ممر لا يتجاوز طوله بضعة أمتار يشق قلب مدينة القاهرة يتوسط خاصرتها التاريخية، تظلله مآذن وأقبية مسجد الحسين والجامع الأزهر، تحرسه عيون خان الخليلي التي لا تنام طيلة أيام العام، تحول في وقت لايساوي في حساب الزمن لحظات إلى قبلة الباحثين عن الاسترخاء والنشاط في آن واحد، ففيه تذهب بروحك في رحلة سريعة إلى عالم آخر، تشعر أنك وحدك رغم شدة الازدحام..
أحد أعلام مصر المحروسة، لا يقل شهرة عن الأهرامات ونهر النيل، ولا قيمة عن الشعراوي والغزالي وأم كلثوم ونجيب محفوظ وأحمد زويل، ملهم الفنانيين والمثقفين، كاتم أسرار الملوك والرؤساء، فيه كُتبت أروع روايات مصر التاريخية، وعليه عزفت أعذب الألحان التي تغنى بها أساطير الطرب والغناء في مصر والعالم العربي.
في أحد جوانبه تجد فنانا يضرب عوده، وبجواره عرافة تقرأ الفنجان وتضرب الودع، وبينهما شاعر يقرض أبياته، وبمحازاته سائح يستطلع بعض الأحجار الكريمة التي يعرضها عليه أحد البائعين، علي يمينه مؤلف يكتب، بجواره سياسي يفكر، وفي يساره مطرب يشدو بصوته.. كل في فلك يسبحون.
مقهى الفيشاوي.. هذا الإسم الذي يعرفه القاص والدان، وجهة السائحين وقبلة الباحثين عن الأصالة والتميز، الموثق على قائمة جدول زيارات كل من تطأ أقدامه أرض الكنانة، البقعة الفسيحة وسط الضيق الشديد، الموج المحرك لتلابيب الكلاسيكية والعراقة، قارورة العطر التي يفوح منهاعبق الماضي فتنعش أرواح الحاضرين.
240 عامًا من الأصالة
في عام 1771 كان هناك رجلا يدعى الحاج عبدالله الفيشاوي، يملك بوفيه صغير يعد به القهوة والشاوي لرواد منطقة خان الخليلي(وسط القاهرة) من المصريين والسائحين على حد سواء، البوفيه كان يسمى بـ “البسفور” وكان مكونًا من عدد من الدكاكين الصغيرة على جانبي ممر يخترق الخان.
ظل البوفيه يعمل بشكل غير رسمي لما يقرب من 90 عامًا تقريبًا، وفي عام 1863 حصل الفيشاوي على أول ترخيص للمقهى في عهد الخديوي إسماعيل (1830-1895) لتبدأ صفحة جديدة من تاريخ المقهى مع “فهمي علي الفيشاوي” الذي نجح في توسعة مساحة إلى أكثر من 900م..ومن هنا كانت البداية..
منذ عشرينيات القرن الماضي، فرض المقهى نفسه على قائمة أكثر المزارات أهمية وجماهيرية للجميع بلا استثناء، حيث رسم الفيشاوي الكبير وأحفاده له شخصية مميزة في الشكل والمضمون، فكان عبارة عن ممر طويل به (ايوانات) أو غرف علي اليمين واليسار كل ايوان كان مسمي باسم أديب أو فنان مشهور فهذا ايوان نجيب محفوظ وهذا ايوان أحمد رامي وايوان حافظ إبراهيم وهكذا.
أما الداخل فحدث ولا حرج، فالأثاث قوامه دكك خشبية يعود تاريخها إلي عام 1910 وقطع من الأرابيسك وترابيزات رخامية وصواني نحاسية موغلة في القدم، فضلا عن القطع الأثرية الكلاسيكية التي تزين أروقة المكان وجنباته في مشهد يبعث على الفخر والعزة ويستعيد عبق التاريخ كلما لامست يداك أي من تلك اللوح الفنية المرسومة.
لكن وكما جرت العادة فلم يُترك المقهى بكيانه الذي أنشأ عليه – كلوحة فنية معمارية- كما هو، إذ طالته اليد العابثة التي قلصت من مساحته حتى بات لا يساوي ألان خمس المساحة التي بني عليها بداية الأمر، بأوامر من محافظة القاهرة التي تورطت في تشويه هذا المعلم التاريخي ، لكنه رغم ذلك حافظ على ما تبقى له من مكانة نحتت قيمتها في قلوب رواده من المثقفين والفنانيين والسياسيين والباحثين عن الراحة والمولعين بالكلاسيكية التاريخية.
المقهى قبلة الباحثين عن الأصالة المولعين بالكلاسيكية
بسفور الملوك وتحفة الفنانين
لا يمكن الحديث عن الفيشاوي بمنأى عن كونه متحف فني صغير، به اجتمعت كل مواصفات المتاحف المعترف بها دوليًا، سواء من حيث البنيان المعماري أو القيمة التاريخية للمحتوى الداخلي، فهذا الكيان الصغير جغرافيًا يضم بين جنباته منظومة متكاملة من التحف المتناثرة والنقوش الحجرية واللوح الفنية العظيمة والقناديل المضيئة بالزيت، فضلا عن الإهداءات التي تلقاها صاحب المقهى من بعض الأمراء والوزراء ومنها التمساح الإفريقي الذي يجلب الحظ المهدى من رئيس وزراء السودان، والستائر الزجاجية من الأحجار الكريمة والمرجان، هذا إلى جانب المرايا الضخمة التي اشتهر بها المقهى ، والتي دفعت بعض الكتاب إلى تسميته بـ “مقهى المرايا” كما في المراجع الفرنسية.
وبخصوص مرايا المقهى فتعود إحداها إلى عصر محمد علي باشا (1769-1849) وهي مرايا بلجيكية حصل عليها الحاج فهمي الفيشاوي ووالده من القصور الملكية التي كانت تجدد مفروشاتها وأثاثها، الطريف في هذه المرآة على وجه الخصوص، فبجانب أنها كانت لوحة في حد ذاتها تزين المكان، إلا أن صاحب المقهى كان يراقب عماله من خلالها حسبما ذكر الحاج ضياء الفيشاوي حفيد الفيشاوي الكبير ومدير المقهى الآن لـ “نون بوست”.
أبرز ما يميز المقهى ثلاثة غرف رئيسية، لكل منها قصة وحكاية، تشعرك بأنك في قصر مشيد وليس في مقهى تقدم المشروبات لروادها، الأولى غرفة “البسفور” تلك الغرفة التي حملت اسم المقهى القديم حينما كانت بوفيه، وهي غرفة مبطنة بالخشب المطعم بالأبنوس، ومليئة بالتحف والكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، وأدواتها من الفضة والكريستال والصيني، وكانت مخصصة للملك فاروق، آخر ملوك أسرة محمد علي، في رمضان، وكبار ضيوف مصر من العرب والأجانب.
ومن أبرز الشخصيات التي زارت تلك الغرفة نابليون بونابرت … وروميل القائد الألماني الشهير …. وجان بول سارتر …. وسيمون دو بوفوار هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الأمراء العرب، كذلك الإمبراطورة أوجيني أثناء الاحتفال بافتتاح قناة السويس عام 1869.
ثم تأتي غرفة “التحفة” المخصصة لكبار الفنانيين، وهي مزينة بالصدف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك والكنب المكسو بالجلد الأخضر، ومن أبرز روادها أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ونجيب محفوظ الذي كتب ثلاثيته عليها، هذا بجانب بعض المثثقين مثل يوسف إدريس وبيرم التونسي وصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور، إضافة إلى السياسيين العاشقين للفن مثل سعد زغلول وعمرو موسى.
أما أطرف الغرف الموجودة بالمقهى، والتي كانت بمثابة “سوق عكاظ” مصغر، غرفة “القافية” ومن اسمها يأتي معناها، ففي النصف الأول من القرن العشرين وبينما كانت الأحياء الشعبية في ذلك الوقت تتبارى في مسابقات الشعر، كانت الفيشاوي حاضرة وبقوة، فبداخل تلك الغرفة، ومساء كل خميس من كل شهر، كان المتسابقون يتبارون في إلقاء الشعر والقوافي، فكان ينزل شخص من سماته خفة الظل وسرعة البديهة وطلاقة اللسان والسخرية، فيبدأ بالشعر ثم يرد عليه شخص آخر، ويستمران في المنازلة الكلامية حتى يُسكت أحدهما الآخر.
أنشطة ثقافية وفنية يعقدها المقهى يوميًا
كيف أصبح اليوم؟
بنبرة تعلوها الحيرة ويعتصرها الألم، وكلمات يفوح من بين ثنايا حروفها الحنين للماضي، تحدث الفيشاوي الصغير عما آلت إليه أكبر مقاهي المحروسة، وهجر المثقفين والفنانيين والسياسيين للمقهى بعدما كانت متنفسهم الأول، لافتا إلى أن الوضع قد تغير كثيرًا عما كان عليه.
الفيشاوي لـ “نون بوست” أشار إلى اكتظاظ المكان بالباعة الجائلين حتى تحول إلى ما يشبه السوق، هذا بخلاف المحلات التي أحيطت بجنبات المقهى فأفقدته جزءًا من بريقه، غير أنه ورغم ذلك لا يزال يدافع عن قيمة مقهاه وقامتها، كاشفًا أنها لا تزال قبلة العديد من كبار الشخصيات والسائحين المولعين بأثار مصر القديمة.
” ستظل الفيشاوي علامة بارزة في قلب مصر المحروسة، ونقطة لا يمكن محوها، ورقما هاما في مسيرة التاريخ المصري الحديث، ورغم ما اعتراها من عوامل التعرية الجغرافية إلا أنها ستبقى كما الأهرامات والأزهر، وتُخلد بقيمة محفوظ وأم كلثوم وعبدالناصر، فمن زار مصر ولم يمر على الفيشاوي فما زار مصر حتى الآن”.. هكذا أنهى صاحب المقهى حديثه.