عرفت السياسة الخارجية المغربية في الفترة الأخير تحولات كبرى تنبؤ بتوجه جديد يسعى العاهل المغربي محمد السادس لاتباعه، ففي أخر خطاب له وبصفة فجائية دعا الجزائر إلى “فتح حوار جدي بين البلدين، عبر آلية سياسية يتم الاتفاق عليها”، معبّرا عن استعداد الرباط لمناقشة أي اقتراحات قد تطرحها الجزائر، بهدف تطبيع كامل للعلاقات، وضمان حسن الجوار، وفتح الحدود المغلقة منذ ديسمبر/ كانون الأول 1994، فهل يبحث المغرب عن تكتل إقليمي يضمن له حماية من المخاطر التي تحيط به؟
دعوة تاريخية؟
في خطابه بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء السلمية التي نزل فيها 350 ألف شخص استجابة لنداء العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني لاسترجاع أقاليم الصحراء من الاستعمار الإسباني في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، دعا محمد السادس الجزائر إلى إنشاء إطار سياسي للحوار الثنائي.
حوار، وصفه العاهل المغربي بـ”المباشر والصريح” من أجل “تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية، التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين”، وذلك دون الحاجة إلى وسيط. مؤكدا “مصالح شعوبنا هي في الوحدة والتكامل والاندماج، دون الحاجة لطرف ثالث للتدخل أو الوساطة بيننا”.
https://www.youtube.com/watch?v=jX8pzQuRC5M
قال العاهل المغربي إن بلده “منفتح على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود التي تعرفها العلاقات بين البلدين الجارين الشقيقين”. وأوضح الملك في خطابه أن الآلية المقترحة “يمكن أن تشكل إطارا عمليا للتعاون، بخصوص مختلف القضايا الثنائية، وخاصة فيما يتعلق باستثمار الفرص والإمكانات التنموية التي تزخر بها المنطقة المغاربية”، كما “ستساهم في تعزيز التنسيق والتشاور الثنائي لرفع التحديات الإقليمية والدولية، لاسيما فيما يخص محاربة الإرهاب وإشكالية الهجرة“.
وقال قال في خطاب ألقاه مساء الثلاثاء بمناسبة الذكرى الـ43 لما يعرف في المغرب بـ”المسيرة الخضراء”، إن مهمة هذه الآلية “تتمثل في الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدق وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ودون شروط أو استثناءات“. ووصف محمد السادس وضع العلاقات بين البلدين بأنه “غير طبيعي وغير مقبول”، وقال إن هذا الواقع “لا يتماشى مع الطموح الذي كان يحفز جيل التحرير والاستقلال إلى تحقيق الوحدة المغاربية“.
تغيير البوصلة
سنة 2011، مباشرة إثر اندلاع موجة الربيع العربي انضم المغرب لمجلس التعاون الخليجي، بحثا عن تكتل قوي يحميه من موجات الربيع العربي، فهذا الخوف حينها دفعه إلى البحث عن منظومة سياسية تمثّلت في دول المجلس، ومنظومة عسكرية تمثّلت في درع الجزيرة، تحميه في حالة أي تهديد لاستمرارية الحكم.
هذا التقارب نتج عنه وقوف دول الخليج على رأسهم المملكة العربية السعودية إلى جانب المغرب في صراعه مع جبهة البوليساريو، فما فتئت الرياض تؤكّد دعمها للرباط في قضية الصحراء الغربية، ورفض العاهل السعودي الملك سلمان أي مساس بمصالح المغرب العليا. كما حصدت الرباط منح مالية هامة من دول الخليج ساعدتها على الحدّ من أزمتها الاقتصادية.
من جهته، عمل المغرب طوال الفترة ذاته على تأكيد وقوفه الدائم مع دول الخليج، فهو من أبرز الداعمين والمشاركين في التحالف العربي الذي تقوده السعودية ويهدف إلى دعم الشرعية في اليمن، وأبرز الحاضرين كذلك في التحالف العسكري الإسلامي الذي أعلنته المملكة العربية السعودية الثلاثاء 15 من ديسمبر 2015، الذي تشكل من 34 دولة ووصل لاحقًا عدد أعضائه إلى 39 لمحاربة الإرهاب انطلاقًا من مقره في الرياض.
يرى بعض المتابعين للشأن المغاربي، أن دول المغرب العربي لا يمكن لها أن تبقى في حالة الصراع هذه طوال فترة طويلة
غير أن هذه العلاقات “الحميمية” بين الطرفين لم تدم طويلا، فسرعان ما شهدت فتورا بعد الهزات التي شهدها المجلس، وخاصة بعد أزمة حصار قطر، وقرار المغرب بالحياد الإيجابي من الأزمة وما نتج عنه من تغيير في خطاب السعودية والإمارات تجاه المملكة.
حينها بدأت بوصلة السياسة الخارجية للمغرب، وفق عدد من المحللين، تتغير وتأخذ اتجاها أخر، فقرّر العاهل المغربي محمد السادس سنة 2017 العودة للاتحاد الإفريقي بعد أن انسحبت من منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حاليًا) في العام 1984 احتجاجًا على قبول الأخيرة لعضوية جبهة البوليساريو، التي تطالب بانفصال إقليم الصحراء عن المغرب، كدولة.
بعد توجهها إلى إفريقيا، وطلبها الانضمام لعديد الاتحاد الاقليمية في القارة، هاهي الرباط الأن تتوجه إلى جارتها الشرقية الجزائر رغبة في المصالحة وطي صفحة الماضي، كأن المغرب أصبح يدرك بأن مصيره من مصير المغرب العربي ودول افريقيا وأصبح يتحرك في هذا الاتجاه.
ويرى بعض المتابعين للشأن المغاربي، أن دول المغرب العربي لا يمكن لها أن تبقى في حالة الصراع هذه طوال فترة طويلة لأن العالم يتجه الأن إلى التكتّل، فالحاضر والمستقبل للتكتلات السياسية والاقتصادية، فيما مصير الدولة التي تنكفئ على ذاتها التشتّت والزوال.
سياقات الدعوة
لهذه الدعوة عديد السياقات وفق الباحث المغربي في الشؤون السياسية عمر المروك، الذي يقول، “ينبغي أولا الإحاطة بالسياق العام الذي يواكب هاته الدعوة، محليا واقليميا ودوليا، محليا يواجه البلدان اكراه التنمية الذي يعتبر المدخل الرئيسي للاستقرار الداخلي ونزع فتيل القلاقل الاجتماعية والتذمر الشعبي، إذ أن توفير الأمن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية صار ملحا أكثر من أي وقت مضى.”
وأوضح المروك، أن “هذا لن يتأتى بمجهودات ورؤى أحادية لكل بلد، وإنما بتظافر الجهود وتجاوز خلافات الماضي وفتح ملف القضايا العالقة، وفتح الحدود، وعبر مغرب عربي جديد يعي حجم التحديات الاقليمية الحالية من قبيل التقسيم وموضوع الهجرة السرية والتدخل في شؤون الغير.”
العاهل المغربي محمد السادس
يضيف الباحث المغربي في تصريحه لنون بوست، “احياء اتحاد المغرب العربي سيعطي زخما من حيث امكانيات الاشتغال والتعاون ونوعا من استقلالية القرار السيادي اقتصاديا وماليا، فالملك محمد السادس يدرك أهمية التعاون جنوب جنوب وما يوفره من فرص للاستثمار وتحريك عجلة التنمية للجميع تحت مبدأ رابح-رابح/ ومن جهة أخرى التحرر من قبضة الشركاء الاقتصاديين التقليديين واملاءات المؤسسات المالية الدولية ذات التوجه النيوليبيرالي المتوحش.”
ومن شأن هذه التكتلات، وفق عمر المروك، أن تسهم في التنسيق من أجل محاربة المد الارهابي والهجرة السرية وسيمكن من توحيد المواقف والسياسات في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي والقوى الكبرى مما سيعزز الجبهة الداخلية وسيقلص من التدخل الغربي في التوجهات السيادية والسياسات الاقتصادية التي باتت اليوم سجينة التوازنات المالية والماكرو اقتصادية عوض السهر على خدمة الامن الاقتصادي والاجتماعي للمواطن.“
مواجهة مخاطر قادمة
رئيس المركز الاطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني، عبد الرحيم المنار اسليمي، يرى أن دعوة العاهل المغربي للجزائر لفتح الحدود وإنشاء آلية سياسية للعمل المشترك بهدف حل كل الخلافات الموجودة بين الدولتين مبنية على تشخيص سياسي وجيو استراتيجي لما تعرفه المنطقة وماهي مقبلة عليه.
منذ حصول الجزائر على استقلالها سنة 1962 اتسمت العلاقات الجزائرية المغربية بالتوتر
يقول اسليمي في تصريحه لنون بوست، “هذه المبادرة تعني أن المغرب يملك تشخيصا دقيقا لما هو قادم في المنطقة المغاربية، فالتحولات التي جرت في مجموعة من مناطق العالم يبدو أنها وصلت المنطقة المغاربية لذلك فالمغرب يدعو عبر هذه المبادرة إلى مواجهة تحديات ومخاطر قد تكون وصلت.”
وأكّد رئيس المركز الاطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني، أن “على القادة الجزائريين قراءة مبادرة المغرب بكونه اقترح انشاء آلية ثنائية دون وساطة، فالمغرب قدم مبادرة بعيدا عن الأمم المتحدة ولها علاقة بتحولات إقليمية في المنطقة فاقترح آلية ثنائية للعمل المشترك مع الجزائر في ملفات تهم مستقبل المنطقة.”
قضية الصحراء تعيق التقارب
لئن حمل خطاب محمد السادس مؤشرات قوية على مد اليد للجزائر لكن يبدو أن من الصعب الإمساك بها من الجانب الثاني، إذ يمثل النزاع بشأن الصحراء الغربية أحد أكبر المعوقات التي تواجه العلاقات المغربية الجزائرية. فالجزائر تدعم جبهة البوليساريو التي تطالب بانفصال إقليم الصحراء عن المغرب.
في مقابل ذلك يصرّ المغرب على أحقيته في اقليم الصحراء، حيث أكّد العاهل المغربي في نفس الخطاب، على مبدأ الوحدة الترابية للمملكة مع تمكين “سكان الصحراء من حقهم في التدبير الذاتي لشؤونهم المحلية”، مؤكّدا أيضا دور الصحراء الغربية “التاريخي كصلة وصل رائدة بين المغرب وعمقه الجغرافي والتاريخي الإفريقي”.
ويعتبر ملف الصحراء الغربية أحد أهم الملفات العالقة بين الجزائر والمغرب، وكان لتخلي إسبانيا عن الإقليم بموجب اتفاقية مدريد عام 1957 وإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 بحق شعب الصحراء في تقرير المصير والاستقلال وظهور جبهة البوليساريو كقوة عسكرية تتلقى الدعم من الجزائر، أثرًا في جعل إقليم الصحراء الغربية محور مهم من محاور عدم الاستقرار في العلاقات المغربية – الجزائرية.
تمثل الصحراء الغربية أبرز عوائق التقارب بين الطرفين
يسيطر المغرب على قسم كبير من منطقة الصحراء الشاسعة التي تبلغ مساحتها 266 ألف كلم مربع، مستندًا إلى رأي استشاري لمحكمة العدل الدولية أقر بوجود روابط قانونية وأواصر بيعة بين الملوك المغاربة وشيوخ الصحراء عبر تاريخ البلاد، فيما تطالب البوليساريو، المدعومة من الجزائر، والتي أعلنت قيام جمهورية عربية ديمقراطية، باستفتاء لتقرير المصير، ومنذ 2007، تقترح الرباط منح الصحراء الغربية حكما ذاتيا تحت سيادتها من أجل التوصل إلى حل للأزمة باعتبارها جزءا لا يتجزأ من أراضيه.
هذه الأزمة بين البلدين الجارين لم تكن وليدة اليوم، بل امتداد لأزمات سابقة بينهما، فمنذ حصول الجزائر على استقلالها سنة 1962، اتسمت العلاقات الجزائرية المغربية بالتوتر، وصلت حد المواجهة العسكرية المفتوحة، بعد أن خاضا في بداية الستينيات ما عرف بحرب الرمال بسبب مشكلة الحدود بينهما.
ويتواصل غلق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب للسنة الـ22 بعد إغلاقها منتصف سنة 1994، على خلفية حادث مراكش الإرهابي الذي قرّر عقبه الملك الراحل الحسن الثاني فرض التأشيرة على الجزائريين، ليأتي قرار الرئيس اليامين زروال بغلق الحدود البرية بين البلدين.