ما بعد الاستحقاق الانتخابي الضاغط الذي كان بمثابة استفتاء

234907

ظلت تركيا تتقلب على الجمر لأشهر ترقبًا للنتائج التي ستخرج من انتخابات الـ 30 من مارس والتي كانت المعارضة تراهن على أنها ستكون “نهاية الحزب الحاكم”.

لا شك أن الانتخابات البلدية التي جرت في الـ 30 من مارس 2014 كانت مسرحًا لعملية انتخاب هي الأغرب والأكثر إثارة للجدل في تركيا خلال السنوات الأخيرة لدرجة أن عدسات الكاميرا التقطت صورة لم يسبق لها مثيل في تركيا تجمع بين أناس يرفعون إشارات النصر جنبًا إلى جنب مع إشارة الذئاب الرمادية (شعار القوميين الأتراك) هي صورة تبرز بوضوح الاتحاد بين فئات من الشعب كانت في يوم من الأيام من أشد أعداء حزب “العدالة والتنمية” الحاكم بل وحاربته لسنين طويلة، حتى في البرامج الحوارية النقاشية، شاهدنا كيف توحدت أفكار العديد من الصحفيين ذوي الاتجاهات المختلفة حول حزب “العدالة والتنمية” رغم حقيقة أنهم كانوا لا يطيقون مجالسة بعضهم البعض بسبب آرائهم المتعارضة والتي كانت تصل أحيانًا إلى حد الشجار والعنف.

التوتر بين الحزب الحاكم وجماعة غولن الذي ظهر على السطح العام الماضي وتصاعدت حدته أكثر في الأشهر الأخيرة على خلفية النقاشات والجدل حول إغلاق مدارس غولن، وصل إلى مرحلة اللاعودة مع انطلاق العملية الأمنية وإصدار تعليمات الاعتقال في صباح الـ17 من ديسمبر، وقد كانت استقالة النائب عن إسطنبول “حاكان شوكور” من الحزب الحاكم وهو المعروف بولائه لفتح الله غولن وانتقاداته العلنية لرئيس الوزراء أردوغان، بمثابة الإنذار الأول بالحرب التي ستشنها لاحقًا جماعة غولن ضد حزب “العدالة والتنمية” الحاكم. 

عملية 17 ديسمبر التي كانت بمثابة أخطر هجوم ضد حكومة “العدالة والتنمية” منذ توليها الحكم قبل 11 عامًا، أسفرت عن اعتقال أبناء وزراء وبيروقراطيين ورجال أعمال بحجة إساءة استخدام مناصبهم.. لأول مرة في التاريخ السياسي للجمهورية التركية يتم استهداف حكومة منتخبة من الشعب بهذا الشكل من خلال أحداث “جيزي” ومن بعدها عملية الـ17 من ديسمبر. 

وعلى ضوء كل هذه الأحداث، ظلت تركيا تتقلب على الجمر لأشهر ترقبًا للنتائج التي ستخرج من انتخابات الـ 30 من مارس والتي كانت المعارضة تراهن على أنها ستكون “نهاية الحزب الحاكم”.

 لقد شهدت مدن مثل أنقرة، أضنه، يالوفا، وكاستيمونو منافسة حامية الوطيس بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة في انتخابات البلدية التي شهدت مشاركة 47 مليون ناخب في عموم البلاد، بيد أن نتائج الاقتراع بقيت معلقة لمدة طويلة، ورغم كل الجهود التي بذلتها المعارضة لتشويه صورة الحزب الحاكم إلا أنه خرج منتصرًا من صناديق الاقتراع وفاز بنسبة 45.6%؛ لينجح بذلك في رفع أصواته عن الانتخابات الماضية بفارق ست نقاط وقد كان ذلك – نوعًا ما – بمثابة تصويت على الثقة من الشعب للحكومة.

أما حزب “الشعب الجمهوري” الذي كان يمني نفسه بانتصار كبير، فشل في الحصول على النتيجة التي كان يرجوها من صناديق الاقتراع، وبالرغم من حصوله على دعم جماعة “غولن”، لم يجد هذا الحزب الاهتمام الذي كان ينتظره من الشارع لتبقى نسبته عند حدود الـ27.8%.. لقد خسر “إسطنبول” و”أنقرة” أمام الحزب الحاكم بيد أنه كان من الواضح أن الشعب التركي الذي يُعد بأغلبيته من الشريحة المحافظة لم يتمكن من هضم فكرة العلاقة المصطنعة بين جماعة إسلامية وحزب مثل “الشعب الجمهوري” الذي يذكر له التاريخ حظره لقراءة الآذان باللغة العربية، مهما كان حزب “الشعب الجمهوري” قد شرع أبوابه أمام العلمانيين والجماعات العلوية وإحدى الحركات الإسلامية إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لمحو ذاكرة الشعب المحافظ عن هذا الحزب الذي لطالما عُرف بماضيه المناوئ لنمط الحياة الإسلامية.. لم يتمكن هذا الحزب من الحصول على ثقة الشعب كما لم يكن مقنعًا بالنسبة لهم وعده بتدشين صفحة جديدة يعيش فيها الجميع على النمط الذي يريده. 

حزب “الحركة القومية” الذي حصل على نسبة 15.2 في عموم تركيا بينما لم تتجاوز أصواته في إسطنبول الـ 4% وفي أنقرة الـ 8%، وبقاء حزب “الشعب الجمهوري” الذي حصل على 27.8% في عموم تركيا مع “الحركة القومية” في منافسة الحزب الحاكم تحت خط الـ 7% في مدينة كاستيمونو، والـ 10% في إسبارطة، والـ 2% في كارابوك، خلف ورائه علامات استفهام كبيرة. 

استعانة أحزاب المعارضة بمقولة الكاتب الفكاهي المعروف عزيز نسين من أن: “60% من الشعب التركي هو غبي”، ومحاولتها إسقاط هذا الوصف على كل من صَّوت للحزب الحاكم وتحقيرها لهم بنعتهم “أنهم كالغنم” ليس سوى اعتراف منها بأن “العدالة والتنمية” هو الحزب الوحيد في تركيا القادر على انتزاع الأصوات من كل الفئات وشرائح المجتمع، سواء كان موضع تقدير وإعجاب أم لا، إلا أن هذا الحزب يسجل انتصارًا تلو الأخر في كل انتخابات خاضها حتى الآن، ولديه قاعدة شعبية من الأكراد والقوميين وحتى من حزب “السعادة” الإسلامي، والى جانب قدرته على استقطاب الأصوات من كافة شرائح المجتمع، فإنه الحزب الوحيد في تركيا الذي يتمتع بالكفاءة والمؤهلات للفوز في كل محافظة في تركيا، فهو يستقطب أصوات الناس في المناطق القروية والحضرية ومن خريجي المدارس الابتدائية ومن الحاصلين على شهادات الدكتورة في العلوم؛ ولهذا السبب بالذات كان حزب “العدالة والتنمية” هو خيار غالبية الشعب في الانتخابات الأخيرة أيضًا.

من الواضح أن الرسالة التي وجهها رئيس الوزراء أردوغان في كل خطاباته في مرحلة ما قبل الانتخابات قد وجدت طريقها إلى قلوب الشعب وتقبلها عندما قال لهم: “يا أيها الشعب التركي، كل هذه الافتراءات ليس موجهة ضد حزبنا بل ضد تركيا بهدف إعاقة تطورها وتقدمها”.. وإلى جانب نجاحه الكبير في شرح الموقف للشعب فيما يتعلق بادعاءات الفساد، فإن هناك عوامل أخرى زادت من نجاح خطابات إردوغان؛ وهي تلك المتعلقة بمرحلة السلام مع الأكراد وأيضًا إعادته للكتلة المحافظة في البلاد حرية العيش على الطراز الذي تريده بعد أن كانت قد سُلبت منها هذه الحرية، بالإضافة إلى عدم وجود حزب بديل عنه، والنمو الاقتصادي الكبير الذي حققه في البلاد، يضاف إلى ذلك خطابات أحزاب المعارضة التي كانت تتلخص في: “فليذهب إردوغان ولتذهب تركيا معه الجحيم لكن المهم أن يذهب” وهي رسالة كارثية لم يتقبلها الشعب واستنكرها فكانت نتيجة كل هذه الأمور وغيرها أن خرج حزب “العدالة والتنمية” من صناديق الاقتراع منتصرًا بالأغلبية. 

أما بالنسبة لحزب “السلام والديمقراطية” الكردي الذي حصل في هذه الانتخابات على نسبة 4.2% في عموم تركيا، فقد تمكن من فرض سيطرته على المحافظات الشرقية، لينجح بذلك في رفع عدد بلدياته إلى 102، هذه المناطق الشرقية ذات الغالبية الكردية والتي اكتسحها “السلام والديمقراطية” لم تتمكن أي من الأحزاب السياسية من إثبات وجودها فيها ما عدا حزب “العدالة والتنمية” بيد أن حزب “الحركة القومية” وبالرغم من إطلاقه رسائل “أخوة وتعايش مشترك” لمحاباة الأكراد إلا أن نسبة أصواته في 13 ولاية في الشرق وجنوب شرق تركيا لم تتجاوز الـ 1%-2 ليحقق بذلك فشلاً ذريعًا، وبالمثل أيضًا حزب “الشعب الجمهوري” الذي بقيت أصواته في هذه الولايات تحت عتبة الـ 5 بالمئة خصوصًا في مدينة “تونجالي” – مسقط رأس زعيم الحزب كمال كليجدار أوغلو- حيث تقدمه حزب “السلام والديمقراطية” بفارق شاسع.

في المقابل، بينما أثبت حزب “الشعب الجمهوري” وجوده في مدن ساحل الشرق الأوسط مثل مدينة “هاتاي” فقد تمكن حزب “الحركة القومية” في النفس الأخير من الحصول على مدينة “أضنة” بعد منافسة حامية الوطيس مع الحزب الحاكم. 

النتائج التي خرجت من هذه الانتخابات كانت كالتالي:

مشكلة الشعب ليست في حظر وسائل التواصل الاجتماعي مثل “يوتيوب” و”تويتر” ولا الادعاءات عمن ارتكب فساد أو اختلس.. الشعب خائف من عودة النظام الكمالي من جديد، ومن منع المحجبات من دخول الجامعات.. الشعب يرفض من يهينه ويتهمه بالغباء هذا طبعًا إلى جانب خوفه على الدولة ومن ضياع الثقة بالنفس التي اكتسبها في عهد حزب “العدالة والتنمية”.. الناس في القرى لا يريدون العودة إلى الحياة الفقيرة التي كانوا يعيشونها والبقاء دون كهرباء أو ماء وبلا طرق معبدة؛ لهذه الأسباب كلها ورغم أن رياح الخلافات بين (إردوغان – غولن) كانت تجري على هوى حزب “الشعب الجمهوري” إلا أن الشعب قال كلمته واختار مجددًا حزب “العدالة والتنمية”. 

أما الآن وبعد طي صفحة انتخابات البلدية، هناك الكثير من المسائل التي ينبغي على تركيا حلها منها على سبيل المثال: العلاقات (التركية – الإسرائيلية) التي توترت بعد حادثة “مافي مرمرة”، مسيرة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، ملفات قبرص والأرمن، مكافحة الفساد، وصياغة دستور جديد إلى جانب انتخابات الرئاسة. 

لقد رأينا جميعًا كيف باءت بالفشل محاولات المعارضة اتهام حزب باللصوصية لدفع ناخبيه إلى العزوف عن التصويت له، وكيف أن هذه المحاولات لم تكن كافية ولا كانت الحل بالنسبة لهم للنجاح في الانتخابات.. وبنفس الشكل، فإن اعتراضات أحزاب المعارضة على النتائج التي حصدها الحزب الحاكم في مناطق البحر الأسود وفي شرق وجنوب شرق البلاد واتهامه له بالتزوير لن تفيده بل وقد تتسبب بخسارته المزيد. 

وعند هذه النقطة، إذا كانت أحزاب المعارضة ترغب بالنجاح فعلاً، فإن أهم شيء يجب أن تقوم به هو التخلص من خطاباتها المزمنة وصياغة مشاريع دائمة للمشاكل التي تعيشها الدولة وليس مؤقتة وظرفية، بيد أن مواقفها هذه لا تخدم – مع الأسف – لا السلم ولا الرفاه الاجتماعي.

 يجب على المعارضة ألا تترك نفسها رهينة اكتشاف أخطاء الحكومة فقط، بل يجب أن تعمل على مشاريع ناجحة وبأن تُنجح علاقتها مع الحكومة حتى تربح تركيا.