ترجمة وتحرير: نون بوست
مؤخرا، باتت شركة واتساب محط اهتمام الأخبار، تماما مثل الشركة الأم، فيسبوك. خلال الانتخابات الرئاسية البرازيلية الأخيرة، تواترت مزاعم بأن مجموعة من الداعمين الأثرياء للفائز المحتمل جايير بولسونارو، دفعت أموالا لصالح جيش من التابعين في موقع واتساب لنشر معلومات كاذبة ومضللة عن منافسه. ومن بين المعلومات الغريبة للغاية، تلك التي تدعي أن منافس بولسونارو، فرناندو حداد كان يخطط لتوزيع رضاعات في شكل العضو الذكري على الأطفال لمجابهة رهاب المثلية الجنسية. من جانبهم، تفاعل مناصرو حداد مع هذا الخبر من خلال شن هجومهم الإعلامي الخاص. وقد برز مجال تقصي الحقائق في البرازيل لمناهضة الإشاعات، وسرعان ما تحول متقصو الحقائق أنفسهم إلى ضحية إحدى حملات التضليل الإعلامي.
تعد شركة واتساب مختلفة تماما عن فيسبوك، الأمر الذي جعلها تمثل عائقا للشركة التي عمدت إلى الاستيلاء عليها. وانطلاقا من لغة التسويق وفقا لاستراتيجية النمو المتنوع، المتداول في كل من فيسبوك وواتساب، تجسد الشركتان “اختبار A/B”، أي تجربة متزامنة لظروف مختلفة أدت، في هذه الحالة، إلى نتائج متماثلة.
في البداية، لا بد من التعريف بتطبيق واتساب، خاصة بالنسبة للأمريكيين الذين لا يستخدم عدد كبير منهم هذه الخدمة. يمثل واتساب تطبيق إضافي وبسيط لتبادل الرسائل على الهاتف الجوال، وهو أشبه بخدمة آي ماسج من أبل وهانغاوتس من غوغل، وأقل تعقيدا بكثير من خدمة ماسنجر، التي تشكو من عديد الثغرات، التابعة لفيسبوك. عموما، يبدو واتساب مثل مشروع لطالب طموح في مجال تطوير تطبيقات الهاتف الجوال: يمكنك إرسال وإعادة توجيه رسائل لأشخاص ضمن قائمة جهات الاتصال في هاتفك، وإنشاء مجموعات معهم، هذا كل شيء. (مؤخرا، عمد التطبيق إلى إضافة خاصية المكالمات الصوتية وعن طريق الفيديو).
يتطابق التغيير الذي أحدثه سكايب على مستوى الاتصالات الدولية، حيث جعل المكالمات الباهظة، مكالمات مجانية تعتمد بالأساس على استخدام الإنترنت، على ما قام به واتساب بالنسبة للإرساليات القصيرة
بالنسبة للأشخاص الذين ليسوا على دراية بعالم واتساب، قد يبدو من الصعب فهم أهمية ومدى تأثير التطبيق، أو لماذا أنفقت شركة فيسبوك 22 مليار دولار لشراء هذه الشركة التي يعمل ضمنها 50 شخصا فقط. في الواقع، لم أتمكن بدوري من إدراك ماهية هذا الأمر إلى أن انتقلت إلى إسبانيا في سنة 2015، وسريعا أدركت أنني سأصبح منبوذا اجتماعيا في حال لم أتحول إلى أحد مستخدمي واتساب. في دول حيث يسطر واتساب بشكل مطلق، يحيل التطبيق إلى التراسل عبر الهاتف، ويمثل الطريقة التي يتحدث من خلالها الأشخاص إلى بعضهم البعض.
كيف تمكن تطبيق بسيط وبدائي للغاية من تحقيق هذه الهيمنة العالمية؟ لقد اقتنص مؤسسو واتساب فرصة أتيحت عن طريق مستخدمي الهاتف، الذين كان معظمهم من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، والذين كانوا يضطرون إلى دفع مبالغ كبيرة للتراسل عبر الهاتف. وبالتالي، عمد هؤلاء الأشخاص، عوضا عن ذلك، إلى إنشاء تطبيق تراسل يعتمد على الاتصال بالإنترنت أرخص بكثير.
في الواقع، يتطابق التغيير الذي أحدثه سكايب على مستوى الاتصالات الدولية، حيث جعل المكالمات الباهظة، مكالمات مجانية تعتمد بالأساس على استخدام الإنترنت، على ما قام به واتساب بالنسبة للإرساليات القصيرة. وبمجرد نجاح التطبيق في ترسيخ ركيزة له قائمة على تأثير الشبكة، لم يعد هناك مجال لإيقافه، الأمر الذي دفع فيسبوك إلى شرائه مهما كلف الثمن.
دور المجموعات
من أبرز الخصائص المميزة لواتساب، مجموعات التراسل. من خلال الانضمام إلى نشاط أي مجموعة، ستجد نفسك قد أضفت إلى مجموعة تراسل أكبر، التي ستجعل الرسائل الواردة عليها دون توقف، هاتفك يرن بشكل متواصل، إلى أن وفي لحظة انزعاج، ستعمد إلى مغادرة المجموعة أو إيقاف الإشعارات. ستشعر في الغالب وكأنك داخل مكان صاخب حيث يكون الجميع بصدد الصراخ والحديث بصوت عال إلى بعضهم البعض. وعلى الرغم من ذلك، وفي ظل الاستخدام المكثف والمتواصل لواتساب، سيرغب العديد من المستخدمين في العيش إلى الأبد في ذلك المكان الصاخب.
ليس هناك أي إعلانات ضمن تطبيق واتساب، حيث لن تجد أيا من التجار الباحثين عن جذب انتباهك من خلال أيقونة، الذين يحولون أي قدر بسيط من انتباهك إلى دولارات
على خلاف فيسبوك، يعد واتساب أكثر أهمية بالنظر إلى الخاصيات التي يفتقر لها. ففي هذا التطبيق لا يوجد شريط الأخبار الغامض مع خوارزميات تتسم بالعديد من العيوب، التي يرجح أنها تعمل على خلق فقاعة ترشيح على الإنترنت التي من شأنها التحكم في طريقة تفكير المستخدمين والتأثير عليهم بشكل خطير. في الأثناء، ليس لواتساب (أو مارك زوكربيرغ) أي تأثير على ما تقرأ أو تشاهد، حيث أن القرار في ذلك يعود بشكل أساسي إلى اختيارات الأشخاص الذين تتواصل معهم.
ضمن تطبيق واتساب ليس هناك تعقب لبيانات المستخدمين، فبفضل توجهات مؤسسيي التطبيق المساندة للتشفير، نحو اعتماد تستند الرسائل على هذه المنصة إلى خاصية التشفير حتى النهاية، مما يجعلها محمية حتى من التطبيق في حد ذاته. ولا يمكن لفيسبوك أو واتساب على حد السواء، أن تتطلع على محتوى الرسائل ومن ثم إعداد محتوى أو إعلانات موجهة لذلك المستخدم.
بالحديث عن ذلك، ليس هناك أي إعلانات ضمن تطبيق واتساب، حيث لن تجد أيا من التجار الباحثين عن جذب انتباهك من خلال أيقونة، الذين يحولون أي قدر بسيط من انتباهك إلى دولارات. كما لن تجد أي سياسيين يحاولون توجيه مسار تصويتك من خلال الإعلانات، على الأقل ليس بشكل مباشر. في الحقيقة، مول التطبيق نفسه منذ بدايته من خلال رسوم سنوية متواضعة للغاية لا تتجاوز 1 دولار، الأمر الذي ألغته شركة فيسبوك بعد عملية الاستحواذ.
على ضوء ما ذكر آنفا، لا يتسم تطبيق واتساب بأي من خاصيات فيسبوك “الشريرة” المثيرة للجدل. وعلى الرغم من ذلك، بات التطبيق محور العديد من التجاذبات مؤخرا. ويثير هذا الأمر سؤالا مهما: ما هي المكونات التي تجعل من منصة تواصل اجتماعي بمثابة سلاح، أي الخاصيات التي تتشارك فيها كل المنصات من هذا القبيل، انطلاقا من واتساب وصولا إلى فيسبوك وتويتر وغيرها من المواقع المشابهة؟
من المبتذل المقارنة بين الثورة الرقمية وثورة الهاتف وآلة الطباعة التي تعود إلى غوتنبرغ، لكن المقارنة تستقيم
بالنسبة للمبتدئين، يتمثل جوهر الأمر في جعل هويتك على الإنترنت افتراضية من خلال تطبيق يمتد إلى جميع الأجهزة الإلكترونية التي تملكها، ومن ثم جعل تلك الهوية ذات طابع عالمي بين جميع رفاقك وأبناء جيلك. وقد اكتشفت فيسبوك هذا البعد من خلال الانبثاق في صلب الحياة الاجتماعية المترابطة بشكل وثيق في الكليات، وحشد المستخدمين، ومن ثم الانطلاق من هناك للتوسع في الخارج. كل الأشخاص الذين تعرفهم موجودون بالفعل على هذه المنصة، ولا يمكن أن يكون لك مكانة اجتماعية إذا لم تكن أحد مستخدمي هذه التطبيقات، والأمر ينطبق على واتساب خارج الولايات المتحدة، تماما كما هو الحال بالنسبة لفيسبوك داخل الولايات المتحدة.
الهواتف الذكية باتت تمثل امتدادا لأدمغتنا
أصبح هذا الأمر ممكنا من خلال تطور أخر، برز في توقيت مثالي بالنسبة لتطبيق واتساب: وصل كل دماغ بشري بهاتف ذكي، والتدريبات اللامتناهية لتعزيز هذا الاتصال، الأمر الذي يذكرنا بكلاب بافلوف، التي حولت معظمنا إلى سايبورغ يتمتع بمدارك ومعارف، ليصبح بذلك الهاتف الذكي امتدادا لأدمغتنا.
بالتالي، وحتى وإن كان واتساب يفتقر لخاصية شريط الأخبار والإعلانات، يحتوي التطبيق على الخصائص الوظيفية الأساسية التي تجعل من أدمغتنا ذلك الوسيط الاجتماعي المتبلد والمشتت الذي يسبق العصر النصي للمحررين والموسوعات. وحسب ما وصفه أحد الأقوال السائدة القديمة التسويقية لفيسبوك، بات الأمر أقرب “إلى كلام منقول على نطاق واسع”. في الحقيقة، يتمحور الأمر حول هذه الوصلات ذات الطبيعة البشرية القديمة، التي تطورت في زمن ظهر فيه بضع عشرات من الاتصالات الاجتماعية وصولا إلى بروز شبكة الإنترنت التي تمتد إلى جميع أنحاء العالم، والتي تمثل المشكل الفعلي.
من المبتذل المقارنة بين الثورة الرقمية وثورة الهاتف وآلة الطباعة التي تعود إلى غوتنبرغ، لكن المقارنة تستقيم. فتماما على غرار زوكربيرغ أو مؤسسي واتساب، حصد غوتنبرغ، ما يمكن أن نطلق عليه فقط رأس المال الاستثماري مقابل فكرته المحفوفة بالمخاطرة. فقد كان يتوجب عليه حل المشاكل التقنية من خلال الانتقال من المخطوطات الكتابية المنقوشة بالذهب، والرهبان الذين يكدحون داخل المنسخ، إلى نصوص قابلة للتعديل والطباعة، التي يمكننا تبين تجسيدها التقني من خلال نظام كيندل. وقد تطلب الأمر نوعا جديدا من الورق والحبر، بل كان من الضروري اختراع مفهوم في عائلة الخط حد ذاته.
أتخذت شركة فيسبوك خطوة مثيرة للاهتمام في البرازيل بهدف التصدي للتأثير السلبي لواتساب، حيث عمدت إلى الحد من إمكانية إعادة توجيه الرسائل إلى نحو 20 شخصا فقط، علما وأن الحد الأقصى المتاح في السابق كان في حدود 250
نحن غالبا ما نفهم حقيقة ثورة الإنترنت، مع التطورات التكنولوجية التدريجية التي رافقتها انطلاقا من أجهزة توجيه الألياف البصرية إلى البريد الإلكتروني وصلا إلى متصفحات الويب والهواتف الذكية، على أنها أمور منفصلة اندمجت بشكل تدريجي. ويعزى ذلك إلى أننا نعيش هذه اللحظة التي تتشكل فيها معالم هذه الثورة. ولكن المؤرخين في المستقبل الذين سيعملون على دراسة تاريخنا، كما عمدنا إلى التطرق إلى غوتنبرغ، سيجمعون حزمة من المصطلحات المرتبطة بهذا الأمر، حتى يتوصلوا إلى مصطلح شامل لوصف الثورة التقنية، تماما كما نحيل إلى تلك الثورة السابقة باستخدام العبارة الشاملة البسيطة “آلة الطباعة”.
عندما يعودون إلى ماضينا، سيبحث المؤرخون في كيفية توصلنا لحل بشأن صراعنا بين النزعة القبلية في مواجهة العولمة، وسيتجاهلون أي أحداث درامية دقيقة حول زوكربيرغ أو قانون الذي وضعه الاتحاد الأوروبي والذي يعرف بالنظام الأوروبي لحماية البيانات العامة أو الفضيحة الأخيرة التي واجهتها شركة فيسبوك بشأن تسريب البيانات. لنكن صريحين، هل يمكن للهبات المقترنة بعصر التنوير، التي تكمن في الديمقراطية الليبرالية التي تحكم الدول التعددية القومية، وسيادة الحقيقة التجريبية على حساب الفلكلور بما يحمله من أساطير وخرافات و”الأخبار الزائفة”، أن تتماهى مع التكنولوجيا التي تعمل على دفعنا للعودة إلى الخطاب السائد في عصر ما قبل التنوير: نحن ضد الآخرين، سطوة العواطف على حساب العقل، العابر والمشتت على حساب ما هو مثبت من خلال الحقائق ومتواصل.
اتخذت شركة فيسبوك خطوة مثيرة للاهتمام في البرازيل بهدف التصدي للتأثير السلبي لواتساب، حيث عمدت إلى الحد من إمكانية إعادة توجيه الرسائل إلى نحو 20 شخصا فقط، علما وأن الحد الأقصى المتاح في السابق كان في حدود 250. وبالتالي، بات الحد الأقصى أدنى بكثير مما يعرف برقم دنبار ألا وهو العدد الأقصى من الأشخاص الذين يستطيعون تكوين علاقات اجتماعية قوية ( حوالي 150). في ظل هذا التغيير، لم يعد بإمكان المستخدمين نشر الإشاعات المسيئة أو أخبار زائفة أو فيديوهات مضللة لكل أفراد عائلاتهم وأصدقائهم. وستمكن هذه الخطوة، من التخفيض أو إيقاف تدفق المعلومات الخاطئة، والقضاء على أي إمكانية لتبادل الشائعات داخل المجموعات على نطاق واسع.
في الأثناء، من الواضح أن فيسبوك لا تعتزم إلغاء الحد الأقصى لإعادة توجيه الرسائل الذي فرضته، حتى بعد انتهاء الانتخابات في البرازيل. في الوقت الراهن، توصلت الشركة إلى حكم مفاده أن قوة مجموعات التراسل العالمية التي لا تخضع لعملية ترشيح، لا تتلاءم مع التناغم الاجتماعي.
لا نزال في بداية عصرنا الجديد. لقد كان هناك نحو 70 سنة بين نجاح غوتنبرغ، في طباعة أول كتاب وتقديم لوثر لأول أطروحاته. لم نبدأ بعد في تبين الآثار الفعلية آلة الطباعة خاصتنا، أي الهاتف الذكي الذي يمثل وسيطا اجتماعيا وحلقة وصل عالمية، ولكن من الأفضل أن نستعد لعالم يكتسح فيه الهاتف الذكي كل شيء. هل سيكون الحل في تعزيز قوة الهياكل التي أنشأت العالم كما نعرفه اليوم أم أن الأمر سيتطور متجاوزا هذه المؤسسات التي باتت تحتضر وصولا إلى طرق جديدة تمثل الوسيط في صلب ترابطنا العالمي؟
كشفت دراسة جديدة أجراها “مركز بيو للدراسات” أن الشباب قادرون على تحديد الفرق بين الحقائق والآراء أفضل من كبار السن. ربما سيتمكن الجيل الجديد، الذي ولد في عالم حيث الترابط العالمي أمر حتمي، في حين أن الدور القيادي لمجلة وايرد أو نيويورك تايمز غير مرحب به، بطريقة ما من إيجاد حل مشترك للحفاظ على الهياكل مثل الديمقراطية في الوقت الذي تتلاشى فيه قوة محرري الصحف. ستعتمد نجاة الحضارة التي بناها البشر منذ أول رسالة كتبت بالحبر على هذا الأمر.
المصدر: وايرد