بعدما شلّت الحياة في شمال غزة.. “إسرائيل” تستعد لتنفيذ “خطة الجنرالات”

حصار مطبق وتدمير ممنهج لكل مقومات الحياة، جثث ملقاة على الأرض، أشلاء متناثرة يعجز الدفاع المدني عن جمعها، صواريخ تسقط بلا خريطة، ومسيرات تصطاد كل من يفكر أن يرفع رأسه، هكذا يعيش أكثر من 400 ألف فلسطيني شمالي قطاع غزة تحت وطأة تصعيد إجرامي من قوات الاحتلال.

وعلى مدار 6 أيام كاملة يعيش سكان مخيم جباليا وبلدات جباليا البلد والتوام والكرامة والعطاطرة وبيت لاهيا وبيت حانون، أوضاعًا مأساوية، استهداف من كل جانب، برًا وجوًا، نسف للمنازل وقصف للمشافي والمدارس ومراكز الإيواء، وحرب تجويع مركزة، والدفع بقوة نحو تهجير الأهالي والنزوح إلى مناطق الجنوب.

ليست المرة الأولى التي يعاود فيها الاحتلال استهداف شمال القطاع، لكن العودة هذه المرة استثنائية من حيث وحشية الانتهاكات المرتكبة والتشديد في ترجمة سياسة جز العشب ميدانيًا، شكلًا ومضمونًا، وفرض حالة من العزلة التامة لمناطق الشمال عن العالم أجمع، بل عن مقومات الحياة ذاتها.. فهل اتخذت حكومة الاحتلال بقيادة المتطرف بنيامين نتنياهو قرار تنفيذ “خطة الجنرالات” المزعومة؟

قتل لكل مقومات الحياة

لم يترك الاحتلال قيد أنملة من حياة إلا وجرفها، وأد كامل لكل مقومات العيش، غلق لكل النوافذ التي يمكنها إدخال ولو بصيص من أمل في البقاء، إصرار مدروس على تحويل شمال القطاع إلى أرض سوداء محروقة غير قابلة لأي صورة من صور الحياة.

على مستوى الغذاء، فرض المحتل حصارًا مطبقًا على كل المنافذ، فمنع إدخال الطعام والشراب، وطوق كل مناطق الشمال بسياج أمني مغلظ، لا يسمح إلا بدخول الهواء فقط، وإن كان ملوثًا بغبار القذائف ومخضبًا بدماء الضحايا، حتى المخبز الوحيد (مخبز “الشلفوح” بمخيم جباليا) الذي كان يلبي احتياجات سكان الشمال دمره بالكامل، لتصبح تلك المناطق بلا خبز ولا طعام.

ولم يتوقف الإجرام عند هذا الحد بل فرض حصارًا مشددًا على المشافي الثلاث العاملة في الشمال، كمال عدوان والإندونيسي والعودة، وطالب بإخلائها من المرضى والكوادر الطبية خلال 24 ساعة، وقطع عنها سبل الإمداد من غاز ومستلزمات طبية، واعتقل مسعفيها، ما يعني خروجها بشكل رسمي عن الخدمة، ليصبح أكثر من 400 ألف إنسان بلا مستشفى واحدة، وفي أجواء كالتي يحيون فيها من قتل وقصف وتدمير وإبادة فإن الكارثة أفجع وأكثر مأساوية.

ولم يسلم أحد من رصاص الاحتلال، سواء كان طفلًا أو امرأةً أو كهلًا، من رفع الراية البيضاء ومن رفع راية المقاومة، الجميع طالته يد الغدر التي لم تفرق بين مدني ومسلح، فالكل يحمل الجنسية الفلسطينية، وهذا شرط كاف للإبادة كما يرى جيش الاحتلال المنقاد بهوى وأطماع وطموحات اليمين المتطرف ورئيس حكومة متعجرف.

الدفع قهرًا نحو التهجير

لم يمنح المحتل لسكان الشمال فرصة للخروج من بيوتهم، حيث الرصاص والقذائف والمسيرات في استقبال كل من يفكر في ذلك، فيما أبقى على مسار إجباري واحد فقط لدفع الفلسطينيين شرقًا باتجاه منطقة الإدارة المدنية، حيث فتح ممرات مراقبة ومشددة للنزوح إلى الجنوب، بعدما قتل لديهم كل مقومات الحياة، ولم يترك لهم خيار آخر.

وعلى مدار الأسبوع الماضي لم يتوقف جيش الاحتلال عن إلقاء أوامر إخلاء لسكان الشمال عبر مناشير تلقى عليهم جوًا تحثهم على النزوح ومغادرة مناطقهم، وإلا فالقتل هو البديل، وهي الخطوة التي تعني باختصار تحويل مناطق شمالي القطاع إلى أرض غير صالحة للعيش بحسب منظمة “أطباء بلا حدود”.

ويهدف الكيان المحتل من وراء هذا التحرك تنفيذ مخطط التهجير لسكان الشمال، وتفريغ مناطقه من الأهالي، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، للتنديد والتحذير من تداعيات هذه الخطوة على حياة وسلامة نحو 400 ألف شخص في غزة يتعرضون للضغط للانتقال جنوبًا إلى منطقة مكتظة بالسكان وملوثة وتفتقر إلى أساسيات الحياة”، كما أشار في تغريدة له على منصة “إكس” اليوم الأربعاء.

تطبيق “خطة الجنرالات”

في بدايات سبتمبر/أيلول الماضي كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن ملامح خطة جديدة تحمل اسم “خطة الجنرالات” تبناها منتدى الجنرالات والمحاربين الإسرائيليين، بمبادرة من اللواء متقاعد غيؤرا آيلاند، الرئيس السابق لقسم العمليات في جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومدعومة من العشرات من كبار الضباط، تنطوي على استراتيجية عملية للقضاء على حماس وتفكيك قدراتها عبر خطوات تدريجية.

الخطة المروجة آنذاك جاءت كرد على مقتل الأسرى الإسرائيليين الست في رفح 31 أغسطس/آب الماضي، الذين كانوا بحوزة حماس، حيث تم رفعها إلى الوزراء وأعضاء الكابينت، من أجل مناقشتها وإقرارها، وإصدار الأوامر للجيش بتطبيقها ميدانيًا.

وتستند تلك الوثيقة في مجملها إلى استراتيجية التجويع عبر الحصار المطبق لدفع سكان الشمال قهرًا إلى التهجير الإجباري، وترحيلهم جميعًا إلى الوسط والجنوب، وعليه فلن يتبقى إلا عناصر المقاومة، ثم تُحول المنطقة الواقعة شمالي محور نتساريم، الذي يفصل جنوبي قطاع غزة عن شماله، إلى منطقة عسكرية مغلقة، يعقبها فرض حصار عسكري كامل على مناطق الشمال، ما يجعل المقاومين المتمركزين هناك بين خيارين، إما الموت وإما الاستسلام.

من جانبه يرى الخبير العسكري اللواء فايز الدويري أن العملية العسكرية التي بدأها جيش الاحتلال شمالي قطاع غزة قبل أسبوع، مختلفة عن العمليات السابقة، التي كانت في إطار زمني ومعلومات عن مقاتلين وقيادات المقاومة السياسية والعسكرية، إلى جانب البحث عن أنفاق وأسرى محتجزين، مبينًا أن العملية الحالية لها علاقة بـ”خطة الجنرالات” التي تهدف إلى السيطرة المطلقة على شمال القطاع وإفراغه من السكان حتى محور نتساريم، حيث تتراوح الأعداد بين 350 ألفًا و700 ألف، بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة”.

وكانت إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي قد أفادت أواخر الشهر الماضي أن نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت صدّقا على دراسة العمليات التي تستند إلى “خطة الجنرالات”، التي تنص على حصار شمال القطاع ووقف المساعدات الإنسانية وإجلاء السكان، فيما نقلت شبكة “سي إن إن” الأمريكية عن مسؤول عسكري إسرائيلي سابق قوله إن الخطة تهدف إلى تحويل شمال القطاع لمنطقة عسكرية مغلقة، وإجبار مقاتلي حماس بعد محاصرتهم بشكل كامل على الاستسلام أو الموت جوعًا.

مقاومة شرسة

رغم آلة التدمير التي لا تتوقف عن تجريف الحجر والشجر والبشر، مخلفة مئات الضحايا وعشرات الآلاف من الجرحى، فإن الأجواء ليست بالصورة التي يتوهمها الإسرائيلي، حيث تحقق المقاومة نجاحات عدة على كل المسارات، واستطاعت أن تكون ندًا قويًا لجيش الاحتلال، تكبده الخسائر ساعة تلو الأخرى.

وعلى مدار الأيام الماضية يخوض مقاتلو القسام في جباليا ومناطق الشمال معارك ضارية مع عناصر الاحتلال من المسافة صفر، ويحققون إصابات مباشرة في صفوفهم، يسقطون بها جنودهم ودباباتهم ومركباتهم، الأمر الذي يجعل من التوغل البري أكثر وأكثر في مخيمات الشمال مغامرة لها تبعات وأثمان باهظة.

وكانت فصائل المقاومة قد أعلنت خلال الأيام الماضية عن تنفيذها عددًا من العمليات منها، ما حدث صباح اليوم الأربعاء كما ذكرت كتائب القسام، من استهداف دبابة إسرائيلية من طراز “ميركافا” في معسكر جباليا، وبالأمس تفجير عبوة شديدة الانفجار في ناقلة جند إسرائيلية قرب مقر مؤسسة بيتنا غربي المعسكر.

كما خاض مقاتلو كتائب شهداء الأقصى معارك شرسة بالأسلحة الرشاشة مع قوة إسرائيلية راجلة في محور القتال بمنطقة التوام شمالي غربي مدينة غزة، مؤكدة وقوع إصابات محققة في صفوف جنود الاحتلال، فيما عرضت الكتائب مشاهد من أبرز العمليات التي قامت بها الوحدة 65 التابعة لها، بالاشتراك مع وحدة سهم التابعة لـ”سرايا القدس”.

هل ينجح الاحتلال في مخططه هذه المرة؟

رغم الوحشية الإجرامية في القتل والتدمير والحصار وقتل كل مقومات الحياة وتحويل مناطق شمال القطاع إلى أرض سوداء طاردة للحياة وغير قابلة للعيش، تتأرجح التقديرات بشأن قدرة نتنياهو على تنفيذ “خطة الجنرالات” التي يُمني النفس بها تحقيقًا لأي إنجاز يمكن تسويقه على أنه انتصار يداري به فشله في تحقيق أهداف الحرب في القطاع بعد عام كامل على اندلاعها.

فبعد أكثر من 365 يومًا من المعارك التي استخدم فيها جيش الاحتلال أحدث أنواع الأسلحة، مدعومًا بأقوى أجهزة الاستخبارات العالمية، فشل في تحقيق أهداف الحرب المعلنة ابتداءً، فلا تزال حماس قائمة وتتمتع بالحضور القوي والفعال والقدرة سريعًا على ترميم ما تتعرض له من شروخ واستعادة توازنها بين الحين والآخر، بل وقادرة على تكبيد الاحتلال حتى الساعة الخسائر الفادحة، بجانب الفشل في تحرير ما لديها من أسرى ومحتجزين رغم تدمير أكثر من 90% من القطاع، هذا بخلاف العجز عن ألا تشكل غزة تهديدًا للكيان، إذ لا تزال صواريخ المقاومة تمطر سماء تل أبيب حتى اليوم.

وأمام تلك المعضلة التي حاول نتنياهو القفز عليها من خلال تسول انتصارات رمزية أخرى على حساب “حزب الله” والجبهة اللبنانية والإيرانية عبر سياسة الاغتيالات والاختراقات الأمنية، سعى الجنرال المتعجرف لتسويق أي انتصار ميداني داخل قطاع غزة، وعليه لم يجد أمامه سوى الشمال لتنفيذ “خطة الجنرالات” للتغطية على فشله الميداني في بقية مناطق القطاع.

في 13 سبتمبر/أيلول الماضي نشرت صحيفة “هآرتس” العبرية تقريرًا قالت فيه إن “خطة الجنرالات” لتهجير من تبقى من السكان في منطقة شمال قطاع غزة لا يمكن تطبيقها لأسباب عدة، على رأسها تداعياتها المحتملة على سمعة الكيان ونتنياهو على وجه الخصوص، كونها جرائم حرب مكتملة الأركان من وجهة نظر القانون الدولي، وهو ما قد يُعرض رئيس الوزراء لعقوبات دولية، هذا بخلاف احتمالية العصيان المحتمل في قوات الاحتياط ضد الخطة، الأمر الذي يمكن أن يعطلها.

الصحيفة لفتت كذلك إلى أن خطة كتلك قد لا توافق عليها الولايات المتحدة، خاصة في حال فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس والتي قد تعرقل نوايا نتنياهو في هذا الأمر، مع الوضع في الاعتبار تداعيات ذلك على الجبهة الداخلية، مدنيًا وعسكريًا، الأمر الذي قد ينذر بانقسامات طاحنة تعزز حالة التفسخ الواضحة.

لكن في المقابل قد يلجأ نتنياهو لاستثمار أجواء الانتشاء والتباهي التي يحياها بشكل برغماتي بحت، حيث حالة الضعف التي عليها “حزب الله” ومحور المقاومة في المجمل، التي تمنحه فرصة مواتية لتنفيذ مخططه، خاصة إذا نجح في تحييد الجبهة الشمالية بعد العملية البرية التي يقوم بها حاليًا في الداخل اللبناني والحديث عن مبادرة لوقف إطلاق نار مع “حزب الله” بشكل منفصل بعيدًا عن غزة، في ظل حالة الخرس العربي والإقليمي والدولي والخذلان والصمت الفاضح الذي تخيم على المجتمع الدولي إزاء حرب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب على الهواء مباشرة وعلى مرأى ومسمع من العالم.

على كل حال، فإن صمود سكان شمالي القطاع حتى اليوم في مواجهة مخطط التهجير، رغم ما يتعرضون له من انتهاكات لا يتحملها بشر، وثبات المقاومة، قد يعرقل بشكل أو بآخر، أو يؤجل تطبيق تلك الخطة العنصرية، لكن يبقى السؤال: إلى متى يستمر هذا الصمود؟ وعلام الرهان؟ ومتى يتحرك العالم لوقف جنون نتنياهو وفاشيته التي وصمت الإنسانية عارًا في جبينها؟