شن قائد ميليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، هجومًا لاذعًا على القاهرة، متهمًا الجيش المصري بالمشاركة في الضربات الجوية على قواته في منطقة جبل موية، قائلًا في مقطع فيديو مسجل له، وتمت إذاعته مساء الأربعاء 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إن قواته “قُتلوا وضربوا غدرًا بالطيران المصري”، وفق تعبيره.
وأضاف حميدتي: “صمتنا كثيرًا على مشاركة الطيران المصري في الحرب حتى يتراجعوا لكنهم تمادوا الآن”، وكشف عن تدريب القاهرة لعناصر من الجيش السوداني وإمداده بطائرات مسيّرة، لافتًا إلى أن القنابل التي تلقيها الطائرات المصرية على قواته أمريكية الصنع، كم اتهم من 6 إلى 7 دول، لم يسمها، بدعم الطرف الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
واختتم قائد قوات الدعم السريع مقطعه المصور الذي بلغ قرابة 35 دقيقة بتحية عناصر قواته، موجهًا رسالة لجهود السلام المبذولة خلال الآونة الأخيرة قائلًا: “الحرب دي مو معروف هتنتهي الليلة ولا سنة ولا سنتين ولا تلاتة ولا أربعة. في ناس بتتكلم عن مليون جندي. بقدرة الله الدور ده هنوصل لمليون جندي”.
وتعد هذه هي المرة الأولى التي يتهم فيها حميدتي القاهرة بدعم الجيش السوداني في الحرب الدائرة منذ 15 أبريل/نيسان 2023، وهو ما يعد تحولًا لافتًا في مسار المعركة التي حاولت فيها مصر التزام الصمت والتأكيد أكثر من مرة على الوقوف على مسافة واحدة من طرفي الصراع والقيام بدور الوساطة لتخفيف التوتر على الجبهة الجنوبية.. فما حقيقة تلك الاتهامات؟ وهل شاركت مصر فعليًا في تلك الحرب؟
نفي مصري سريع.. على عكس العادة
بعد أقل من ساعة واحدة فقط من بث هذا المقطع المصور الذي أثار الكثير من الجدل خرجت الخارجية المصرية ببيان رسمي – على عكس العادة – نفت فيه تلك الاتهامات التي وصفتها بـ”المزاعم” التي تأتي في “خضم تحركات مصرية حثيثة لوقف الحرب وحماية المدنيين وتعزيز الاستجابة الدولية لخطط الإغاثة الإنسانية للمتضررين من الحرب الجارية بالسودان الشقيق”.
البيان ولأول مرة يصف حميدتي بـ”قائد ميليشيات الدعم السريع”، وهو تحول واضح في الخطاب الرسمي المصري الذي كان يتعامل مع الدعم والجيش كـ”طرفي صراع” دون تسمية الدعم بـ”الميليشيات”، الأمر الذي يكشف هوية الموقف المصري الذي كان يتسم بالغموض إزاء تلك المعركة.
ودعت الخارجية المصرية في بيانها المجتمع الدولي للوقوف على الأدلة التي تثبت حقيقة ما ذكره قائد ميلشيا الدعم السريع، مؤكدة على “حرصها على أمن واستقرار ووحدة السودان الشقيق أرضًا وشعبًا، وتشدد على إنها لن تألو جهدًا لتوفير كل سبل الدعم للأشقاء في السودان لمواجهة الأضرار الجسيمة الناتجة عن تلك الحرب الغاشمة”.
سرعة إصدار القاهرة لبيان تنفي فيه اتهامات حميدتي، بجانب أنه رسالة واضحة لأهمية المشهد السوداني بالنسبة لقائمة أولويات الجانب المصري، تعد في الوقت ذاته نقطة تحول كبيرة في التعاطي المصري مع الاتهامات الموجهة إليها إزاء الملفات الإقليمية من دول الطوق تحديدًا، على عكس المتعارف عليه في مسائل أخرى حيث كان التجاهل سيد الموقف، ما يفتح الباب أمام الكثير من التكهنات والتخمينات التي تضع الدولة المصرية في حرج كبير داخليًا وخارجيًا.
عودة قليلة للخلف.. سياق مهم للفهم
قبل اندلاع حرب الجنرالات الحالية منذ عام ونصف تقريبًا لم تكن العلاقات بين القاهرة والخرطوم في سياقها المستقر على طول الخط، إذ شهدت موجات من الصعود والهبوط بسبب تباين وجهات النظر إزاء بعض الملفات التي وترت الكثير من المحطات في تلك العلاقة.
ويأتي على رأس تلك الملفات “حلايب وشلاتين” حيث العزف السوداني بين الحين والآخر على أحقيته فيهما رغم الإدارة والسيطرة المصرية عليهما تاريخيًا، هذا بخلاف أزمة تأشيرات الإقامة ولجوء الخرطوم لاستراتيجية “المعاملة بالمثل” حيث فرض تأشيرات على المصريين الراغبين في السفر لديها كما تفعل القاهرة.
ومنذ 2012 توترت الأجواء بين البلدين بسبب احتضان السودان لعدد من المعارضين المصريين وهو ما اعتبره نظام عبد الفتاح السيسي تهديدًا له، خاصة بعد رفض الجانب السوداني التماهي مع الطلبات المصرية بشأن تسليمهم، لكن الأجواء سرعان ما هدأت رياحها بعد تجاوب نظام عمر البشير – قبل الإطاحة به في 2019 – مع هذا الطلب ودفعهم إما لمغادرة الأراضي السودانية وإما تسليمهم للسلطات المصرية.
ثم جاء ملف “سد النهضة” كحلقة جديدة في مسلسل توتير العلاقات المصرية السودانية، خاصة بعد التقارب الواضح بين الخرطوم وأديس أبابا، والتعاطي الإيجابي السوداني مع السردية الإثيوبية في مشروع السد، وإن تراجع مؤخرًا بعد اشتعال الصراع على الحدود السودانية الإثيوبية، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على العلاقات مع القاهرة.
وما أن اندلعت المعركة بين البرهان والجيش السوداني من جانب، وحميدتي وقواته من جانب آخر، حاول الجانب المصري التزام الصمت، معتبرًا أن ذلك شأنا داخليًا، مكتفيًا بالتصريحات المحفزة للطرفين لتخفيف حدة التوتر، والحديث عن القيام بدور الوساطة للتقريب بين وجهتي النظر حقنًا للدماء وإنهاء لتلك الحرب التي دمرت السودان وقوضت موارده ودفعت الملايين من الشعب للنزوح، داخليًا وخارجيًا، كان لمصر النصيب الأكبر منه.
ينطلق نظام السيسي في عقيدته السياسية والعسكرية من مرتكز دعم الجيوش النظامية في مواجهة أي كيانات مسلحة فرعية، وهو السبب الرئيسي في دعم نظام بشار الأسد في وجه المعارضة رغم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها بحق شعبه، لكن المشهد السوداني ربما تم التعامل معه بشيء من الاستثناء.
لم ترغب القاهرة الإفصاح علانية عن موقفها الرسمي إزاء طرفي الصراع، خاصة في ظل التوترات التي تعاني منها العلاقات مع الخرطوم بين الحين والآخر، وعليه كان استشراف المشهد للوقوف على مخرجاته وتقييمه بشكل دقيق، بعد تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين في المشهد، هو الخيار الوحيد، فأيهما يخدم المصالح المصرية سيكون فرس الرهان، وإن كان هذا لا ينفي الميل نسبيًا نحو دعم الجيش السوداني في مواجهة الدعم السريع.
دعم مصري مبكر للجيش السوداني
في الأيام الأولى من بدء حرب الجنرالات أعلنت قوات الدعم السريع عن احتجازها لعدد من الجنود المصريين، يقدر عددهم بنحو 27 عسكريًا، كانوا في تدريب مشترك مع القوات السودانية في قاعدة مروي في شمال البلاد، وهي الواقعة التي أثارت حفيظة القاهرة بشكل كبير ووضعت النظام هناك في مأزق كبير.
بعدها بوقت قصير أعلن الجانب المصري مقتل مساعد الملحق الإداري بسفارة القاهرة في الخرطوم، محمد الغراوي، وذلك في أثناء توجهه إلى مقر سفارة بلاده لمتابعة إجراءات الإجلاء الخاصة بالمواطنين المصريين في السودان، دون معرفة هوية الجهة التي استهدفته.
في 19 أبريل/نيسان 2023 نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية تقريرًا كشفت فيه عن إرسال الجيش المصري دعمًا لنظيره السوداني، عبارة عن طائرات مقاتلة وطيارين وشحنات من السلاح، كما نقلت عن مسؤول عسكري بالجيش إن طائرة مصرية دمرت مستودعًا للذخيرة كان تسيطر عليه قوات الدعم السريع.
وقبل ذلك بيومين نشرت مجلة “ذا وور زون” الأمريكية، المهتمة بالشؤون العسكرية، صورًا ملتقطة بالأقمار الصناعية أظهرت تدمير قوات الدعم السريع لطائرة مصرية على الأقل من طراز ميغ-29 في قاعدة مروي الجوية السودانية، مشيرة إلى احتمالية تعرض عدد من الطائرات المصرية الأخرى للتدمير، في إشارة إلى وجود واضح للجيش المصري في السودان لدعم جيش البرهان، بحسب المجلة.
مقاربات القاهرة إزاء حرب الجنرالات
إن كانت مصر تدعم الجيش السوداني بقيادة البرهان في مواجهة حميدتي وقواته، منذ اليوم الأول للحرب، وفق عقيدة النظام المصري العسكرية، فلماذا لا يتم الإعلان عن ذلك مباشرة وبشكل علني؟ ولماذا لم يستمر هذا الدعم على طول الخط؟ كذلك لماذا أنكر الجانب المصري كل ما يتردد حول تلك الأنباء؟ وعلى العكس من ذلك قادت القاهرة جولة مفاوضات ووساطة لحل الأزمة بين طرفي الصراع في السودان.
ويرجع ذلك إلى عدة مقاربات وضعتها القاهرة في الحسبان في تعاطيها مع تلك الحرب على رأسها:
أولًا: تجنب مصر – إذا ما أعلنت عن دعمها الرسمي للبرهان – توريط نفسها كطرف في تلك الحرب، بما يترتب على ذلك من تهديدات مباشرة، فضلًا عن فقدانها فرصة القيام بدور الوساطة لتخفيف الأجواء المتوترة على جبهتها الجنوبية.
ثانيًا: خشية نظام السيسي الصدام مع حلفائه الداعمين لقوات الدعم السريع:
-الإمارات.. التي تعد الداعم الأبرز لحميدتي الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع أبناء زايد، حيث ذكرت صحيفة “تلغراف” البريطانية عثور الجيش السوداني على قذائف حرارية بحوزة قوات الدعم، تسلمتها الإمارات من صربيا عام 2020 ، بجانب الاتهامات المباشرة الصادرة عن جنرالات الجيش السوداني والتي تتهم أبو ظبي بالوقوف خلف حميدتي عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا ومحاولة تغيير المشهد العسكري في السودان من خلال استبدال الجيش بقوات الدعم.
-الجنرال الليبي خليفة حفتر.. الذي لم يتوان عن رد الجميل لقائد قوات الدعم السريع الذي دعمه في معركته داخل الأراضي الليبية، وشريكه الاقتصادي المهم لدى كل من أبو ظبي وموسكو، حيث ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن حفتر كان قد أرسل مساعدات عسكرية إلى السودان، عبر طائرات مجهزة تنقل إمدادات عسكرية إلى قوات الدعم السريع يوم 17 أبريل/نيسان 2023 أي بعد اندلاع الحرب بين الطرفين بيومين فقط.
-الكيان الإسرائيلي المحتل.. تمثل تل أبيب جهة دعم قوية لحميدتي في مواجهة الجيش رغم الشوط المتقدم الذي قطعته الخرطوم لتطبيع العلاقات رسميًا مع الكيان المحتل، حيث نقل موقع “المونيتور” الأمريكي عن مصادر إسرائيلية دعوة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” لحميدتي لزيارة “إسرائيل” سرًا، لافتًا إلى أن الدعم الإماراتي له على رأس الدوافع التي قادت تل أبيب لتبني الموقف ذاته.
وفي ظل مقاربات القاهرة التي تراعي تجنب الصدام مع حلفائها الثلاث، بجانب روسيا، كان التزام الصمت وعدم الإعلان عن دعم الجيش السوداني أو الاكتفاء بما قدمته من دعم بداية الحرب فقط، هو الخيار الأمثل التي يحافظ به نظام السيسي على كل الأوراق دون خسارة أي منها، حتى جاءت تصريحات حميدتي لتقلب الطاولة وتعيد الموقف المصري من تلك الحرب على طاولة النقاش مرة أخرى.
تصريحات حميدتي.. قراءات
بداية لا يمكن أخذ تصريحات حميدتي بضلوع الجيش المصري في تلك الحرب دعمًا للبرهان على محمل الجزم والحسم، وهو ما يتطلب قراءتها على 3 قراءات متباينة:
التدخل الفعلي للجيش المصري، وهو ما يحمل سيناريوهين، الأول أن تكون الإمارات قد رفعت يدها فعليًا عن حميدتي وقواته، خاصة بعد امتعاض الولايات المتحدة لدعمها المطلق له خلال زيارة محمد بن زايد لواشنطن قبل أيام، وقد يفسر ذلك الخسائر التي منيت بها قوات الدعم لحساب الجيش السوداني خلال الأسبوعين الماضيين.
وهنا قد تمنح أبو ظبي القاهرة الضوء الأخضر لشن عمليات ضد حميدتي دون أن يؤثر ذلك على العلاقات بين البلدين، خاصة بعد اللقاء الذي جمع السيسي وابن زايد في مدينة العلمين المصرية (شمال) منذ أيام قليلة، الذي لا يُستبعد أن يكون تضمن مناقشة هذا الملف.
فيما يتعلق السيناريو الثاني – الذي قد يكون الأقل حظًا – بالتململ المصري من استمرار النزاع في السودان لما لذلك من تداعيات كبيرة على الجانب المصري، حيث زيادة معدلات النزوح وتحويل الحديقة الجنوبية لمصر لساحة كبيرة لأجندات خارجية، وهو ما دفع القاهرة للتحرك لدعم الجيش لحسم المعركة سريعًا قبل خروج الوضع عن السيطرة، وهو السيناريو الذي ربما يوتر العلاقات المصرية الإماراتية التي تحيا مؤخرًا حالة من التناغم الكبير رغم تباين وجهات النظر بينهما إزاء العديد من الملفات التي تهدد الأمن القومي المصري.
ابتزاز حميدتي لحلفائه.. وهنا يحاول قائد قوات الدعم السريع استنفار حلفائه وابتزازهم لضمان استمرار تدفق الدعم المقدم له، لا سيما بعد الضغوط الممارسة أمريكيًا على الإمارات لتحجيم دعمها له، مستفيدًا من حساسية هذا الملف بالنسبة للجانب المصري وصراع النفوذ الخفي مع الإمارات إفريقيًا.
وهنا يبعث حميدتي برسالة مباشرة لحلفائه الإماراتيين مفادها “أنا ومن بعدي الطوفان” وأنه في حال تخليهم عنه فقد يلجأ إلى استراتيجيات أخرى من شأنها ضرب المصالح الإماراتية في القارة الإفريقية، سواء في ليبيا أم القرن الإفريقي الذي تبذل الإمارات الغالي والنفيس لأجل تعظيم نفوذها هناك.
تبرير الفشل ميدانيًا.. حيث ساهم دعم الحلفاء للجيش السوداني خلال الآونة الأخيرة في تقوية شوكته على حساب قوات حميدتي، وهو ما أسفر عن تحقيقه انتصارات ميدانية كبيرة خلال الفترة الماضية، في الخرطوم وغيرها، ومن ثم حاول قائد الدعم تبرير تلك الهزيمة بدخول الجيش المصري على خط المواجهة بشكل مباشر، في محاولة لتبرئة ساحته من الفشل والحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية لقواته ولملمة العقد قبل انفراطه، وهو ما يفسر خطابه الموجه لهم في كلمته بالأمس، التي وصف فيها قواته بأنهم أبطال وأسود وأنهم حققوا انتصارات كبيرة رغم ما تعرضوا له من ضربات.
على كل حال فإن اتهامات حميدتي، أيًا كانت قراءاتها، ورغم النفي الرسمي لها، لا يمكن أن تمر مرور الكرام، كونها تشير إلى أمرين، أحدهما أو كلاهما، بدء مرحلة جديدة من التعاطي المصري مع المشهد السوداني الملتهب، قد تدفع القاهرة من موقع الوسيط إلى طرف في تلك المعركة، ودق أول مسمار في نعش ميليشات الدعم، آجلًا أم عاجلًا، ما لم تحدث تطورات أخرى تعيد ترتيب المعادلة وفق أبجديات مغايرة.