قبل عام كان القصف الإسرائيلي في غزة، عقب عملية “طوفان الأقصى”، يستأثر بالاهتمام العربي والدولي الأكبر، أما اليوم فإن اسم الضاحية الجنوبية في بيروت الأكثر انتشارًا ويتصدر الأخبار العربية والعالمية.
خلال أقل من شهرَين ونصف فقط، شهدت الضاحية الجنوبية لبيروت أحداثًا تختصر سنوات من الحروب، فقد بدأت “إسرائيل” بسلسلة اغتيالات كان في مقدمتها رئيس هيئة الأركان في الحزب فؤاد شكر، ثم توالت الاغتيالات التي استهدفت قادة الصف الأول والثاني في الحزب، إلى أن بلغت الذروة باغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، قبل أن تبلغ المشاهد مستوى سريعًا ومتصاعدًا، حتى أصبحت معظم مناطق الضاحية وأحيائها المزدحمة بالسكان خاوية على عروشها.
تتصدر الضاحية التي تعتبر معقل الحزب اليوم نشرات الأخبار، ويتم التعامل إعلاميًا معها ليس على أنها مجرد منطقة في أطراف العاصمة اللبنانية، إنما على أساس أنها “عاصمة داخل العاصمة”، أو بعبارة أدق “دولة داخل الدولة”.
الضاحية عبر التاريخ
حسب المصادر فإن “الضاحية الجنوبية”، كانت تُعرف سابقًا باسم “ساحل النصارى”، ثم باسم “ساحل المتن الجنوبي”، لكن المؤرخ صالح بن يحيى التنوخي (عاش في القرن الخامس عشر) ذكر هذه البقعة الساحلية في إحدى مخطوطاته، حيث روى قصة امتناع سكان قرية البرج عن دفع إقطاع الأرض لأحد الأمراء الدروز، وقتلهم “العبد” الذي أُرسل لهذه المهمة قبل أن يلقوا بجثته في بئر يُعرف مكانه اليوم بـ”بئر العبد”.
بعد استقلال لبنان عام 1943، شهدت البلاد هجرة داخلية من مناطق الريف الفقيرة والمعدومة نحو العاصمة بيروت بحثًا عن العمل والاستقرار، وفي ظل غلاء الأسعار الذي يرافق حياة العواصم عادةً، بدأ الوافدون الجدد بالتكتُّل شيئًا فشيئًا في أطراف بيروت، في مناطق فقيرة لا تصلها الخدمات والمرافق التي توجد في مناطق العاصمة الأصلية، فتشكّلت مجموعة من العشوائيات الصغيرة التي عُرفت لاحقًا باسم “أحزمة البؤس”.
بعد 5 سنوات حلت النكبة الفلسطينية التي أجبرت مئات آلاف الفلسطينيين على ترك ديارهم وأراضيهم والتوجه نحو دول الجوار، سوريا ولبنان والأردن.
في عام 1950 أُنشئ في العاصمة اللبنانية مخيما للفلسطينيين في برج البراجنة جنوب بيروت، على تلة رملية محاذية لطريق المطار، وخلال سنوات قليلة توسّع المخيم وأصبح ملاصقًا لمناطق العشوائيات الفقيرة وجزءًا منها، لتكون تلك المنطقة هي النواة الأولى لما عُرف لاحقًا باسم “الضاحية الجنوبية”.
وتعتبر منطقة حارة حريك، أكبر وأهم مناطق “ساحل المتن الجنوبي”، وكانت في خمسينيات القرن الماضي مقرًّا لمدارس وإرساليات مسيحية مختلفة، إضافة إلى الشياح والغبيري وبرج البراجنة والرمل العالي والأوزاعي وحي السلم والشويفات والعمروسية والليلكي والمريجة وتحويطة الغدير، وأيضًا عين الدلبة والصفير والجاموس وحي ماضي وبئر العبد وحي معوض والمعمورة والرويس والجناح وبئر حسن.
وبدأ التوافد البشري إليها من مناطق جنوب البلاد والبقاع الشرقي، بحثًا عن فرص العمل، فشهدت توسعًا عمرانيًا لافتًا في الفترة الممتدة بين الخمسينيات والسبعينيات، حتى باتت تلك القرى الصغيرة ومزارع الليمون فيها امتدادًا لبيروت وواحدة من أهم وأكبر ضواحيها، وحتى ذلك الوقت، لم تكن تُعرف باسم “الضاحية الجنوبية”، بل احتفظت كل قرية أو مزرعة باسمها الخاص.
خلال الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، شهدت مناطق ساحل المتن الجنوبي توسعًا كبيرًا، قبل أن يقصدها أكثر من 150 ألف شخص من الأحياء الشرقية لبيروت خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ما أدّى إلى نشوء عشوائيات سكنية كثيرة، لتصبح المنطقة خليطًا سكانيًا يمثل صورة مصغّرة عن لبنان، بأكثرية شيعية واضحة نتجت عن نزوح سكان القرى والبلدات الجنوبية.
التحوُّل السياسي
بدأت نقطة التحول الكبيرة في تاريخ الضاحية الجنوبية عام 1974، حين ارتفعت شعبية رجل الدين الشيعي القادم من إيران موسى الصدر، بعد إنشائه مدارس ومنظمات وجمعيات خيرية، ثم أسّس هناك، وتحديدًا في بلدة الشياح، “حركة المحرومين”، المعروفة حاليًا باسم “حركة أمل”، وأطلق على الضاحية اسم “ضاحية المحرومين”، قبل 4 سنوات من رحلة قام بها إلى ليبيا عام 1978 حيث فُقد أثره هناك، بينما كان اليسار اللبناني يسمّيها “ضاحية البؤس”، لأنها تضمّ في غالبيتها سكانًا نازحين وفقراء.
وفي 1976 أسّس المرجع الديني الشيعي محمد حسين فضل الله أول حوزة دينية بالمنطقة في حارة حريك، ثم توالى إنشاء الحوزات التي امتدّ تأثيرها من الطابع الديني المعروف للحوزات إلى النشاطات السياسية والاجتماعية الواسعة.
وفي 1982 كان “حزب الله” تنظيمًا جديدًا وُلد برعاية إيرانية من مجموعات الحركات الشيعية في الضاحية الجنوبية، وضمّ نخبة القيادات والناشطين في تلك الجماعات، وخاضَ أول مواجهة عسكرية مع الجيش الإسرائيلي في محلة الأوزاعي، خلال اجتياح بيروت والجنوب اللبناني صيف العام 1983 لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وخلال تلك المرحلة لم تكن الضاحية الجنوبية مجرد منطقة عشوائيات، إذ أسهم ارتفاع شعبية “حزب الله” فيها إلى تغيير هويتها وأصبحت مركز ثقل سياسي وعسكري وأمني.
الازدهار العمراني
وبعد فترة الاجتياح استطاع “حزب الله” بدعم مالي إيراني أن يطور لاحقًا في بنيتها التحتية، ويرفع مستويات مشاريعه التعليمية والخدمية والخيرية، حتى أسّس هناك لقاعدة شعبية قوية جعلت سكان الضاحية يدينون له بالولاء على اختلاف مشاربهم الدينية وانتماءاتهم السياسية.
وأصبح اسم الضاحية آنذاك “ضاحية المستضعفين”، في إشارة تحمل مدلولَين: الأول اجتماعي يشير إلى المستوى الطبقي لسكّان الضاحية الذين يشكّل النازحون وطالبو العمل غالبيتها، والثاني مدلول سياسي يشير إلى فئة من الشباب المقاومين الذين يواجهون جيش الاحتلال الإسرائيلي بأسلحة وإمكانيات بسيطة.
وتحولت أحياء الضاحية من مناطق عشوائيات فقيرة ومهمّشة، إلى منطقة ذات هوية سياسية وأمنية ودينية ملتزمة، وأحد رموز مقاومة الاحتلال في لبنان.
خلال حرب تموز عام 2006، كانت الضاحية الجنوبية -كما هي اليوم- مسرحًا لعمليات قصف إسرائيلية واسعة طالتها مع مناطق الجنوب اللبناني، وتعرّضت لتدمير واسع خلال 34 يومًا من عمر المواجهات، غير أن تلك المرحلة أفرزت ازدياد ثقل “حزب الله”، ورفعت رصيد أمينه العام حسن نصر الله في دوائر صنع القرار الإيراني، التي استثمرت إحجام الحكومة اللبنانية عن إعادة الإعمار.
حيث ساهمت بشكل مباشر في صناعة “ضاحية جديدة”، لا تنطبق عليها أوصاف “العشوائيات” أو “ضاحية المحرومين”، وأصبحت تعجّ بالأبنية الشاهقة والحديثة، والبنية التحتية المتطورة والشركات والمشافي والشوارع العريضة، وامتدّت أفقيًا الى مسافات جديدة، ووصلت إلى حدود الحدث والشويفات وسن الفيل.
تنقسم اليوم آراء سكان الضاحية الجنوبية، الذين يشاهدون مناطقهم وهي تتعرض لقصف لم يشاهدوه عام 2006 أو عام 1982، إذ يقول بعضهم إن الضاحية -رغم التدمير- ستعود أفضل ممّا كانت، وهم في غالبيتهم من جمهور “حزب الله”، الذي يعتقد أن الحرب الحالية ستنتهي دون أن تقضي على الحزب، بينما يعبّر آخرون عن مخاوف كبيرة بأن “إسرائيل” اتخذت قرارها باجتثاث الحزب من الوجود في لبنان، وبالتالي إن معقله القوي في الضاحية سيحتاج عشرات السنين ليعود كما كان قبل نحو شهر من الزمن.