هل تخيّلت نفسك يومًا في مدينةٍ تطل عليها التلال المخضرة من كل جانب، وتحيط بها بحيرة عذبة تمدها بإكسير الحياة وعلى مقربة منها تقع شلالات ومنابع أطول أنهار الكرة الأرضية؟ مدينةٌ من يزورها يصف جمال طبيعتها الفريدة، جبال خضراء، غابات، سهول، مياه جارية من المنحدرات، أشجار تشاهدها في كل مكان بالمدينة “الحالمة الجميلة” كما يصفها أهلها.
إنها بحر دار، واحدة من أجمل المدن الإثيوبية بل الإفريقية، تشتهر بطرقها الواسعة المحاطة بأشجار النخيل والمانجو فضلًا عن مجموعة متنوعة من الزهور الملونة والحدائق الخضراء، وتعتبر أيضًا واحدة من أكثر المدن أمانًا وتخطيطًا، وهي قديمة تاريخيًا نشأت منذ مئات السنين غير أن الإمبراطور هيلا سلاسي تولّى إعادة بنائها على الطراز الحديث عام 1950.
أحد الشوارع الرئيسة في مدينة بحر دار الإثيوبية
وكلمة “بحر دار” تعني باللغة الأمهرية شاطئ البحر وهي تمثل وجهة سياحية عالمية ومدينة اقتصادية آخذة في النمو كما سيتبين لنا في هذا التقرير الذي سأمزج فيه الوصف بتجربتي الشخصية في زيارتي الأخيرة للمدينة قبل أشهر قليلة.
الطيران الوسيلة الأمثل للسفر إليها
تقع بحر دار مباشرةً على الشاطئ الجنوبي لبحيرة تانا، المصدر الرئيس للنيل الأزرق (يسمى محليًا أباي)، فتقع على بعد 578 كيلومترًا تقريبًا شمال غرب العاصمة أديس أبابا، ويبلغ ارتفاعها 1840 مترًا (6.036 قدم) فوق مستوى سطح البحر.
تتميز بحر دار بنظافة الطرق وانتشار الأشجار
تسيّر الخطوط الجوية الإثيوبية 6 رحلات يومية مباشرة بين بحر دار والعاصمة وبالعكس، كما تسيّر رحلات مماثلة إلى قوندر المدينة الثانية في إقليم الأمهرا، والطيران هو الطريقة الأكثر شيوعًا وراحة للسفر إلى بحر دار، فالذهاب عن طريق البر مرهقة لبعض الناس نسبةً لتعرج الطريق وانحناءاته فوق المرتفعات إذ تمتد الرحلة إلى 9 ساعات بالحافلات المكيفة مثل شركتي “سلام” و”سكاي باص” للنقل، بينما لا تزيد بالطائرة على 50 دقيقة وتستخدم الناقلة في معظم رحلاتها الداخلية الطائرات صغيرة الحجم لكنها آمنة تمامًا وتطير على ارتفاع منخفض مما يمكن الراكب من مشاهدة التلال الخضراء والحقول المنبسطة والمزارعين وقطعان الماشية على مد البصر.
أتذكر جيّدًا أول رحلة لي نحو عاصمة إقليم الأمهرا عام 2009، كنت ـ آنذاك ـ شابًا يافعًا وخريجًا حديثًا في قسم الاتصال بكلية العلوم الإسلامية والعربية التابعة لجامعة وادي النيل في بربر شمالي السودان، ولأنني حصلت على مرتبة متقدمة ضمن الخريجين المتميزين في دفعة عام 2004 رغم عدم التفرغ التام للدراسة، قررت مكافأة نفسي برحلةٍ بريةٍ إلى ربوع الهضبة الإثيوبية ولكن للأسف لم أدرك حينها أهمية التوثيق والتقاط الصور لتخليد الذكرى واستعادة اللحظات الجميلة لكنني أتذكر قضائي لأوقاتٍ ممتعة برفقة أصدقاء الرحلة.
الصيف الماضي، مرّت 9 سنوات بالضبط على الرحلة الأولى لبحر دار التي سحرتني بجمالها منذ أن لاحت لي مناظرها بالسيارة، وفي ليلةٍ ممطرةٍ من ليالي العاصمة أديس أبابا قبل 4 أشهر قلت في نفسي لم لا أكرر الزيارة إلى عاصمة أمهرا وقد سمعت من أصدقائي أنها شهدت نهضة وتطورًا يفوق حد الوصف؟ لم يكن جدولي مزدحمًا فقد كنت شبه متفرغ للإجازة الصيفية عدا بعض الارتباطات البسيطة، فالصحفي لا يستطيع الاستمتاع بإجازةٍ كاملةٍ ولا بد أن يشغل نفسه بكتابة مقالات أو إجراء مقابلات وبحوث أو حتى بقراءة الكتب والروايات في أثناء العطلة من أجل الثقافة والمواكبة وإثراء اللغة والمعرفة.
طريقة شراء أرخص تذكرة طيران إلى بحر دار
كما قلت لكم، وسيلة المواصلات المفضلة إلى بحر دار هي الطائرة ولكي تضمن سعرًا منافسًا للتذكرة عليك أن تحجز تذكرتك قبل السفر بـ3 أيام على الأقل ويا حبذا لو حجزتها من خلال التطبيق الرسمي للخطوط الإثيوبية على أجهزة الجوال، إن فعلت ذلك وكنت مقيمًا بتأشيرة نظامية في إثيوبيا أو كنت قادمًا بتذكرة طيران دولية على الناقلة نفسها سأضمن لك ألا تزيد قيمة تذكرتك على 110 دولارات أمريكية ذهابًا وإيابًا (الدولار = 27.8 بِر إثيوبي).
عاصمة الأمهرا يصعب وصفها والتحدث عنها فهي المدينة الثانية في إثيوبيا بعد العاصمة أديس أبابا مباشرة ومن أبرز معالمها بحيرة تانا التي ينبع منها النيل الأزرق
اخترت رحلة الثانية ظهرًا وعندما وصلت مبنى الركاب1 المخصص للرحلات الداخلية سألتني موظفة الخطوط في وُدٍ غير متكلف عن سبب زيارتي إلى بحر دار، ابتسمت وقلت لها “هل تحتاج المدينة الحالمة الآسرة إلى سبب لزيارتها؟”، ردّت موضحة أن البعض يزورها للسياحة والاستجمام بينما يقصدها البعض الآخر للعمل والاستثمار، قلت لها “الشوق بلغ بي مبلغه وقد آن الأوان للخروج من ضجيج العاصمة إلى المدينة الأخَّاذة الوارفة حيث الزهور والمياه والخضرة”.
لم أكذب على موظفة المطار الحسناء التي تنحدر أصولها من إحدى قوميّات الجنوب الإثيوبي، إذ أردت استعادة ذكريات رحلة التخرج وعنفوان أواخر الصِّبا، وكنت أتشوق للوقوف على شاطئ البحيرة لأشكو لها عن السنوات الـ9 التي جرت بسرعة البرق، وكيف أن بلدي السودان كان يعيش في حالةٍ من الرخاء لدرجة أن جزءًا كبيرًا من المغتربين فضّلوا العودة إلى الداخل بعد أن استقرّ سعر الدولار في حدود 2.5 جنيه سوداني ولم تكلفني رحلة الهضبة آنذاك سوى 3000 جنيه فقط وها هو اليوم يتضاعف عشرين مرة، نعم تضاعف عشرين ضعفًا! ووصل إلى 51 جنيهًا وما زال يمضي بمتوالية مخيفة.
كنت أنتظر الطائرة في صالة السلامة رقم (15)، والمطر يشتد في الخارج ورغم ذلك نرى من خلف الزجاج الطائرات تقلع وتهبط في سلاسة تامة، أجريت عبر إنترنت المطار المجاني بحثًا سريعًا عن الفنادق ودور الإيواء فاخترت أحد الفنادق التي تتوسط المدينة وخاطبت إدارته عن طريق الإيميل فجاءني الرد بسرعة من المدير شخصيًا، فاوضته في السعر واتفقت معه على دفع 700 بر مقابل الليلة الواحدة، قد يكون السعر مرتفعًا بعض الشيء ولكن للأمانة فندق “راهنيل” كان يستحق فهو يقدم وجبة إفطار مجانية جيّدة وقريب من كل شيء في وسط بحر دار، مثل شواطئ بحيرة تانا والمطاعم والأسواق والمساجد والمسارح التراثية.
مطار بحر دار
رائحة المانجو في كل مكان!
سيارة الفندق كانت في انتظارنا بصالة الوصول في المطار الأنيق النظيف، المندوب المهذب حرص على الترحيب بنا فردًا فردًا فقد تصادف معنا على متن الرحلة وجود أطباء هنود جاؤوا لبحث إمكانية تشييد مستشفى استثماري خاص في المدينة الناهضة كما حكوا لي، الخضرة على مد البصر ورائحة “الدعاش” أي المطر في العامّية السودانية تمتزج برائحة المانجو لتدل على كمية الأشجار هنا وهناك، جو معتدل، وسماء غائمة جزئيًا تتوسطها شمس متوارية خلف السحب، تنعكس أشعتها المتقطعة في طرقات المدينة الخضراء، النسائم الباردة تداعب وجوه المارّة وتمنحهم البهجة كأنها تقول لهم أنتم محظوظون لأنكم في أجمل مدن الشرق الإفريقي، أعلم هذا الإحساس وهذه الابتسامة المرتسمة على شفاه الناس، لقد عشتهما في هذا المكان من قبل وفي كل المدن الإثيوبية من العاصمة أديس أبابا وفي مقلي نجمة الشمال وهواسا زهرة الجنوب وغيرهم.
شهدت الأعوام الأخيرة بناء عمارات شاهقة ومنشآت سياحية من فئة الـ5 نجوم مثل منتجعي كوريفتو وجراند كابيتال
وصلنا الفندق قرابة الرابعة عصرًا، ومضت إجراءات الدخول بسهولة، صعدت إلى غرفتي في الطابق الخامس وقد بدأ دوي الرعد يزلزل أرجاء المكان، فتحت النافذة ورأيت السحب غطّت السماء والعصافير تغرد في الخارج كأنها تعبر عن فرحتها بالمطر الذي يوشك على الهطول، وبعد المغرب أخذ يتناهي إلى مسامعي من الكافيهات والأندية المحيطة بالفندق أغنية “Yebet Sira” للشاب الصاعد بيسرات سرافيل والأغنية التي تعني باللغة المحلية “واجب منزلي” كانت تمثل لحن الموسم لصدورها حديثًا في تلك الأيام وفيها يشكو الفنان من أن الحب أصبح واجبًا منزليًا ثقيلًا عليه.
بجيرة تانا.. المتنفس الأول
عاصمة الأمهرا يصعب وصفها والتحدث عنها فهي المدينة الثانية في إثيوبيا بعد العاصمة أديس أبابا مباشرة ومن أبرز معالمها بحيرة تانا التي ينبع منها النيل الأزرق وهو الرافد الأكبر للنيل الرئيس فأكثر من 86% من مياه نهر النيل تعود إلى النيل الأزرق الشاب المتمرد كما وصفه الشاعر السوداني الشهير إدريس جماع في قصيدته التي حكى فيها عن رحلة النيل.
شاطئ البحيرة يمثل المتنفس الطبيعي الأول لسكان المدينة من عائلات وشباب وأطفال ولكل السياح الذين يزورون بحر دار فهو في قلب بحر دار ويسهل الوصول إليه بالسيارات الخاصة أو بالمواصلات العامة التي تتوفر على مدار الساعة أو سيرًا على الأقدام، فالأجواء جميلة جدًا في منطقة البحيرة خاصة في فترتي ما بعد الظهيرة والمساء طوال أشهر الصيف.
هناك العديد من الأنشطة التي يمارسها زوار بحيرة تانا من بينها:
1- ممارسة الرياضة والألعاب الخفيفة والتكسع على الممشى الذي يبلغ طوله 8 كيلومترات تقريبًا.
2- القيام برحلة استكشافية على متن المراكب الصغيرة السريعة.
3- تناول الوجبات الغذائية أو الشاي والقهوة في كافيتيريا موجودة داخل البحيرة بعد دفع تذكرة رمزية قيمتها 10 بر.
4- زيارة الكنائس التاريخية الواقعة في عدد من الجزر تضمهم البحيرة.
الذي يغيب عن بحر دار أو يزورها لأول مرة، يجدها تشهد تغيرات عميقة وجذرية اقتصاديًا وعمرانيًا، فقد شهدت الأعوام الأخيرة بناء عمارات شاهقة ومنشآت سياحية من فئة الـ5 نجوم مثل منتجعي كوريفتو وجراند كابيتال، مقاهي حديثة وصالات رياضية وفنية جديدة، كما حدثت في المدينة طفرة أخرى في البنية التحتية بدعمٍ من الاستثمارات التي غيرت وجه بحر دار وإثيوبيا ككل.