ترجمة وتحرير: نون بوست
هذه الكتب أخذتني إلى كل مكان، عاليا إلى الفضاء الخارجي، إلى الوراء في التاريخ، وعميقا داخل نفسي.
منذ أن نشأت خلال سنوات طفولتي في شارع ديفيجن في واشنطن العاصمة، كنت أقطن في مكان يبعد ثمانية شوارع بالضبط عن مكتبة شرق الكابيتول. وكان الطريق يمر عبر منازل مرتفعات لينكولن، وهو حي سكني سيء السمعة وخطير، ولكنني كنت أمر منه ماشيا بقدمي بمفردي مرة على الأقل كل أسبوع.
وكان هذا الأمر في أواخر الثمانينات، وكان حينها العنف والرصاص يملأ المكان، وكان يتم تعاطي المخدرات بشكل مكثف.
في مكتبة شرق الكابيتول، كنت أهرب من هذا الواقع المرير، لقد سافرت إلى كل أنحاء العالم: الصين وإنجلترا وإفريقيا. واستمعت باندهاش إلى قصص حول عظمة المكتبة القديمة في الإسكندرية في مصر، والتي كنت أتخيلها على ارتفاع مئات الطوابق وكان كل بحارة العالم يقصدونها للحصول على الخرائط.
تعرفت على رفيق في السجن اسمه ستيف. لقد كان يقضي عقوبة بالسجن المؤبد مثلي، منذ أن كان عمره 15 عاما، ولكنه كان يقرأ الكتب كل يوم، كامل الوقت
كما أنني اطلعت على الحكايات الكلاسيكية للأطفال، وقرأتها في الليل، وأنا متلحف بغطاء على الأرض. وعند القراءة في غرفتي، كانت هنالك العديد من السيارات التي تمر مخفضة سرعتها، وكنت أخشى من رصاصة طائشة تدخل عبر النافذة وتصيبني إذا نمت في مكان عال.
كنت حينها أشعر بأن العالم شاسع جدا، ومليء بالأفكار والبشر، وأنني يمكنني الذهاب إلى أي مكان والقيام بأي شيء، ويمكنني أن أكون أي شخص.
ولكن هذا لم يحدث، ففي سن 17 عاما، قتلت شخصا خلال شجار اندلع بيننا، وحكم علي بالسجن المؤبد دون أي أمل في إطلاق السراح المشروط. وقد جلست في سريري في ذلك اليوم داخل الزنزانة الانفرادية، وبكيت لأن حياتي ضاعت.
ولكن بعد عام، تعرفت على رفيق في السجن اسمه ستيف. لقد كان يقضي عقوبة بالسجن المؤبد مثلي، منذ أن كان عمره 15 عاما، ولكنه كان يقرأ الكتب كل يوم، كامل الوقت. وفي أحد الأيام، سألته عما كان بصدد قراءته، وأراني كتابا حول تطوير برمجيات الحاسوب، فضحكت في وجهه، فنحن لم نكن نمتلك أصلا حواسيب في سجن باتوكسنت في تلك الأيام، واعتبرت أنه يعيش في الوهم.
ولكنني كنت معجبا بإصراره، ومعجبا بتفاؤله. إذ أن ستيف لم يكن يهتم بما يعتقده الآخرون، ولا يعير اهتماما لكل العقبات، على الرغم من الحكم القضائي المشدد ضده، فقد كان عازما على الاستفادة من حياته.
وهكذا بدأت القراءة، بالطبع لم أكن أطالع كتب تطوير برمجيات الحاسوب، بل قرأت حول المستثمرين مثل مارك كوبان. وقرأت حول الشخصيات السياسية مثل فريدريك دوغلاس، ليوناردو دافنشي ونابليون. لقد أحببت نابليون كثيرا، لأنه كان شخصية منبوذا مثلي ولا أحد يرغب فيه، ولكنه ذهب إلى المكتبة وتعلم كل شيء كان يحتاجه حول الخطط العسكرية، حتى أصبح جاهزا ولم يكن هنالك مجال لمواصلة تجاهله.
عائلة ستيف عاملتني بلطف، وعرضت علي دفع مبلغ 50 دولار شهريا للأشياء التي أحتاجها. وكان ذلك المبلغ أول مصروف جيب أحصل عليه
قرأت أيضا كتبا حول المساعدة الذاتية، مثل كتاب “كيف تتحدث لأي شخص”، للكاتبة ليل لاونديس، وكان بقية السجناء يسخرون مني ويقولون: “ماذا تفعل يا كريس؟ ألا تعرف كيف تتحدث؟” فكنت أقول لهم: “أنا أحاول تحسين نفسي من الداخل والخارج، وأحاول تطوير جسمي وعقلي. أنتم أيضا يجب أن تفعلوا نفس الشيء، فوجودكم هنا لا يعني أنكم لا تستطيعون إنجاز أشياء عظيمة.”
بعد ذلك أصبح ستيف أكثر من مجرد صديق بالنسبة لي، لقد أصبح بمثابة أخ. وكانت زنزانتانا مواجهتان لبعضهما، فكنا نتبادل الكتب عبر القضبان الحديدية. وقد قررت عائلتي التوقف على التواصل معي، وقالت لي أمي: “أنت محكوم عليك بالمؤبد، فما الفائدة من زيارتك؟” وبعد ذلك توقفت عن الإجابة عن اتصالاتي.
إلا أن عائلة ستيف عاملتني بلطف، وعرضت علي دفع مبلغ 50 دولار شهريا للأشياء التي أحتاجها. وكان ذلك المبلغ أول مصروف جيب أحصل عليه، وكنت أطلب منهم أن يشتروا لي الكتب، واحتفظت بأفضلها في رف في زنزانتي. أما البقية، فكنت أعيرها للسجناء الآخرين أو أمنحها لمكتبة السجن.
وفي النهاية، حصلت على شهادة الثانوية العامة، ثم تمكنت أنا وستيف من إقناع إدارة السجن بالسماح لنا بالالتحاق بالتعليم الجامعي. وفي الجامعة، كنا نحصل على إذن بالتواجد باستمرار في مكتبة السجن. وأصبحت فعليا أعيش في تلك المكتبة، وأعيش من أجلها، فقد كانت تحملني إلى كل مكان: عاليا في الفضاء الخارجي، إلى الوراء في التاريخ، وعميقا داخل نفسي. ربما أكون قد قضيت أكثر من 10 آلاف ساعة في مكتبة سجن باتوكسنت.
ولم نكن أنا وستيف نقرأ بمفردنا، فقد كان هنالك سجناء آخرون شاهدونا واستلهموا من تجربتنا. ولذلك أسسنا ناديا للكتب، وكنا نتحدى بعضنا لقراءة أكبر عدد من الكتب كل شهر. (كنت أنا دائما الفائز لأكثر من خمس سنوات متتالية).
غالبا ما يسألني الناس حول كتابي المفضل، وهو كتاب “500 فعل إسباني”، وهو كتاب كنت أحمله معي كل يوم لأكثر من أربع سنوات أثناء تعلمي هذه اللغة، والآن بت أتقن أيضا الإيطالية
وفي حوالي سنة 2005، أسست نادي الكتاب، وجمعت قائمة الكتب التي أردتها، وكتبت رسائل إلى مئات المنظمات والشخصيات المشهورة، التي كنت أقرأ عنها في المجلات، أطلب منها التبرع بأحد الكتب إلى مكتبة سجن باتوكسنت. ولكم أن تتخيلوا الشعور الذي يغمرنا عندما تحصل مكتبة السجن على كتاب جديد، وأكتشف أنه ذلك الكتاب الذي طلبته أنا، وأنه تم التبرع به من أجلي.
ولم أكن فقط أعيش من أجل المكتبة، بل كنت أيضا أعيش بفضلها. حيث أن مكتبة سجن باتوكسنت أنقذتني من اليأس القاتل، وهي أنقذت أيضا مئات الأشخاص الآخرين.
لن أقول لكم أين أتواجد الآن، بل عليكم أن تكتشفوا ذلك عندما تقرأون كتابي الذي أصدرته، ولكنني سأقول لكم أنني أقرأ على الأقل كتابا كل أسبوع، مهما كانت الظروف أخصص وقتا لهذا الأمر. إذ أن التعلم هو هواية ترافقنا في كامل حياتنا. وعندما نتعلق بها، يصبح من غير الممكن التوقف. أنا أنصح الجميع بوضع مخطط محكم لحياتهم، هذا بالضبط ما مكنني من اجتياز الأوقات الصعبة: وجود مخطط وهدف. وهدفك الأول يجب أن يكون قراءة كتاب على الأقل كل أسبوع.
غالبا ما يسألني الناس حول كتابي المفضل، وهو كتاب “500 فعل إسباني”، وهو كتاب كنت أحمله معي كل يوم لأكثر من أربع سنوات أثناء تعلمي هذه اللغة، والآن بت أتقن أيضا الإيطالية. وبالنسبة لي هذا الكتاب يرمز للالتزام والعمل الجاد.
ولكن هنالك قصة أخرى رافقتني منذ طفولتي. ففي يوم من الأيام، أثناء وقت قراءة القصص في مكتبة شرق الكابيتول، قرأ لنا أحد المشرفين على المكتبة أمثولة كهف أفلاطون. وهي حول مجموعة من الأشخاص المقيدين بالسلاسل في كهف، وكل ما يمكنهم رؤيته هو الظلال على الحائط. وكان يعتقدون أن هذه الظلال هي كل العالم، وكانوا يتناقشون حولها، ويبنون كامل حياتهم عليها.
ثم في يوم من الأيام، هرب أحدهم وصعد إلى السطح، وشاهد العالم الحقيقي، حيث السماء الزرقاء، والأشجار الخضراء والشمس الدافئة، وقد أصيب بالصدمة من شدة جمال العالم والفرص الموجودة فيه، وبدأ بالبكاء.
كانت قصة أفلاطون تدور حولي أنا، فقد كنت أعيش في كهف، وعالمي كله هو فقط الحي الذي أسكن فيه
هذه القصة فجرت عقلي عندما كان عمري 9 سنوات. فقررت أن أذهب بنفسي لقراءة النسخة الموجهة للأطفال من أمثولة الكهف، وفي نفس ذلك اليوم، قرأتها وكررتها عدة مرات، ودأبت على هذا الأمر، حيث كنت أقرأها وأنا متلحف بغطاء على أرضية غرفة نومي. وفي الخارج كانت أصوات البنادق وعجلات السيارات تعم المكان.
هذا هو أكثر صوت أتذكره في سنوات طفولتي، عجلات السيارات تنزلق. ولكن في الداخل شعرت ببهجة الحرية.
لقد كانت قصة أفلاطون تدور حولي أنا، فقد كنت أعيش في كهف، وعالمي كله هو فقط الحي الذي أسكن فيه، ولكنني كنت أعرف تماما أنني الرجل الذي سيخرج من ذلك الكهف ليشاهد العالم.
نحن جميعا نعيش داخل كهف، وليس عليك أن تقضي كامل حياتك داخل قفص مثلما كنت أنا في طفولتي، عبر عدم استكشاف التجارب والفرص. إن عالمنا المحسوس صغير جدا، ولكن هنالك طريقة للإفلات منه. وهذه الطريقة تسمى مكتبة، وهي متاحة للجميع. لا يوجد طفل فقير لدرجة عدم القدرة على القراءة، ولا أعتقد أن يوما بارد جدا يمنعنا من الذهاب إلى المكتبة، ولا توجد زنزانة صغيرة بشكل لا يسمح بفتح الكتب. مهما كان شخصك، ومهما كان مكانك، المكتبة هي الباب المفتوح أمامك نحو عالم أوسع.
المصدر: ميديوم