لا زلت أذكر حين عبرت بوابة أحد المخيمات المخصصة لاستضافة السوريين جنوب تركيا، وشاهدت أكثر من 10 من الرجال أضخم مني طولاً وعرضًا، متجمعين حول بعضهم يتبادلون أطراف الحديث، اقتربت منهم وسلمت وعرفتهم بنفسي، ثم تجرأت وسألت: “حضرتكم شو بتشتغلوا؟”
فأجاب أحدهم بسرعة: “نحنا بالمخيم.. إشو بدنا نشتغل يعني؟”
فأضفت: “يعني عدم المؤاخذة.. من وين بتاكلوا وبتشربوا؟ “
فرد: “الله يخلي الحكومة التركية.. كل أسبوعين بتعطينا معونة أكل وشرب وكل شهر بتعطينا مبلغ بسيط”.
ومنذ أيام، نقل “إياد شربجي” عن ناشط عامل في مجال الإغاثة الصورة فيقول: “الإغاثة علّمت كثيرًا من الرجال الإتكالية والتنبلة وعدم المبادرة لإيجاد حلول، نحن نقطع آلاف الكيلومترات لنوصل الإغاثة لمستحقيها، وعندما ندخل المخيم نجد كثيرًا من الرجال يدخنون الأراكيل طيلة الوقت ويدفعون نساءهم للتباكي أمام لجان الإغاثة للحصول على المساعدات، وعندما نتأخر عليهم أحيانًا بسبب مشاكل التمويل أو لاعتبارات لوجستية يتهموننا بأننا نسرق المساعدات المخصصة لهم، عدا ذلك، وفي مخيم أطمة تحديدًا هناك كثير من العائلات من القرى الآمنة الموجودة خارج المخيم ترسل أولادها لتدعي أنها لاجئة وتحصل على المساعدات، هذا الموضوع شكل ظاهرة في الفترة الأخيرة وهو يساهم باستنزاف الكثير من المساعدات التي يحتاجها سوريون في أماكن أخرى، فضلاً عن أنه يُفقد كثيرًا من العاملين في الإغاثة روح المبادرة والاهتمام فبعضهم بدء يشعر أنهم يفسدون المجتمع بدل أن يغيثوه”.
ومنذ فترة، يقول صديق لي يعمل في الإغاثة: “الوضع سواء في سوريا بأكملها أو في الجنوب التركي ينطبق عليه نظرية (الثقب الأسود) أو ما يسمى black hole ، يعني شو ما حطيت رح يروح وما رح تشوفلو أي أثر”.
هذه القصص، وكثيرٌ غيرها نعايشها كسوريين كل يوم، تفضي إلى أن الاستمرار بهذا الدرب الطويل من الإغاثة المقطوعة تعني استنفاذ كل الموارد دون أي أثر، بينما قد تكون لدينا وسيلة بسيطة لسد هذا الثقب شيئًا فشيئًا مع استثمار كل الموارد.
لنفرض أن لدينا منطقة ما يسكن فيها ألف شخص (أطفال ونساء ورجال) من المحتاجين، حيث تصرف الإغاثة شهريًا 100 دولار على كل شخص ما بين معونة مادية وعينية، هذا يعني أن الألف شخص يحتاجون 100 ألف دولار شهريًا أي أننا نحتاج لـ مليون و200 ألف لإغاثتهم لعام كامل، ومع بدء العام الجديد سوف يأتوا من جديد ويطالبون بالمعونة كونك المصدر الوحيد المعيل لهم.
ولكن لو نظرنا لهؤلاء الألف من زاوية أخرى، سوف نجد – بالتقدير- أن ثلثهم هم من الرجال أكبر من 18 عامًا، أي القادرين على العمل والإنتاج، أي سيكون لدينا 333 من الرجال، فلو قسمنا المليون و200 ألف – وهي المعونة السنوية بأكملها عليهم – سوف يكون نصيب كل واحد منهم تقريبًا 3600 دولار، الأمر الذي يستطيع من خلاله تأسيس عمل بسيط، أو فتح مصدر رزق، أو شراء أداة – أدوات – يستطيع من خلالها مباشرة صنعة ما.
قد يكون المثال السابق أقرب إلى النظرية، كون إغاثة المؤسسات تأتي بالتواتر وليست دفعة واحدة، فقد لا تستطيع المؤسسات تأمين مثل هذه المبالغ، أو قد لا يكون لدى البعض النية لتأسيس أعمال بسيطة في ظل اكتفائهم بالمعونة، أو أنه ليس هناك من آلية لمراقبة مصير هذه المبلغ – 3600 دولار – وهل سوف يستثمر في وجه حقه أم لا، أو غيرها من الأسباب.
كل ما سبق صحيح، ولكن الرسالة أن نبدأ جديًا بالتفكير في سد هذا “الثقب الأسود”، ومن يعرف طبيعة الشعب السوري يعلم أنه شعب يميل للتجارة بالفطرة، ومعظم من يحملون الشهادات الجامعية عادة ما يكونون قد تعلموا صنعة ما أثناء نشأتهم.
وخير مثال على ذلك الصحابي الجليل “عبد الرحمن بن عوف” الذي كان صاحب ثروة كبيرة فترك مكة وما فيها من رزق وتجارة له وغادرها إلى المدينة، ثم ما أن وصل وعرض عليه الصحابي “سعد بن الربيع” نصف أمواله حتى قال: “دلوني على السوق” فلما عاد في المساء كان معه سمن وأقط – وهو طعام البادية في ذلك الوقت – من عمله لذلك اليوم، ومات رضي الله عنه وهو من أغنى أغنياء المسلمين.
دلّوا اللاجئين السوريين على السوق، أوقفوا إغاثتهم بالشكل الحالي .. وسوف ترون العجب.