انتصر الشارع المصري وقال كلمته؛ تراجعت غادة عجمي النائبة في البرلمان المصري عن مشروع قانون حظر النقاب في الأماكن العامة والمؤسسات الحكومية الذي أثار جدلاً عنيفًا وفجر مناخًا استقطابيًا طوال الأيام الماضية، بما أجبرها على الاعتذار عنه بدعوى الخوف من إشاعة الانقسام داخل المجتمع المصري.
أنهت النائبة فصول الأزمة، وقالت إن هدفها من مشروع القانون كان مواجهة الجرائم التي ترتكب من خلال النقاب، مع أنها أكدت قبل اعتزامها تقديمه للبرلمان أنها لم تنسق مع الأمن ولا مع أي جهة بالدولة!
كيف وصلت النائبة إلى هذه اللحظة؟ وأي دور مارسته السوشيال ميديا في الضغط على مؤسسات صنع القرار في مصر؟ وهل نجح المصريون في مواجهة التيارات العلمانية التي سعت بكل قوة لإقراره؟ جميع هذه الأسئلة كانت تدور داخل كواليس مشهد تصعيد الأزمة ثم تبريدها، نهاية بالتراجع عنها.
رفض شعبي لدعوات حظر النقاب في مصر
السوشيال ميديا.. الدفاع بالفطرة عن الحقوق الإنسانية
منذ نحو عشر سنوات، ودور مواقع التواصل الاجتماعي يتزايد بشكل ملحوظ في الضغط على الأنظمة العربية، كانت البداية نخبوية وتأثيرها يتلخص في المعارك التي يشنها أساطين السوشيال ميديا من النشطاء والمثقفين، ولكن بمرور الوقت أصبحت مثل القنبلة الانشطارية، كل ذرة تتطاير بتعليق أو مشاركة، لا يمكن التساهل معها.
أصبحت أعتى الأجهزة الاستخباراتية تتخوف من تجنب مردود السوشيال ميديا، سواء في تكوين رأي عام مضاد للقرارات الحكومية، أم من هيمنة النشطاء على القضايا الاجتماعية من جميع التيارات المتصارعة التي سعت منذ وقت مبكر جدًا لتكوين خلايا ولجان إلكترونية تضمن لها حشدًا واسعًا لأفكارها، وفرضها على الفضاء الإلكتروني.
رفض رئيس اللجنة الدينية في البرلمان المصري، الادعاءات بوجود تخوفات أمنية من ارتداء النقاب، وقال: وقت الضرورة يجوز مطالبة المنتقبة برفع النقاب وكشف وجهها
ولكن اللافت للنظر في أزمة حظر النقاب، حجم الفارق بين توقيت إعلان مشروع القانون، والتراجع عنه بعد أقل من 48 ساعة من إعلانه، تسابقت آلاف التعليقات ونجحت في تكوين جبهة صخرية من إشهار الرفض، ومنعت بشكل فطري التلاعب والمساس بالمعتقد، والمثير أن الحملة الشعبية التي لم يتم تنظيمها أو الإعداد لها من أحد، لم تكن التيارات السلفية المعنية بالقضية بالمقام الأول في القلب منها، بل عزلت نفسها على الجروبات والصفحات الخاصة بها، ولم تغرد إلا في ميدانها الخاص، ومن قاد الحملة في معظمهم مواطنون ليس لهم أدنى علاقة بالنقاب أو حتى بالالتزام الديني.
تصاعد الهجوم الشخصي على النائبة التي قدمت المشروع، وبروح الدعابة والسخرية المعروفة عن الشعب المصري، طالت التعليقات مظهر عجمي الشخصي، في محاولة لرد اعتبار المنتقبات.
كان لافتًا أيضًا انتقاض العديد من علماء الأزهر والمحسوبين عليه، لحماية النقاب والمنتقبات، حتى المقربين منهم من الدولة، والمعارضين بشدة للتيارات الإسلامية، وعلى رأس هؤلاء الدكتور أسامة الأزهري رئيس اللجنة الدينية في البرلمان.
وقال أسامة العبد الذي لم يكتف بإعلان رأيه في البرلمان والصحف، بل كان حريصًا على نشر موقفه على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك “رغم وجود قناعة بأن الحجاب هو الفرض في الإسلام، لقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، إذ إن الفقهاء أجمعوا على أن المقصود من الآية، هو الحجاب وليس النقاب، وبالتالي فهو ليس مطلوبًا شرعًا، لكن ليس معنى ذلك التضييق على من ترى أنه فضيلة وتريد ارتداء”.
وتساءل العبد: لماذا نسعى إلى التضييق، ونبحث عما يثير الفتنة داخل المجتمع، ويحدث الانقسام بين المواطنين، أليس هناك أشياء أخرى أحق أن نشغل أنفسنا بها؟
رفض رئيس اللجنة الدينية في البرلمان المصري، الادعاءات بوجود تخوفات أمنية من ارتداء النقاب، وقال: وقت الضرورة يجوز مطالبة المنتقبة برفع النقاب وكشف وجهها؛ فأمام المحكمة يجوز للقاضي مطالبتها بكشف وجهها، كما يحق للمؤسسات الحكومية عند الحاجة مطالبتها بذات الأمر، ما يعني أن المقترح، لا جدوى منه، ولن ينتج عنه سوى الجدل والبلبلة والانقسام.
تضامن أغلب رموز التيارات اليسارية في مصر مع المنتقبات، وذلك بخلاف التيارات الليبرالية والعلمانية التي دفعت بقوة كبيرة في اتجاه حظره
في وزارة الأوقاف، الجناح الثاني للمؤسسة الدينية الرسمية في مصر بجانب الأزهر، رفض أيضًا الدكتور جابر طايع، رئيس القطاع الديني بوزارة الأوقاف، حظر النقاب واعتبره فضيلة، ومن أرادت أن تنتقب، فلها مطلق الحرية، ورفض المطالبة بسن مشروع لإلغاء النقاب، ففي رأيه لا يمكن مصادرة حرية الناس، واعتبر أن التشدد تجاه الآخر قد يؤدي للانحراف، بما يمثل خطورة على الوطن والدين والشرع.
اليسار.. كيف تسجل هدفًا في مرمى الحريات والحقوق
ضمن أهم الملاحظات على أزمة حظر النقاب، تضامن أغلب رموز التيارات اليسارية في مصر مع المنتقبات، وذلك بخلاف التيارات الليبرالية والعلمانية التي دفعت بقوة كبيرة في اتجاه حظره، وشنت حملات تشويه ضد النقاب، رصدها نون بوست في تقرير له واعتبرها ضمن أبرز حلقات السقوط الأخلاقي للعلمانيون في مصر.
هل كشفت أزمة حظر النقاب السقوط الأخلاقي للعلمانيين في مصر؟
القيادي اليساري خالد محمود، تزعم نشطاء اليسار الذين سارعوا لمقارعة حملة العلمانية، وفند كل ما قيل من منظور حقوقي ويساري، ورفض في طريق مواز النزول لحلبة لا تخصه، والدائرة حول الجدل سواء كان النقاب من الدين والشرع أم لا، ورفض بشكل قاطع حظر النقاب تمامًا.
ونوه القيادي اليساري، أنه كشخص ضد النقاب ولا يحبه، لكنه ليس المجتمع، ولا الـ100 مليون، ولن يفرض رؤيته على الناس؛ فالسيدة بنظره، وفي ظل الإطار العام المعقول في المجتمع، حرة في خياراتها، وإذا كان القانون يكفل للسيدة المصرية الحق في العبادة، فلها كامل الحق أن تتدين بحسب ما تتصور وتحب هي.
اليسار من وجهة نظر محمود ضد كل أنواع الإمبرياليات، بما في ذلك الإمبريالية الثقافية، وبالتالي فهو ضد الضغط على الناس في أن يرتدوا ما يحبون طبقًا للكود العالمي، وكما اليسار ضد تنقيب المجتمع إجباريًا باسم الدين، فهم أيضًا ضد حرمان مواطنين ومواطنات مصريين وطنيين أصلاء من ممارسة معتقدهم.
“البيئة الثقافية الواضحة التي يعيش فيها المصريون، تتقبل الجبة والقناع والحبرة، ولم تمنع اليسار يومًا من تبني أكثر الأفكار يسارية وثورية حلمًا بتغيير المجتمع وتقدمه، ولم تشعرهم يومًا أن البرجوازية تتحالف مع مرتديات الجبة والقناع، ولا أن القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يحياه المجتمع له صلة بذلك؛ هي معركة مجانية، يبحث عنها ناشطون وناشطات برلمانيون وبرلمانيات لا يحق لهم فتح أفواهم وخوض معركة الهائية، تلهي الناس”، يقول محمود وينهي كلامه موبخًا الليبرالية:
الهوجة السطحية المدعية التي تشنها الليبرالية، للدفاع عن تشريع حظر النقاب، لايصدقها، فلا يمكن أن يستقيم الظل والعود أعوج بحسب وصفه؛ فمن خرس لسانه للدفاع عن بديهيات الديمقراطية، لا يمكن أن يصدقه فيما هو أبعد.
فيما طرح الناشط الإسلامي حسام حسن، القضية من منظور القانون في العلم الاجتماعي، ووظيفته الحقيقية، وفجر تساؤلات منطقية كان يجب على النائبة التشاور فيها أولاً، مع من هم على صلة بالقانون وعلم الاجتماع، لفهم كيفية بناء قيم مختلفة عن القيم السائدة فيه ووظيفة القانون الحقيقية في دولة يجب أن تحتضن الجميع، لا تلك التي ترعى فئة واحدة فيه، كما يريد الليبراليون والعلمانيون، وقال حسام:
“بمناسبة مشروع قانون حظر النقاب.. القانون علم اجتماعي، ولكن هل وظيفته أن يكون طليعيًا، فيأخذ المجتمع إلى ناحية منظومة قيم مختلفة عن قيمه السائدة، أم أن القانون وظيفته المحافظة على قيم المجتمع السائدة وشبكات علاقاته، أم أن الأمر خليط بين الطليعية والمحافظة، ولكن بأي معيار؟”.