ما زال التعديل الوزاري المجرى في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018 بتونس في انتظار العرض على البرلمان للحصول على الموافقة والبدء في العمل، لكن فترة الانتظار لن تطول، فالاعتراضات السياسية على التعديل ليست بالجدية الكافية لتمنع الموافقة، فلقد ضمن رئيس الحكومة سندًا برلمانيًا قبل إعلان التعديل.
يتألف السند البرلماني من كتلة نواب حزب النهضة (68) نائبًا ثابتين على موقف سياسي موحد من الحكومة، إلى جانب كتلة نيابية “شفطها” رئيس الحكومة من حزب النداء تسمت مؤقتًا بكتلة الائتلاف الوطني (47)، فضلاً عن كتلة من نواب حزب المشروع (14)، إلى جانب نواب حزب المبادرة الذي يقوده وزير بن علي السابق كمال مرجان، هذا التحالف الجديد يمكن له (وسيفعل) أن يصادق على التعديلات متجاهلاً معارضة تقدم حججًا ضعيفة على رفضه.
أول هذه الحجج هي مخالفة الدستور وهي حجة مردودة؛ فرئيس الحكومة تحرك ضمن صلاحيته المحددة دستوريًا، ولم يتعد على صلاحيات رئيس الدولة.
الاعتراض على هذا التعديل لن يكون له صدى إلا في الخصومات الفيسبوكية التونسية التي يغلب عليها العبث الكسول وتفتقد إلى الموجه السياسي المنتج لبدائل حقيقية
وثانيها أن الزمن غير ملائم لتغيير الحكومة، وهذه أيضًا مردودة، فالقائلون بها ومنهم النقابة كانت تطالب قبل يومين من التعديل بإسقاط الحكومة كلها وليس فقط تعديلها جزئيًا، بما يجعل الموقف النقابي غير جدي بالمرة، وكل ما في الأمر أن رئيس الحكومة تجاهل موقف النقابة ولم يستشرها في التعديل وهي التي فرضت نفسها في التعديلات السابقة دون وجه من قانون أو حق دستوري.
لذلك فإن الاعتراض على هذا التعديل لن يكون له صدى إلا في الخصومات الفيسبوكية التونسية التي يغلب عليها العبث الكسول وتفتقد إلى الموجه السياسي المنتج لبدائل حقيقية، ويبدو أن رئيس الحكومة وفريقه وحلفاءه قد توقفوا عن إيلاء قيمة فعلية لهذه الاعتراضات.
لكن هل سيكون هذا التحالف الجديد مقتصرًا على فترة الاستعداد لانتخابات 2019؟
في ساحة سياسية متحركة يصعب الوصول إلى استنتاج نهائي بشأن ثبات هذا التحالف، لكن هناك مؤشرات قوية على ثباته وربما تقدمه في جبهة أو تحالف انتخابي سنة 2019 رغم أن مكوناته ليست متجانسة تجانسًا كاملاً حول برنامج سياسي يستجيب لمطالب الشارع المعلقة.
تحالف مسنود من الخارج
بات واضحًا أن رئيس الدولة وحزبه وفريقه المقرب فقدوا الإسناد الخارجي الذي تمتعوا به في انتخابات 2014، ورغبة الرئيس في التوريث قضت على مصداقيته السياسية عند الأوربيين الذين يراقبون الوضع عن كثب، كما أن صحة الرئيس لم تعد تمنح الثقة لمسانديه ليستمر حتى 2024، فالرجل لم يعد قادرًا على حمل معطفه على كتفيه فوق الزربية الحمراء.
يحتاج الإسلاميون إلى غطاء سياسي ويحتاج يوسف الشاهد وفريقه إلى سند انتخابي قوي وحزب يمكنه أن يهدئ الشارع لصالح العمل السياسي السلمي
لذلك وجب التفكير في بديل قادر، فكان يوسف الشاهد الشاب الطموح، فهو إلى جانب قدرته الجسدية ليس إسلاميًا وهذا عنصر مهم في اختياره، فالساحة فيها حزب واحد منظم وقادر على الفوز بأغلبية برلمانية ولكنه ليس مقبولاً ليكون الحزب الحاكم، وهناك نوع من التسليم (بل الاستسلام) لفكرة أن الإسلاميين لا حق لهم في قيادة البلد وإن توفقوا إلى ذلك انتخابيًا، والإسلاميون (حزب النهضة بالتحديد) قبل بهذا مفضلاً البقاء على قيد الحياة السياسية من موقع ثان، فالتقت بذلك حسابات كثيرة.
يحتاج الإسلاميون إلى غطاء سياسي ويحتاج يوسف الشاهد وفريقه إلى سند انتخابي قوي وحزب يمكنه أن يهدئ الشارع لصالح العمل السياسي السلمي، ويحتاج المغامر السياسي مرزوق إلى مكان في الضوء ولو على حساب ما كان يعلنه من تقدمية معادية للتيار الديني الرجعي ولا يمكنه ذلك إلا بالركوب مع التيار الديني في نفس القطار السياسي، بينما يحتاج الساحل (الذي فقد مكانته في السلطة) إلى العودة للضوء وأخذ قسط من السلطة في انتظار استرجاع مكانته كاملة ولو بعد حين.
وقبل هؤلاء جميعًا يحتاج الجيران الأوروبيون إلى بلد مستقر لا تهددهم منه احتمالات الفوضى الليبية الجارية الآن، كل هذه الحسابات تجمعت لتعطي الشاهد سلطة تعديل الحكومة والتقدم إلى انتخابات 2019.
هل توجد صفقة سرية؟
نتوقعها ولا نجزم بحصولها ولكن هذه الحسابات ستترسخ وتتجلى إما في جبهة انتخابية أو في تحالف برلماني بعد الانتخابات، يكون فيها الشاهد رئيس حكومة محاطًا بوزراء من النهضة ومن الساحل الغني ومن المشروع المغامر كل بقدر (الحجم الحقيقي سيظهر في نتائج انتخابات 2024)؛ لذلك نتوقع أن يعلن رئيس الحكومة قريبًا عدم اهتمامه بالترشح لرئاسة الجمهورية إذ بات واضحًا أنه يمهد لذلك لكنه غير مستعجل معولاً على صغر سنه فسنة 2024 ليست بعيدة، لكن خمس سنوات أخرى في رئاسة الحكومة قد تمنحه رصيدًا حقيقيًا يدخل به على قرطاج مطمئنًا إلى الفوز.
سيكون على الغنوشي والشاهد منح أقدار من السلطة لشركائهما الحالييّن وربما لشركاء آخرين قد يلتحقون بالتحالف الحاليّ
في الأثناء سيفسح ذلك الطريق لرئيس النهضة ليتقدم إلى قرطاج وهو احتمال كبير جدًا عبر عنه بطرق ملتوية، فإذا لم يتقدم بشخصه فإنه يكون مطلق اليدين في مفاوضة الرئيس القادم على مطالب يحتاجها حزبه وأولها إنهاء التفضل على حزب النهضة بالوجود والمشاركة، وقد تكون رئاسة البرلمان (السلطة التشريعية) جزاءً حميدًا في المرحلة القادمة.
سيكون على الغنوشي والشاهد منح أقدار من السلطة لشركائهما الحالييّن وربما لشركاء آخرين قد يلتحقون بالتحالف الحاليّ (الذي لم يحمل اسمًا بعد)، ولكن الموقعين الأولين حسما تقريبًا ولن يضيرهما توزيع باقي المواقع على الشركاء.
ترجيح وجود هذه الصفقة يعني ضمنيًا النهاية السياسية التامة للرئيس الحاليّ وخروجه من الباب الصغير، فلن تكون له سلطة على ما بعد 2019 ولا لابنه من بعده، كما تعني ضمنيًا أن النقابة التي تقف الآن مع الرئيس شبه المعزول فقدت قدرتها على التأثير على المشهد من داخله كما تمكنت من ذلك منذ 2011.
وبقي لها فقط قدرتها على تعطيل ما يجري من الخارج، وقد بدأت بعد إذ عادت نقابة التعليم الثانوي القوية من جديد إلى التهديد بمقاطعة الامتحانات وهو أسلوب ابتزاز لم يؤت أكله سابقًا لكنه أضر بكل العملية التعليمية وكانت له نتائج كارثية على النقابة نفسها بما يعني أن كل محاولة تعطيل ستنعكس على موقع النقابة في الشارع وتفقدها قدرتها على التعطيل.
في أفق 2019 نعتقد أن يوسف الشاهد لن يرتبك أمام النقابة كما ارتبك من سبقه منذ 2012، ومصير النقابة هو العودة إلى وضعها زمن بن علي الطاعة التامة والتغطي بخطاب تصعيد لا ينفد.
هل ظهر الضوء في آخر نفق الانتقال الديمقراطي بتونس؟
ليس بعد، فالحراك السياسي الحاليّ وإن ضمن انتقالات سلسلة وبلا دم للسلطة، فإنه لم يترافق مع حراك اقتصادي حقيقي يعالج المشاكل العويصة التي تعاني منها فئات كثيرة.
كل الحراك مهدد بالانهيار مع أول تحرك احتجاجي جدي، هنا موضع الخطر ومن هنا أيضًا نقطة الانطلاق نحو تونس جديدة، هنا لا نرى بعد في المتحالفين الجدد قدرة فعلية على الاقتراح ولو إعلان نوايا طيبة تجاه القضايا المصيرية.
يمكن أن نراقب الحراك السياسي ونبني توقعات، ولكن الانفجار الاجتماعي معلق فوق رؤوس الجميع ومن لم يحتط له بحلول حقيقية فإن حراكه سيكون سطحيا وبلا نتيجة، إلا توزيع الحقائب الفارغة على كم جديد من الوزراء.