قطاع عريض من المواطنين الإريتريين تسمّروا أمام شاشات التليفزيون مساء السبت الماضي انتظارًا لحديث الرئيس أسياس أفورقي، بيد أن المقابلة خلت من أي جديد يذكر رغم بصيص الأمل الذي تسرّب إلى نفوس المواطنين بإمكانية إطلاق سراح المعتقلين الذين يزيد عددهم على 10 آلاف في سجون النظام القمعي توفي منهم العشرات نتيجة المعاملة غير الآدمية، ولم يعلن أفورقي أي قرارات بشأن إتاحة بعض الحريات السياسية أو تخفيف الخدمة العسكرية التي تمتد أحيانًا لـ10 أو 15 عامًا، بل عدّ ذلك محاولات للتشكيك وتسميم وإفساد الأجواء!
مرد التفاؤل الذي ساد بعض من أوساط الشعب الإريتري يعود إلى أجواء السلام التي تعيشها بلادهم مع إثيوبيا وما تشهده الجارة الجنوبية من تطورات متلاحقة فاقت كل التوقعات، فكان الإريتريون يمنون أنفسهم بمواكبة النظام لقليل مما يرونه في إثيوبيا التي تمضي فيها مسيرة الإصلاح رغم المشاكل الإثنية والأوضاع الإقليمية المعقدة، كما توقعوا أن يقوم أفورقي في ظهوره الإعلامي الأول بعد اتفاق السلام التاريخي، بإطلاق تصريحات تصالحية استباقًا لجلسة مجلس الأمن التي يتوقع أن يتم فيها التصويت على رفع العقوبات الدولية المفروضة على البلاد.
لكن رئيس النظام لم يراعِ كل ذلك؛ فأتت مقابلته باهتة خالية من أي جديد، وفي ردة فعل على خيبة الأمل وضع قرابة 6 آلاف ممن شاهدوا الفيديو على اليوتيوب علامة “لا يعجبني” كناية على عدم رضاهم.
أبرز نقاط حديث أفورقي
بحسب ترجمة صحيفة “دام نيوز” لمقابلة أسياس أفورقي فإن أبرز المحطات التي توقف عندها كانت كالآتي:
قال الناشط الإريتري أحمد إدريس إن هجوم أفورقي الشرس على المطالبين بإطلاق سراح المعتقلين خطير جدًا
شنَّ في حواره مع التليفزيون الحكومي الذي استمر ساعة ونصف، هجومًا عنيفًا على “جبهة تحرير تغراي” الحاكمة في الإقليم الإثيوبي المجاور لبلاده واتهمها بالعمل لإعاقة اتفاق السلام بين إريتريا وإثيوبيا بمختلف الوسائل والطرق، مهددًا إياها بقوله: “الأولوية الآن لبناء الثقة وتنظيف المسرح من بقايا أدوات لقوى الهيمنة”، وأشار في الوقت ذاته إلى أن بلاده نجحت في بناء الثقة مع إثيوبيا منذ توقيع اتفاق للسلام في يوليو/تموز لكنه لفت إلى حاجة البلدين لتسوية أمور أخرى في علاقاتهما لتحقيق التعاون الدائم بينهما.
واعتبر أن إثارة قضايا عدم مواكبة إريتريا للتطور السياسي في إثيوبيا، وعدم إطلاق سراح المعتقلين، ووضع فترة زمنية محددة للخدمة الوطنية محاولة للتشكيك وتسميم وإفساد الأجواء، كما رأى أن اتفاق السلام بين بلاده وإثيوبيا سينعكس ايجابًا على دول حوض النيل والقرن الإفريقي والدول المطلة على البحر الأحمر عمومًا.
وطالب الشعب الإريتري بالعمل الجاد للاستفادة من الفرص المتاحة في الوقت الراهن، لافتًا إلى أن السودان يعيش في أزماتٍ متلاحقةٍ بسبب عدم توظيف الفرص المتاحة، واختتم قائلًا إن الهيئة الحكومية للتنمية “إيقاد” لم تنجز شيئًا منذ تأسيسها.
ولمحاولة سبر أغوار تصريحات أسياس أفورقي بشأن الأوضاع الداخلية، استطلع “نون بوست” رأي المدون والناشط الإريتري أحمد إدريس الذي اعتبر أن هجوم أفورقي الشرس على المطالبين بإطلاق سراح المعتقلين خطير جدًا، وتساءل قائلاً: “هل الحفاظ على اتفاقية السلام يتناقض مع دولة المواطنة وسيادة القانون وإطلاق سراح السجناء السياسيين ومنح هامش صغير من الحريات؟”.
مراقبون إريتريون يرون أن من يراهن على حدوث تغيير من داخل النظام الديكتاتوري هو شخص واهم
وتنبأ إدريس بأن يسارع رئيس النظام إلى إطلاق تصريحات جديدة لأن مؤشر “عدم الإعجاب” الذي تفاعل به الآلاف على اليوتيوب كان مخيبًا جدًا “للديكتاتور” ولمن حوله، فقد أصبحت المقارنة بين أفورقي وآبي أحمد ليست فى صالح الأول بأي حال من الأحوال، بحسب ما يرى أحمد إدريس.
من الجانب الإثيوبي تحدث لـ”نون بوست” المدون مبراهتو ديستا، الذي برر هجوم أفورقي على جبهة تحرير تغراي المفاجئ بعد لقاءٍ جمع بين أسياس ورئيس الجبهة دبراصيون الشهر الماضي، بأن “الغرض الأساسي منه هو خلق ضغط داخلي من شعب تغراي على قيادات الجبهة وحكومة الإقليم عقب مؤتمر الحزب والنتيجة الصادمة التي خرج بها لجميع أعداء جبهة تغراي في إثيوبيا وإريتريا”.
وأضاف ديستا في حديثه الخاص لنون بوست “أسياس أفورقي يريد أن يقول لأهل الإقليم إن سبب الحروب والعداء بين الإريتريين وتغراي هم جبهة التحرير بقيادة دبراصيون”، لكن مبراهتو أشار إلى أن “الاختراق من الداخل صعب جدًا لطبيعة العلاقة القوية بين شعب تغراي وقياداته وهي علاقة بُنيت بالدم والتضحيات طوال عقود”.
من الصعب أن يقدم أسياس أفورقي تنازلات حقيقية
بالعودة إلى تصريحات أفورقي عن الأوضاع الداخلية فإن مراقبين إريتريين يرون أن من يراهن على حدوث تغيير من داخل النظام الديكتاتوري هو شخص واهم، فقد أثبتت تجربة حكم الجبهة الشعبية التي استمرت لـ27 عامًا بأنه لا يمكن أن يتخذ الحزب ورئيسه مسارًا ديمقراطيًا بشكل طوعي كخيار للحكم، فقد انقلب منذ أيامه الأولى على شركائه في النضال وقتل جزءًا كبيرًا منهم ووضع آخرين داخل المعتقلات لا يعرف إن كانوا أحياءً أم أموات، وكم اتخذ من قرارات وأطلق وعودًا في هذا الصدد سرعان ما ذهبت أدراج الرياح.
أما هجومه على جبهة تحرير تغراي الإثيوبية فهو غير مفهوم كما ذكر ديستا بعد أن التقى برئيس الجبهة دبراصيون جبري ميكائيل الشهر الماضي مع ملاحظة أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي كان قد كلّف ميكائيل بملف العلاقات مع أسمرة نسبة لعلاقات الجوار والقربى التي تربط إقليم تغراي بدولة إريتريا.
رئيس النظام الإريتري خفّف لهجة هجومه هذه المرة على الخرطوم فلم يتهمها بإقامة معسكرات لتدريب المعارضة الإريترية أو التورط في مخططات لإثارة القلاقل بحسب مزاعم كررها مرتين خلال هذا العام
ولكن قد نجد العذر لأفورقي فهو لا يستطيع البقاء من دون عداءات ولا توتر لأن نظرية المؤامرة تسيطر عليه تمامًا، ولن يمكن له الاستمرار في إجراءاته القمعية والتجنيد العسكري غير محدد المدة دون وجود عدو افتراضي بعد أن رضخ للضغوط والمصالح الدولية وقام بمصالحة جمهورية إثيوبيا التي كان يرفض مجرد الحوار معها حتى مايو/أيار الماضي بعد أن أطلق آبي أحمد مبادرته للسلام مع إريتريا ولم يغير أسياس أفورقي موقفه إلا بعد الضغوط التي مارستها عليه أبو ظبي قبل 3 أيام فقط من توقيع اتفاق السلام بين أديس أبابا وأسمرة.
ويُلاحظ أن رئيس النظام الإريتري خفّف لهجة هجومه هذه المرة على الخرطوم فلم يتهمها بإقامة معسكرات لتدريب المعارضة الإريترية أو التورط في مخططات لإثارة القلاقل بحسب مزاعم كررها مرتين خلال هذا العام، مرة في مارس/آذار وأخرى في مايو/أيار الماضيين، مكتفيًا في خطابه الأخير بتوجيه النقد لسياسات حكومة البشير قائلًا: “السودان يعيش في أزماتٍ متلاحقةٍ بسبب عدم توظيف الفرص المتاحة”.
وكذلك يمكن أن يُفهم تصريحه الذي هاجم فيه منظمة الإيقاد بأنها لم تنجز شيئًا منذ تأسيسها حسب رأيه، أنه رد غير مباشر على حديث سابق للرئيس السوداني عمر البشير دعا فيه أفورقي إلى العودة للعمل بشكل جماعي تحت مظلة للهيئة الحكومية للتنمية، ولكن عمومًا يُلاحظ وجود قدر من التهدئة بين حكومتي الخرطوم وأسمرة رغم التوتر المكتوم الذي يشوب علاقات البلدين منذ أواخر العام الماضي.
يؤكد ذلك تصريح لمصدر دبلوماسي في السفارة الإريترية بالخرطوم أدلى به لصحيفة التيار السودانية، إذ قال: “القنوات الدبلوماسية مفتوحة بين البلدين والأوضاع طبيعية”، فيما لم يصدر عن الجانب السوداني أي تصريح ضد أسياس رغم توارد أنباء عن قيام قوات حرس الحدود الإريترية باختطاف سيارة عسكرية تابعة للجيش السوداني الأربعاء الماضي.
هل سيرفع مجلس الأمن العقوبات عن إريتريا بدعم سعودي إماراتي؟
جاءت رسائل أسياس أفورقي متزامنة مع محاولات لرفع العقوبات المفروضة على بلاده منذ 2009، حيث يُنتظر أن يبحث مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة موضوع رفع العقوبات عن إريتريا في الـ14 من نوفمبر/ تشرين الثاني الحاليّ استنادًا إلى طلب إثيوبي صومالي بعد حدوث تقارب ولقاءات بين الدول الثلاثة “إريتريا وإثيوبيا والصومال”، رغم أن بعض أعضاء مجلس الأمن يرغبون في الإبقاء على بعض الضغوط الدبلوماسية لضمان حل نزاع مع جيبوتي لم تفلح الجلسات والقمم الأخيرة في حلحلته حتى الآن.
الرغبة في إحداث تغيير حقيقي وشامل بإريتريا ما زالت رغبة شعبية شديدة تهفو إليها جموع الشعب
موقف أسمرة من عاصفة الحزم كان بوابتها للخروج من علاقاتها الواسعة مع طهران، وبداية انفتاحها التدريجي على السعودية والإمارات اللتين تسابقتا في رعاية اتفاق السلام بين إريتريا وإثيوبيا؛ لذلك يُعتقد أن أبو ظبي والرياض نجحتا في انتزاع موافقة الولايات المتحدة على مقترح رفع العقوبات عن أسمرة، وينتظر أيضًا أن تدعم روسيا الطلب الإريتري، فقد صرّح السفير الروسي في أسمرة عظيمار أحمدوف برغبة بلاده المساهمة في رفع العقوبات الدولية عن أسمرة نظرًا لأن السياق الذي فرضت فيه العقوبات الأممية تغير بشكل كامل، فاليوم تشهد المنطقة انفتاحًا شديدًا في العلاقات بين إثيوبيا والصومال وإريتريا، بحسب تعبير السفير.
ولكن كما تشير التسريبات فإن فرنسا وبعض الدول الأخرى الأعضاء تحرص على إبقاء بعض الضغوط الدبلوماسية على إريتريا، ويمكن لأعضاء المجلس اقتراح تغييرات على مشروع القرار خلال مفاوضات هذا الأسبوع.
ونخلص إلى أن الرغبة في إحداث تغيير حقيقي وشامل بإريتريا ما زالت رغبة شعبية شديدة تهفو إليها جموع الشعب، فاتفاق السلام والمصالحة مع الجيران لم يغير من واقع الداخل الإريتري، ولذلك فإن حكومة أسياس أفورقي معنية بمواكبة التغيرات التي تشهدها المنطقة، والتخلي عن خطاب المكابرة ونظرية المؤامرة، وإلا فلتستعد لثورة شعبية قادمة مهما تأخرت وما جرى في مثل هذه الفترة من العام الماضي قد يكون تمهيدًا لما سيحدث.