تنطلق في العواصم العربية من وقت لآخر مؤتمرات ومنتديات ومبادرات للشباب تحت شعارات كثيرة وعناوين شتى تشدو بمكانة الشباب ودورهم الخلاق في بناء وتطوير المجتمع، وينشغل إعلام الدولة ببث تلك المناسبات وترويجها وفق خطط إعلامية محكمة تضمن من خلالها تحصيل أقصى المكاسب والنتائج لصالح رأس الدولة ونظامها في الرأي العام العالمي، وتركز في تغطيتها على حضور الرؤساء والزعماء العرب، وتحرص على تصدير صورة لهم مفعمة بالود المُصطنع والانسجام المزيف، أكثر مما تركز على الشباب الحاضر وما لديهم من أفكار وملاحظات وتساؤلات.
نظرة عابرة من أي شرفة في الوطن العربي كفيلة بأن تكذبهم، وتفضح مدى الضياع والتهميش والعدم الذي يعانيه جل الشباب العربي، حتى سقط كثير منهم في اليأس والإحباط وصاروا عرضة لما ليس له نهاية من أمراض نفسية واضطرابات عقلية وأقدَم بعضهم على الانتحار أو الاستسلام المفرط للسلبية والانسحاب من مضمار الحياة.
مدير المركز الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عمّان خالد عبد الشافي، أشار إلى أن “28% من شباب المنطقة العربية عاطلون عن العمل، ومن هم دون الثلاثين من العمر يشكلون 60% من سكان المنطقة العربية، وأوضح أن الشابات هن الأكثر معاناة إذ تبلغ نسبة البطالة بين الإناث 42%”.
ولشدة ما نالت الأزمات من الشباب وكسرت أشرعة أحلامهم وطموحاتهم أهوال الحياة انحرفوا وانحرفت أفكارهم فاستغلتهم الحركات الظلامية والمتطرفة وغررت بهم بما تحمله من انحرافات فكرية وسلوكية مغلفة بالحرص على الصالح العام ومحاربة الفساد وإحقاق العدل، حتى غدو وقودًا لنارها وبارودًا لمفخخاتها فدمرتهم ودمرت الأوطان بهم، وشوهت على أيديهم موروثنا العربي الزاخر بمعاني الخير والألفة، وأخرت المستقبل وحرفت مساره من تقدم مفترض وتطوير مأمول إلى الولوج في وحل الانتقام والانتقام المضاد ومنح الأجهزة الأمنية مبررات للقمع والظلم والسطو على أحلام الشباب البريء بحجة محاربة الإرهاب ووأد المؤامرات.
الواقع المتهالك يهبط على عزائم الشباب ويخيم على نفوسهم كضباب مزمن يخالطه سواد ليل قاتم لا نور فيه ولا ضياء
كثير من الشباب العربي حققوا قدرًا لا بأس به من استحقاقات النجاح ومتطلباته التي تؤهلهم لتطوير الذات وتحقيقها سواء أكان ذلك بحصولهم على درجة علمية جامعية أو أكثر أو تمرسوا في مهنة أو حرفة حتى أتقنوها على أصولها، لكنهم ومع ذلك لم يحصلوا على شيء من التطوير والتدريب وما يلزم ولم تفتح أمامهم الآفاق ولم يُقدم لهم ما يمكن أن يتكئوا عليه من أجل تحقيق ذواتهم وتطويرها، وتُركوا فرادا في مواجهة الحياة وتلاطم أيامها، فالفرص في بلادنا العربية ما بين معدومة ومسروقة، ولا قدر فيها للنخب العلمية ولا مكانة للقامات والكفاءات في أي من المجالات والتخصصات إلا ما نذر وحركة الحياة متعثرة والظلم طافح والتمييز بين شرائح المجتمع شائع، وقبضة الحكومات المستبدة تخنق كل شيء وتهشم أي محاولة نهوض لا توافق هواها.
ذلك في ظل عجزها وقصورها عن القيام بواجباتها واعتمادها في إدارتها لشؤون البلاد على خطط الطوارئ والحلول المؤقتة التي لا تستند على رأي حكيم أو فكر سليم ولا ترجع لدراسات معمقة واستقصاءات محكّمة، ذلك ليس فقط في الدول العربية التي تئن تحت وطئه الفقر والجوع بل وحتى في بعض دول العرب ذات الاقتصاد القوي، حتى صار العالم العربي مضرب مثل وحكاية يلوكها الناجحون حول العالم إذا ما لزمتهم أمثلة حية عن الأمية والتخلف وهدر الطاقات وقمع الكفاءات وإضاعة الموارد البشرية والتبخيس بها.
منظمة العمل الدولية في جنيف أصدرت في مارس الماضي نتائج إحصاءاتها تَبين فيها أن معدل بطالة الشباب في الدول العربية يعادل ثلاثة أضعاف متوسط المعدل العام لبطالة الشباب في العالم، وبحسب دراساتها توقعت أن البلدان العربية ستحافظ على مركزها كأعلى موطن لبطالة الشباب في العالم.
هذا الواقع المتهالك يهبط على عزائم الشباب ويخيم على نفوسهم كضباب مزمن يخالطه سواد ليل قاتم لا نور فيه ولا ضياء، فتنازل الشباب عن أحلامهم وتراجعوا عن طموحهم وتخلوا عن أهدافهم فأمست حياتهم حلقات مفرغة تدور دورتها حول رغيف الخبز، واتخذ كثير منهم المثل الشعبي “عيشني اليوم وموتني بكرة” شعارًا لحياته، وهذه مأساة ما من مأساة أقسى منها ولا أشد، زادت من انحدار الشباب والمجتمع في هاوية انحطاط وتخلف لا قرار لها.
صحيح أن واقع الشباب في المجتمع العربي بائس جدًا، لكن رغم ذلك يجب في ظل تجاهل المؤسسة الرسمية وتفريطها بهذه الشريحة الزاخرة بالقوة وعدم التفاتها لهم، أن يكون للشباب أحلام وطموح وأهداف وتطلع للمستقبل وخطط شخصية تنظم شؤون حياتهم، وواجب أن يشجعوا على ذلك مرارًا وتكرارًا وأن ينشئوا من طفولتهم على أن هذا حق مقدس لهم لا يمكن التنازل عنه أو التفريط فيه.
التمسك بالأحلام والطموح والأهداف والخطط الشخصية يفجر في الشباب الثقة بالنفس وتقدير الذات ويحرضهم ويدفعهم لتجويد حياتهم وتحسين ظروفهم
قد يتساءل بعض الشباب من فرط اليأس وسوداوية الواقع ما الفائدة من أن أخط لنفسي أهدافًا ليس باستطاعتي – على تواضعها – إنجازها، وما الفائدة من نسج أحلام بحياة أفضل دون وجود أي فرصة لتجسيدها على أرض الواقع، وما الجدوى من طموح لا سبيل لتحقيقه، وكيف التمسك بالأمل والهيام بالمستقبل وكل ما حولنا محطم أو آيل للسقوط.
التمسك بالأحلام والطموح والأهداف والخطط الشخصية يفجر في الشباب الثقة بالنفس وتقدير الذات ويحرضهم ويدفعهم لتجويد حياتهم وتحسين ظروفهم وشحذ هممهم وشحن نفوسهم بالحماسة والاستعداد والمبادرة ويمنح لحياتهم معنى ولوجودهم نكهة، ويعطي للشباب مبررًا للاستمرار والتفاؤل ومواصلة المحاولة لعمل شيء بدلًا من السلبية والفراغ والسقوط واليأس، فالإنسان كما يقول باولو كويلو “لا يستطيع مطلقًا أن يتوقف عن الحلم، الحلم غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء الجسم، نرى غالبًا خلال وجودنا أحلامنا تخيب، ورغباتنا تُحبط، لكن يجب الاستمرار في الحلم وإلا ماتت الروح فينا“.
إضافة إلى أن المتمسك بحلمه والساعي وراء هدفه أقدر على فهم ديناميكية الحياة من غيره وأكثر مهارة في إقامة وإنشاء علاقات مع الآخرين ومدفوع بما يهبه له حلمه من أمل للبحث والتعليم والدراسة والتفاعل الاجتماعي.
ولا يعني هذا أن يقتصر جهد الشباب على مراكمة الأحلام بعضها فوق بعض دون تشييدها حقيقة ولا أن يكتفوا بالأمل دون عمل على إنجازه واقعًا، فتغيير حال الشباب للأفضل مسؤولية يقع جزء كبير منها على الشباب أنفسهم وتدشين مرحلة إصلاح وتطوير كل مناحي الحياة العربية بحاجة لكل الجهود وعلى رأسها الجهود الشابة، وإن لم تتوافر الظروف المؤدية لذلك ولم تقدم الحكومات العربية لمجتمعاتها ما يلزم من متطلبات النهضة الحقيقية فعلى الشباب صناعتها باستثمار كل الوسائل الممكنة وعلى رأسها مجموعات العمل التطوعي والتنموي والمبادرات المجتمعية والخيرية كافة، ومن لم يستطع من الشباب أن يلتحق بركب المبادرات هذه فأضعف الإيمان أن يتمسكوا بأحلامهم أملًا في قادم الأيام.