يعدّ اضطراب الشخصية الهستيرية أو كما يُعرف أيضًا باسم “اضطراب الشخصية التمثيلية”، واحدًا من بين أكثر اضطرابات الشخصية التي غذّتها مواقع التواصل الاجتماعي بطرقٍ سلبية. والشخصية الهستيرية هي ذات الشخصية التي نُطلق عليها ونسمّيها وفقًا للمصطلحات الشعبية بالدراما كوين، أو قد يتعدّى الأمر ذلك ليطلق عليها البعض لقب “attention whore” أو “attention seeker”، وهو الشخص الذي يكون في بحثٍ ورغبة دائمتين بجذب انتباه الآخرين من حوله، ليكون محطّ اهتمامهم أنظارهم وحديثهم بشكلٍ دائم.
بدايةً علينا أنْ نفرّق بين الشخصية التي تمتلك سماتٍ هستيرية من جهة وبين اضطراب الشخصية الهستيرية من جهةٍ أخرى، الأمر الذي يشكّل لُبسًا واسعًا عند الكثيرين. فالسمة هي نمط معتاد من التفكير والشعور والتصرّف التي تستمرّ معك في مراحل حياتك، ولكنّها لا تؤثر على حياتك كلّها بحدّة وشدّة، ومن الممكن أنْ تتغير بحسب الموقف. فعلى سبيل المثال، قد تكون شخصًا انفعاليًا في شبابك، ولكنْ مع التقدّم بالسنّ تبدأ بفقدان انفعالك شيئًا فشيئًا لتتعامل مع الأمور والمواضيع برويّة أكبر.
الشخصية الهستيرية هي ذات الشخصية التي نُطلق عليها ونسمّيها وفقًا للمصطلحات الشعبية بالدراما كوين، أو قد يتعدّى الأمر ذلك ليطلق عليها البعض لقب “attention whore”
على صعيدٍ آخر، ينطوي اضطراب الشخصية على أنماط طويلة الأمد وثابتة في الإدراك والتفكير والسلوك. وبسبب عدم مرونة هذه الأنماط وقلة انتشارها في المجتمعات، فهي عادةً ما تسبّب مشاكل وصعوبات في حياة الشخص من وقتٍ لآخر على مختلف المستويات الفردية والاجتماعية والأكاديمية والمهنية والعاطفية وغيرها.
وفي حين أنّ معظم الناس قد يجدون في أنفسهم سمة أو أكثر من السمات التي تميّز اضطرابات الشخصية؛ إلا أنّ الشخص الذي يمكن تشخيصه بالمضطرب هو الذي يُعاني من معظم أعراض وسمات ذلك الاضطراب التي تستمرّ معه بدءًا من مرحلة البلوغ وحتى المراحل اللاحقة. ولهذا قد تتصرّف أحيانًا بشكلٍ انفعاليّ أو هستيري دون أنْ يعني ذلك أنّك مُصاب باضطراب الشخصية الهستيرية.
كيف تفهم الدراما كوين أو الشخصية الهستيرية؟
لنفهم أكثر هذه الشخصية، فيمكننا القول باختصار أنّها تفتقر للقدرة على تنظيم عواطفها وضبط انفعالاتها وتحديد حدودها ومعرفة خبراتها وتجاربها بشكلٍ منسجمٍ ومتّسق داخليًا، لذلك فهي عادةً ما تبحث عن عناصر وعوامل خارجية تسعى من خلالها لتنظيم ذاتها وتربط بين مكنوناتها.
فعلى سبيل، قد يكون من الطبيعيّ جدًا أن تلقى ملاحظةً من مديرك أو زميلك في العمل. لنقل أنه أخبرك أنّك لم تنجز مهمّتك على النحو المطلوب أو أنه وصف إنجازك بالضعيف أو السيء. في الوضع الطبيعي والصحّي، ستشعر بالضيق حيال ذلك، وربما تنفعل وتبدأ بالمساءلة عن حقيقة ملاحظته وتوضّح له وجهة نظرك فيها. وقد تسأل نفسك فعلًا إنْ كنت مقصّرًا أم لا. وفي حالاتٍ أخرى، قد تحتاج لمشاركة انفعالك مع صديقٍ أو زميل عملٍ آخر بعد أنْ تكون بالفعل قد فكّرت بالموضوع وبانفعالاتك وعواطفك ومشاعرك تجاهه.
تفتقر الشخصية الهستيرية للقدرة على تنظيم عواطفها وضبط انفعالاتها وتحديد حدودها ومعرفة خبراتها وتجاربها بشكلٍ منسجمٍ ومتّسق داخليًا
على الجهة الأخرى، لدينا الشخصية الهستيرية أو التمثيلية التي يتعكّر مزاجها كليًا في حال سمعت مثل تلك الملاحظة أو لاقت تعليقًا سلبيًا عليها أو على عملها. فقد تولّد انفعالًا شديدًا يجعلها تتفوّه بكلماتٍ عنيفة أو قد تجد نفسها وقد غادرت المكان دون الإفساح لأيّ مجالٍ للحديث أو النقاش. ونظرًا لأنها عاجزة عن إدارة انفعالاتها وتفكيكها والتعامل معها، فستبحث عن شخصٍ آخر أو عدّة شخوص تتوجه إليهم لتخبرهم بوجهة نظرها هي، لتتصل على أحدٍ من أصدقائها وترسل تسجيلًا صوتيًا لآخر وتكتب رسائل لغيرهما وتطلب من آخرين أن يقابلوها لأنها بحاجة للكلام والدعم.
وقد تفتح تلك الشخصية حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي لتبدأ بالشكوى وتسميع الكلام في محاولةٍ منها لتفريغ انفعالاتها. لكن ما علينا أنْ نركّز عليه هنا، أنّ تلك الشخصية تسرد الحدث بطرقٍ تضمن من الآخرين حولها تبنّي موقفها ورأيها ووجهة نظرها، الأمر الذي لا يدع لها مجالًا لمساءلة نفسها فيما إن كانت مخطئة أو مقصّرة أو بحاجة لإعادة النظر والبت في الموضوع من جديد. فهي شخصية لا تعترف بكونها سببًا لأيّ مشكلة، وترى أنّ كلّ ما يحدث معها من مشاكل سببه العالم الخارجيّ.
وهذا يفسّر واحدًا من أهمّ أعراض هذا الاضطراب وأكثرها مركزيةً، وهي حاجة الشخص المرَضية لأنْ يكون محطّ اهتمام الجميع من حوله وانتباههم وإعجابهم ومديحهم. وفي حال شعر بانعدام ذلك أو انخفاض وتيرته، يدخل ذلك الشخص بحالةٍ من التوتّر والقلق والضيق لا تنقضي إلا في حال استطاع من جديد أنْ يصبح بؤرة الاهتمام والحديث والتركيز ممّن حوله من أشخاص آخرين.
كيف تغذّي مواقع التواصل الاجتماعي الشخصية الهستيرية؟
تشكّل هذه المواقع منصات جاهزة وحرّة للتعبير عن الذات ورسم الصورة التي يريدها الشخص عن نفسه وحياته وعلاقاته وتفاصيل أخرى كثيرة. وتلك المواقع بسؤالها “ماذا يحدث؟” أو “ما الذي تفكّر فيه؟” أو “ماذا في بالك الآن؟”، غذّت بطريقتها الشخصية الهستيرية وأعطتها مجالًا إضافيًا للتعبير عن الذات وجعلها محطّ الأنظار والانتباه، حتى أنها تشعر بخللٍ ما حين تغيب لفترة عن تلك المواقع دون أنْ تحدّث حالتها فيها أو تكتب عن أخبارها ومستجداتها.
مواقع التواصل الاجتماعي بسؤالها “ماذا يحدث؟” أو “ما الذي تفكّر فيه؟” أو “ماذا في بالك الآن؟”، غذّت بطريقتها الشخصية الهستيرية وأعطتها مجالًا إضافيًا للتعبير عن الذات وجعلها محطّ الأنظار والانتباه
وبشكلٍ عام، فالشخصية الهستيرية عادةً ما تكون نشطة اجتماعيًا ووظيفيًا ولديها مهارات تواصل فعّالة مع الآخرين من حولها، لكن بما يتناسب مع مصالحها ورؤاها، ولذلك فلا ترى ضيرًا أو مشكلةً في التلاعب بهم بطرقها الخاصة والتي غالبًا ما تحدث من خلال المديح المبالغ فيه، والإغداق بالمشاعر الإيجابية وخلق الجوّ الفعّال، إضافةً لاستخدام الإغواء الجنسيّ في الكلام ونبرة الصوت واللباس والمبالغة في الزينة والتغنّج.
ولو نظرنا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فسنجدها ملآى بهذه الأمثلة من الأشخاص الذين يرغبون بأنْ يكونوا محطّ اهتمام متابعيهم وجمهورهم من خلال سرد تفاصيل الحياة اليومية أو سرد الكلام السطحيّ الذي يفتقر لتفاصيل فعلية. وهم نفسهم الأشخاص الذين يخلقون عالمًا واسعًا وكبيرًا من الصداقات والعلاقات في تلك المواقع مع سعيهم بين الفينة والأخرى لمدح أولئك الأصدقاء والاحتفاء بهم والتعبير عن تميّزهم وتفرّدهم وروعتهم وذكائهم ونجاحهم وغيرها الكثير. وقد يرجع سبب المديح هذا إلى رغبتهم بالتعويض عن نواقصهم من خلال أولئك الأصدقاء، أو لرغبتهم في الحصول على موافقتهم وتأييدهم في اللحظة التي يريدونها.
تسعى الشخصية الهستيرية على مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى استغلال معاناة الآخرين من أصدقائها ومعارفها، أو أية معاناة إنسانية وعالمية أخرى، بحيث تصبح معاناتها هي ومشكلتها الخاصة
أمّا فيما يتعلّق في تعاملها مع غيرها من الشخصيات الهستيرية، فيكره هذا النوع من الشخصيات وجود شخصية شبيهة في محيطها، فهي ترغب بالنهاية بحيازة اهتمام الآخرين لوحدها، ووجود من يشبهها يشكّل خطرًا محتملًا قد ينافسها في استحواذ الاهتمام والانتباه. وهذا قد يفسّر لك لماذا تجد بعض الحساسية والتوتّر والشد بين مشاهر السوشيال ميديا أنفسهم، خاصة ممّن يتنافسون في المجال نفسه.
كما تسعى الشخصية الهستيرية على مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى استغلال معاناة الآخرين من أصدقائها ومعارفها، أو أية معاناة إنسانية وعالمية أخرى، بحيث تصبح معاناتها هي ومشكلتها الخاصة. كأنْ تعبّر عن انعدام قدرتها على النوم بسبب ما يحدث في سوريا، أو عن فقدانها الشعور بمعنى الحياة وجدواها بسبب ذلك. ولا تكتفي بالتعبير مرةً واحدة، وإنما تستمرّ في هذا السلوك مرارًا وتكرارًا، حتى يبدأ متابعوها بالتعطاف معها هي ومع مشاعرها وعواطفها لا مع القضية والفاجعة الرئيسية.
هل يمكن علاج الاضطراب الهستيريّ؟
غالبًا ما يصعب على الشخصية الهستيرية إدراك حقيقة اضطرابها وأعراضه، لا سيّما وأنها قد رسمت عالمها، سواء واقعيًا أو على مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث يتجمّع الداعمون لها ومن يوافقها في آرائها ووجهات نظرها ما يجعل من الصعوبة بمكان عليها رؤية مشاكلها والتعامل معها. لهذا، يعدّ التخلّي عن إدمان مواقع ومنصّات التواصل الاجتماعي خطوةً أولى وأساسية في طريق الحل.
يمكن للعلاج النفسي على المدى البعيد أنْ يكون فعّالًا وناجحًا، ولا ينصح أبدًا بالعلاج الجماعي نظرًا لأنّ الفرد يحاول دومًا أن يلتمس انتباه أعضاء المجموعة ويضخّم أعراضه ليستحوذ على اهتمامهم وتعاطفهم. أمّا آلية العلاج فتركّز أساسًا على إعادة بناء إدراك الفرد وتصوّره عن نفسه والعالم من حوله ومن ثمّ تنظيم انفعالاته وأفكاره فيما يتعلّق بالذات والآخرين. وبكلماتٍ أخرى، يحاول العلاج أنْ يخفّف من حدّة “الدراما” التي تعيشها تلك الشخصية على حساب الواقع.