عادت حدة الاستقطاب للشارع المصري من جديد، بعد إعلان مشروع قانون تقدمت به غادة عجمي النائبة في مجلس النواب، وترمي من خلاله إلى حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، وفرض غرامة مالية قيمتها ألف جنيه مصري “نحو 57 دولارًا أمريكيًا” على كل امرأة ترتدي النقاب في الأماكن العامة كالمستشفيات والمدارس والمباني الحكومية وغير الحكومية، ومُضاعفة الغرامة إذا تكررت المخالفة، بما فجر ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض، كان أكثرها إثارة للجدل آراء بعض رموز العلمانية في مصر، التي لم تكتف فقط بالموافقة على ذلك، بل تعدى الأمر للسباب والتهكم على المرأة المنتقبة، بما أوقعهم في سقوط أخلاقي جديد.
ولم تكن غادة عجمي في حاجة إلى التصريح بأنها تقدمت بمشروع القانون من وجهة نظر اجتماعية وأمنية فقط، بغض النظر عن رأي الشرع في قضية ارتداء النقاب، خاصة أنها تنسق مع الأزهر أو الحكومة – حسب قولها – قبل تقديم مشروع القانون لأنه لا يتعلق بمسائل دينية قدر تعلقه بقضايا الأمن القومي، لأن الأزهر اختفى تمامًا من الصورة، ولم يخرج من علمائه إلا الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر الذي رفض مشروع القانون، واعتبر من ترتدي النقاب تقتدي بأمهات المؤمنيين ولايجرؤ فقيه على منعه شرعًا.
أحمد كريمة: الإسلام أبقى على النقاب وليس حرامًا
أكثر ما كان لافتًا، بغض النظر عن الخوض في بنود القانون، انحيازات التيارات العلمانية التي وقعت في الإساءة للمنتقبات، وبدا واضحًا أن القضية بالنسبة لهم ليست في حرية التعبير والقيم العلمانية التي لا يوجد أي إجماع على تعريف لها حتى الآن، بل تختار كل دولة ما ينسابها وخصوصيتها الفكرية والثقافية بما في ذلك أعتى دول الحداثة في الغرب، ولكن يبدو أن الأزمة مع الإسلام والدين بشكل عام.
قبل 3 أعوام بدأت ملامح الصراع الذي كان سببًا رئيسيًا في إزاحة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، تتضح للغاية، فالقصة ليست خلافًا سياسيًا بل صراع على الهوية، أوضح تفاصيلها الكاتب حلمي النمنم وزير الثقافة السابق الذي قال في تصريحات له آنذاك إن مصر علمانية بالفطرة.
كان المصطلح جديدًا وقتها على أذن رجل الشارع الذي لم يسمع من قبل لفظة العلمانية على لسان أي مسؤول مصري، بما أثار جدلًا واسعًا بشأن هوية مصر الجديدة، فتفجرت خلافات مدوية حتى بين التيارات المدنية التي يتمسك بعضها حتى الآن بالهوية الإسلامية العربية لمصر.
الصدام بين العلمانيين المصريين والمثقفين بشكل عام، والإسلاميين يأخذ طابع الصراع الوجودي
تصريحات وزير الثقافة السابق المعروف بميوله العلمانية تكشف النقاب عن نتاج علمنة الخطاب الثقافي المصري منذ سنوات طويلة، خاصة أن هذه الفئات كانت المسيطرة أيضًا على الخطاب الثوري خلال ثورة 25 من يناير/كانون الثاني عام 2011، وأدت مواقفها المتصلبة واللعب على وتيرة الاستقطاب إلى شيوع حالة من عدم الثقة في أي تيار مدني بما فيهم الإسلاميين الذين وقعوا أسرى لنفس الخطاب، بما جعل المواطن يضع بيضه كاملًا في سلة المؤسسات الرسمية والجيش على رأسها، ورفض تمامًا أي ولاية علمانية أو دينية على البلاد.
النائبة المصرية غادة عجمي التي قدمت مقترح قانون الغاء ارتداء النقاب في الأماكن العامة
سعي العلمانيين لحظر النقاب ليس الأول من نوعه، ولا يمكن اعتباره حدثًا عابرًا، فالصدام بين العلمانيين المصريين والمثقفين بشكل عام، والإسلاميين يأخذ طابع الصراع الوجودي، وظهرت فصول هذا الصراع بشكل واضح بعد ثورة 25 من يناير، بعد الاستقالة السريعة التي تقدم بها وزير الثقافة الأسبق محمد عبد المنعم الصاوي الذي لم يجلس على كرسيه إلا نحو أسبوع ونصف، إثر هجوم عاصف بسبب سعيه لتقريب وجهات النظر مع التيارات الإسلامية.
نفس الأمر تكرر ضد وزير ثقافة من خلفية أزهرية وآخر من خلفية إخوانية، حتى جاء النمنم وهو يعلم جيدًا خلفيات الخطاب العلماني، ولعب على وتره بحرفية شديدة، وجرأة فاجأت المواطن المصري المتشكك بطبعه في نوايا العلمانية تجاه الدين الإسلامي على وجه الخصوص.
السقوط الأخلاقي للعلمانيين المصريين يجعلك تندهش من فهم هذا التيار الذي يحتكر الحديث باسم العلمانية ويشوهها ويضرب مفاهيمها في مقتل، مع أن العالم بأجمعه في حاجة لنسخ متعددة من العلمانية، ويسعى لها بالفعل من أجل الحفاظ على قيم التنوع، ولكنهم في مصر والعالم العربي يستخدمونها لإثارة حدة الصراعات والنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية، وغلق كل مساحات العيش المشترك بين جميع المواطنين على اختلاف معتقداتهم الدينية والسياسية والفكرية.
ويرفض العلمانيون المصريون المساواة مع المتدين في الحقوق والواجبات، ويجهلون أدبيات الخطب والجمل الرنانة التي يعيشون عليها، وكأن المطلوب إنهاء واستئصال الدين وليس فقط إبعاده عن مسارات الحكم في الدولة، وهي القناعات التي ترسخت لدى الشعوب العربية بسبب التصرفات العنصرية البغيضة والخطاب العلماني المتطرف الذي حصر نفسه في مهاجمة ثوابت الدين الإسلامي، سواء بشكل مباشر أم بطريقة غير مباشرة.
مصري علماني يسب الإسلام ويمزق المصحف
وتعتبر التيارات العلمانية أن معركتها الأساسية هي الربط الغريب بين تخلف الأمة وتراجعها وتمسكها بالدين الإسلامي والأعراف والتقاليد المرتبطة به، وكأن أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية تحكم بالشريعة منذ سقوط الخلافة العثمانية، مرورًا بحقبتي الاستقلال ورحيل الاستعمار عن المنطقة، كما تستخدم تراجع تيارات الإسلام السياسي وفشلهم في تقديم نموذج خاص جديد للإسلام يمكن البناء عليه في إحماء الصراع بين المجتمع والإسلام وكأنه عدوها اللدود، وهي الرسالة التي لا تخطئها أعين المواطن العادي.
الاختبار البسيط الذي كشف الهوة الكبيرة بين العلمانية والعلمانيين العرب في أزمة حظر النقاب، أظهر الفرق الشاسع بين فهمهم للعلمانية التي ليست حزبًا ولا دينًا ولا مذهبًا فكريًا، بل نسق فكري يطالب بعدم الزج بالدين في أتون الصراع السياسي، ولهذا من يدرك ويؤمن بقيم العلمانية الحقيقية سيعرف أنها يمكنها تجميع طيف واسع من الفلسفات والعقائد والأحزاب والأفراد، من أقصى الرأسمالية والليبرالية إلى الاشتراكية والشيوعية، نهاية إلى ما بات يعرف عند البعض بالإسلام الليبرالي.
من يؤمن بالنموذج الإسلامي والآمل بتفعيله على صواب في رؤيته الرافضة لسيطرة الأنظمة العلمانية على المجتمعات الإسلامية، لأنها ستأخذهم في النهاية إلى الإجبار على تقديم تنازلات دينية موجعة
كما تقدم العلمانية الحماية الكاملة للمتشككين والملحدين واللاأدريين، ورغم ذلك يحرمها من ينسبون أنفسهم إليها في الوطن العربي على كل إنسان يريد حقه في العبادة حسبما يرى الله، لا بالكيفية التي يراها العلمانيون للدين والإيمان والله، ويظهر ذلك بطريقة تعبير تخلوا فيها عن أدنى تعريفات الأمانة والموضوعية والحياد.
عقدة المناداة باجتثاث المخالف التي أصبحت لصيقة بالعلمانيين في رأي الكثير من المتابعين للأوساط الثقافية التي ترفض التطرف العلماني، سواء جاء على هيئة ليبرالية أم يسارية في أحزاب أم حركات مستقلة، كما يرفضون شهوات التدمير ممن ينضوون في كنف العلمانية أو الليبرالية، خاصة أن أغلب منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية تدين الخطاب العنيف وسلوكه، مع أن أغلبهم يدين بالعلمانية ويطالب به، وإلا فمن يؤمن بالنموذج الإسلامي والآمل بتفعيله على صواب في رؤيته الرافضة لسيطرة الأنظمة العلمانية على المجتمعات الإسلامية، لأنها ستأخذهم في النهاية إلى الإجبار على تقديم تنازلات دينية موجعة.
وإما ذلك أو اتهامهم بالتطرف والرجعية والإرهاب، بما يبرئ التيارات الإسلامية ويضع لها عشرات الحجج في مواقفها التي أنهت على ثوارات الربيع العربي، بسبب سعيها لأسلمة الثورات وإبعادها عن الدوران في فلك الليبرالية، والمجتمع المفتوح القائم على حماية قيم التنوع التي تضمنها العلمانية!