة والمياه والزراعة.
الوزارة في تبريرها لهذا القرار كشفت أن إيقاف زراعة الأعلاف حسب الضوابط المعلنة سيوفر نحو 8 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية سنويًا في المرحلة الأولى، مضيفة أن المملكة تستهلك من المياه الجوفية سنويًا نحو 23 مليار متر مكعب، في حين تستهلك الأعلاف نحو 17 مليار متر مكعب من هذه المياه الجوفية.
بعض الشركات السعودية تفكر في اللجوء إلى استئجار أراضي سودانية لسد العجز في الأعلاف
الإطاحة بـ30% من المزارعين
يقدر عدد العاملين في مجال زراعة الأعلاف الخضراء في السعودية بنحو 9 آلاف مزارع، سيتأثر منهم قرابة 2700 مع بدء تنفيذ القرار الوزاري، بما نسبته 30% من إجمالي المزارعين، بحسب وكيل وزارة الزراعة المهندس أحمد العيادة، الذي توقع أن يؤدي تطبيق القرار إلى خفض استهلاك المياه الجوفية من 17 بليون متر مكعب إلى 6 بلايين مترمكعب.
العيادة في تصريحات له أوضح أنه عند تطبيق القرار يحق لمزارعي الأعلاف الذين يزرعونها على مساحة أكثر من 100 هكتار التحول إلى بدائل أخرى بحسب الاشتراطات الإدارية والفنية للوزارة، ومن أهمها الاستثمار في مصانع الأعلاف المتكاملة شريطة استيراد المدخلات والاستثمار في مشاريع الدواجن وصناعاتها، كذلك الاستثمار في تربية وتسمين الماشية التي تعتمد على الأعلاف المتكاملة في تغذيتها، إضافة إلى الاستثمار في البيوت المحمية المتقدمة بما يسهم في تحقيق الأمن الغذائي.
أما عن العقوبات المقترح تطبيقها حال مخالفة القرار، قال وكيل وزارة الزراعة إن كل مخالف لهذه الضوابط يعاقب بغرامة قدرها 4000 ريال عن كل هكتار مزروع بالأعلاف الخضراء في السنة الواحدة في المرة الأولى، وتضاعف الغرامة في حال تكرار المخالفة في كل مرة، مشددًا على أن شركات الألبان ستوفر حاجاتها من الأعلاف الخضراء عن طريق الاستيراد من الخارج.
وزارة البيئة والمياه والزراعة ومن خلال دراسة لها في 2012 أظهرت أن 86% من السعوديين لا يعلمون أن هناك شحًا في مصادر المياه في المملكة، و82% من السكان لا يطبقون أي إجراءات لتوفير المياه
أزمة المياه تلوح في الأفق
تحتل السعودية المرتبة الـ9 على قائمة دول العالم المعرّضة للفقر المائي خلال الـ25 سنة القادمة، حسبما كشف تقرير صادر عن عن مركز ستراتفور Startfor الأمريكي للأبحاث بشأن أزمة المياه في العالم، لافتًا إلى معاناة المملكة من نقص المياه الصالحة للشرب، وهو إن كان أمرًا غير مفاجئ بالنظر لخصائصها الطبيعية، فإنه يحمل بين ثناياه مخاطر جمة تضع ملايين السعوديين في خطر مواجه العطش مستقبلًا.
التقرير أشار إلى أن نقص المياه السطحية على امتداد معظم مناطق السعودية أجبر السكان على الاعتماد على المياه الجوفية التي بالكاد تكفي لتوفير 76 مترًا مكعبًا لكل مواطن سعودي في السنة، بما يعادل أقل من 15% من المعدل العالمي الذي يقدر بنحو 500 متر مكعب لكل فرد سنويًا، وهو مؤشر يكشف بدوره شح المياه في المملكة.
ورغم هذا الشح الواضح في موارد المياه تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن الفرد السعودي هو ثالث أكبر مستهلك للمياه في العالم (231 لترًا يوميًا) بعد المواطن الأمريكي والكندي، وهذا الاستهلاك يعادل نحو ضعف متوسط الاستهلاك العالمي (الهند 140 لترًا يوميًا وبريطانيا 135 لترًا يوميًا واليابان 99 لترًا يوميًا).
يذكر أن وزارة البيئة والمياه والزراعة ومن خلال دراسة لها في 2012 أظهرت أن 86% من السعوديين لا يعلمون أن هناك شحًا في مصادر المياه في المملكة، و82% من السكان لا يطبقون أي إجراءات لتوفير المياه، وأظهرت الدراسة أن 99% لا يعرفون أن كلفة تحلية المياه مرتفعة جدًا، وهو ما يزيد من تفاقم الأزمة.
شح المياه أزمة تهدد مستقبل السعوديين
مستقبل الزراعة السعودية
يعد القطاع الزراعي من أبرز القطاعات الحيوية في المملكة التي تساهم بشكل كبير ومؤثر في الناتج المحلي برأسمال إجمالي يقدر بـ54 مليار ريال ومساحة تشارف على 700 ألف هكتار، ليصبح إسهامه في القطاع غير النفطي بنسبة 6.6%، وفي الناتج المحلي الإجمالي للمملكة نحو 3%، بحسب محمد بن فهد الحمادي رئيس لجنة الزراعة والأمن الغذائي بغرفة الرياض
النتائج التي أظهرتها الهيئة العامة للإحصاء كشفت أنّ هناك أكثر من 50 نوعًا من المحاصيل الشتوية و40 نوعًا من الخضروات الصيفية ومثلهم في المحميات تزرعها المملكة في شتى المناطق على مساحة كلية تبلغ قرابة 790 ألف دونم ( )، يتصدرها محصول البطاطس كأكبر محصول بنسبة 30.6% من إجمالي المساحة المزروعة من الخضروات، ويأتي في المرتبة الثانية البطيخ بنسبة 18.5% ثم الطماطم بنسبة 15.3%.
كما تتميز المملكة بزراعة النخيل، حيث يبلغ إجمالي عدد أشجار النخيل في جميع الحيازات الزراعية بالسعودية نحو 804.570.28 نخلة، فيما تسيطر الضأن والماعز والماشية والإبل على منظومة الثروة الحيوانية بإجمالي 17.5 مليون رأس ضأن، 6.1 مليون رأس ماعز و1.4 مليون رأس من الإبل.
لكن يبدو أن منظومة الزراعة والثروة الحيوانية بالمملكة لن تكون بمأمن خلال الفترة المقبلة، إذ من المرجح أن تواجه تحدي الشح المائي الذي ربما يقوض من إمكانياتها ويقلل من المساحات المزروعة ويضع مستقبل الملايين من السعوديين المعتمدين على عدد معين من المزروعات على المحك، وهو ما يحذر منه خبراء دوليون يرون أن مستقبل الأمن المائي بالمملكة بات مقلقًا، ومن ثم لن تكون الأعلاف هي المحصول الوحيد الذي يدرج على قائمة الممنوعات خلال السنوات القليلة القادمة.