تكمن الخطورة في فكرة التطبيع أنها أحد أهم المرتكزات الأساسية للاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته، ودورها في إنهاء عقدة الشرعية التي ظلت تلاحقه على مدار سنواته السابقة، يعني وجوده في وسط إقليمي غير مرغوب فيه، هو الوسط العربي، ولذلك يعتبر الاحتلال الإسرائيلي أن التطبيع هدف إستراتيجي أساسي، ومن المفترض أن تجيب هذه المادة عن تساؤلين: لماذا يسعى الاحتلال الإسرائيلي للتطبيع مع الدول العربية؟ ولماذا تقبل الدول العربية في إطارها الرسمي التطبيع؟
التطبيع من الفعل الصامت إلى العلن
منذ بداية نشأة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين كانت العقدة التي تلاحقه هي شرعيته وسط إقليم غير مرغوب فيه، ونشأته المبنية على إحلال للفلسطينيين، ورغم أن الاحتلال الإسرائيلي قام على الإرهاب لتمكين وجوده سواء عن طريق المجازر التي ارتكبها ضد الفلسطينيين أم الحروب التي خاضها مع العرب، أراد من خلال التطبيع كسر النمط السائد.
كل خطابات الزعامات العربية في الفترة التي سادت فيها القومية كانت تتحدث عن مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي، ومثلت اتفاقية كامب ديفيد كسرًا مهمًا للمصطلح في إطاره الدولي أولًا ثم العربي، فقد انصبت المساعي الأمريكية خصوصًا نحو شرط واحد الاعتراف بـ”إسرائيل” ونبذ العنف وفق رؤيتها
فقد بنيت فكرة في العقل الباطن العربي أن طبيعة العلاقة مع الاحتلال القطيعة والصراع الدائم، حتى جاءت اتفاقية كامب ديفيد 1978، وحقيقة الأمر أن كل التنازلات التي قدمها الاحتلال الإسرائيلي تهدف بالدرجة الأولى لتحوير مصطلح الصراع مع العرب، وتثبيت أقدامه ككيان مرغوب فيه بالمنطقة، وجاءت خطوة نشأة السلطة الفلسطينية عام 1993 واعترافها بـ”إسرائيل” ونبذ العنف والإرهاب، وهما وإن اختلفا في الاصطلاح العربي كـ”مقاومة” إلا أنها عززت مصطلح “لن نكون ملوك أكثر من الملك”.
وقد كان الاحتلال تدريجيًا يسعى لنقل معركته مع الفلسطينيين فقط بعيدًا عن محيطها العربي حتى وإن ظلت تحت إطار الصراع، لكنها من الضروري أن تكون مع العرب تحت إطار النزاع ثم التعاون المشترك، وتحويل قضية فلسطين كأي قضية نزاع مختلف عليها مثل الأكراد في العراق مثلًا.
كل خطابات الزعامات العربية في الفترة التي سادت فيها القومية كانت تتحدث عن مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي، ومثلت اتفاقية كامب ديفيد كسرًا مهمًا للمصطلح في إطاره الدولي أولًا ثم العربي، فقد انصبت المساعي الأمريكية خصوصًا نحو شرط واحد الاعتراف بـ”إسرائيل” ونبذ العنف وفق رؤيتها، وهذا ما سهل عبور قناة المفاوضات السرية برعاية النرويج بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الشهيد ياسر عرفات والاحتلال الإسرائيلي، ولا يمكن اعتبار مصر أو السلطة أول المطبعين على المستوى الرسمي، بل كانت هناك علاقات تطبيعية على المستوى الرسمي خصوصًا مع بعض الدول الخليجية ولكن بالسر، حتى انتقل التطبيع للشكل العلني وعلى الإطار الضيق، ولكن كيف تحول بهذه الصورة من السر إلى العلن؟
اللعب على المصطلحات
في اللغة تأتي لفظة تطبيع على وزن تفعيل، تتخذ شكل الدوام لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة، والتطبيع يأتي لكسر حاجز عدم التواصل، وقد اقترن المصطلح تمامًا في الشرق الأوسط بالاحتلال الإسرائيلي، واتخذ أشكالًا مختلفة وهي الثقافية والإعلامية والسياسية والاقتصادية والسياحية والدينية والأمنية والإستراتيجية وغيرها.
والتطبيع – وفق ما عرفته حملة المقاطعة الدولية BDS – هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصًا للجمع (سواء بشكل مباشر أم غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفراد كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني.
وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية، ويستثنى من ذلك المنتديات والمحافل الدولية التي تعقد خارج الوطن العربي كالمؤتمرات أو المهرجانات أو المعارض التي يشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالإسرائيليين، بالإضافة إلى المناظرات العامة، كما تستثنى من ذلك حالات الطوارئ القصوى المتعلقة بالحفاظ على الحياة البشرية، كانتشار وباء أو حدوث كارثة طبيعية أو بيئية تستوجب التعاون الفلسطيني الإسرائيلي.
وقد مر الاحتلال الإسرائيلي بعدة مراحل قبل الوصول لمرحلة التطبيع الحاصلة: مرحلة الصراع، ثم النزاع، ثم التطبيع العلني بعد إثبات وجوده، وقد أسلفت سابقًا أن التطبيع كان موجودًا، فقبل قيام الاحتلال الإسرائيلي كان هناك اتفاق صهيوني مع السعوديين عرف باتفاق فيصل وايزمن، وتوترت العلاقات تمامًا في عصر عبد الناصر والإخوان المسلمين، وقد أُطيح بالملك فاروق وسنوسي والعراق والملك فيصل، وبعدها أصبحت العلاقات سرية بين غولدمائير والملك حسين وبين المسيحيين في لبنان والاحتلال الإسرائيلي، إلى أن جاءت كامب ديفيد وأوسلو.
سعت أمريكا بشكل مباشر لتعزيز وجود الاحتلال الإسرائيلي ككيان قائم بذاته لا يعتمد على أي مساعدات من إقليمه، بل عززت وجوده أكثر من خلال التعاون المشترك، اقتصاديًا وعسكريًا وتقنيًا، ونرى وادي السيليكون في تل أبيب بشكله المشابه تمامًا لوادي السيليكون في كاليفورنيا “Silicon Valley”، وهو أكبر حقول الإنتاج للاقتصاد التقني عالميًا
تلقى مصطلح الصراع بعد كامب ديفيد ارتدادات غيرت مسار التعامل السياسي العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، فالصراع مبني على فناء أحد الأطراف لعدم قانونية أو شرعية وجوده، وتحول المصطلح في السياق الغربي إلى نزاع، والنزاع هو بين كيانين، وهنا يظهر التحايل الأمريكي كوسيط في عملية السلام لاستخدام مصطلح النزاع وليس الصراع أو الأزمة، لإعادة قوننة وشرعنة وجود الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العربية كطرف مقبول يتحول تدريجيًا لضلع مهم في متوازي الأضلاع بمنطقة الشرق الأوسط، ثم لهايبر مركزي تتبادل معه الدول العربية اقتصاداتها.
كما يُظهر مسار المساعدات الدولية التي قدمتها أمريكا إلى الاحتلال الإسرائيلي شكلًا مختلفًا تمامًا لأي مساعدات أمريكية لدولة غير الاحتلال الإسرائيلي، فلم تقدم المساعدات الإنسانية والإغاثية بشكل مستمر إلا في بداية نشأة الاحتلال، ثم اعتمد الأمريكان على المساعدات التنموية والعسكرية، فقد أعلنت أمريكا قبل عامين أكبر حجم من المساعدات في تاريخها تحت بند المساعدات العسكرية وتعزيز الدفاع المشترك بين الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا ومر جزء من المساعدات عن طريق البنك الدولي والمنظمات الدولية.
سعت أمريكا بشكل مباشر لتعزيز وجود الاحتلال الإسرائيلي ككيان قائم بذاته لا يعتمد على أي مساعدات من إقليمه، بل عززت وجوده أكثر من خلال التعاون المشترك، اقتصاديًا وعسكريًا وتقنيًا، ونرى وادي السيليكون في تل أبيب بشكله المشابه تمامًا لوادي السيليكون في كاليفورنيا “Silicon Valley”، وهو أكبر حقول الإنتاج للاقتصاد التقني عالميًا.
فلسفة الاحتلال الإسرائيلي في تمرير التطبيع عربيًا
بدأ الاحتلال الإسرائيلي في تسليط الضوء على عيوب الفلسطينيين واللعب على المتناقضات، وقد كبّر كثيرًا تجاوزاتهم في الأردن ولبنان وتونس ومصر واليمن، وبعدها غذّى كل الإثنيات والأقليات ودعاة الانفصال والاستقلال في المنطقة العربية مثل أكراد العراق، أو الصراع السني الشيعي في المنطقة، وقد كانت حاجته من ذلك الوصول إما إلى ثروات عربية أو عدو مشترك، وقد بدأ بشيطنة الفلسطينيين أيضًا من خلال إرغامهم على التنسيق الأمني لأمورهم الحياتية وحاجة الاحتلال الإسرائيلي للاستقرار، وحين العودة للتاريخ الفلسطيني نرى أن فجوات مهمة فشل الاحتلال من خلالها في الوصول بسرعة لمرحلة التطبيع العلني أهمها انتفاضة النفق في التسعينيات وانتفاضة الأقصى في العام 2000، فقد أعادت الصراع لطبيعته تمامًا، وهذا ما برر حاجة الاحتلال للهدوء الدائم.
في مطلع الألفينية الثانية وحتى الآن وصل الاحتلال الإسرائيلي لقوة مهمة في عالم الاقتصاد التقاني والتنقية العسكرية وعالم استخبارات الآلة، وفي ظل النزاعات التي شهدتها وتشهدها المنطقة العربية كانت الحاجة لهذه الأدوات مهمة للأطراف الفاعلة في النزاع والحروب الدائرة خصوصًا دول الخليج، وتوسع الاحتلال بعلاقات جديدة من خلال حقل اقتصاديات التقانة مثل علاقته مع الهند التي تعتبر جديدة ومهمة في تعزيز وجوده خارج المنطقة، كما أن علاقته بالخليج مهمة للغاية باعتبارها أحد أهم مصادر المال العربي الذي يوزع على كثير من الدول تحت سياق الإغاثة أو التنمية وإن اختلف مساره الآن للترويج إلى سياسات ومواقف معينة، وباعتبار السعودية على وجه الخصوص القبلة الدينية للمسلمين، فقبولها بالتطبيع يعني أن لا خطوط حمر دينية تتعلق بالموضوع.
حين أظهرنا حاجة الاحتلال للتطبيع لإثبات وجوده في المنطقة ككيان مقبول عربيًا، ومن ثم محاولته التي تجري الآن لكي يصبح “هاب” يعني موزعًا مهمًا لاقتصاديات التقانة، أو قبلة للتعاون الاستخباراتي والعسكري لمن يريد الحفاظ على منصبه السياسي الرسمي في الدول العربية، وهذا ما يبرر حاجة المستوى الرسمي للتطبيع
لقد تلقى الفلسطينيون نكسة جديدة، ودخل التطبيع المرحلة الحمراء بعدما كان خطًا أحمر في الخليج وخصوصًا السعودية، وقد مثلت الزيارات الأخيرة للمستوى الرسمي الإسرائيلي لعُمان والإمارات والوفد الرياضي في قطر الذي أطلق خلاله “النشيد الوطني” للاحتلال الإسرائيلي في تكريم نهاية البطولة، نكسة جديدة للفلسطينيين.
وحين أظهرنا حاجة الاحتلال للتطبيع لإثبات وجوده في المنطقة ككيان مقبول عربيًا، ومن ثم محاولته التي تجري الآن لكي يصبح “هاب” يعني موزعًا مهمًا لاقتصاديات التقانة، أو قبلة للتعاون الاستخباراتي والعسكري لمن يريد الحفاظ على منصبه السياسي الرسمي في الدول العربية، وهذا ما يبرر حاجة المستوى الرسمي للتطبيع، فالمنطقة حاليًا تتعرض لاهتزازات أنظمة الحكم غير المستقرة، هناك دول تعيش صراعات داخلية دون الوصول لبيئة سياسية مستقرة مثل ليبيا وتونس ولبنان ومصر، وهناك دول على بوابة تغيير أنظمة الحكم مثل الجزائر والعراق، وهناك دول مفتتة تقاتل حلفاء محتملين للاحتلال الإسرائيلي مثل اليمن خصوصًا، وهناك أيضًا دول تحاول تثبيت التوريث السياسي لأنظمة الحكم أو تثبيت بقاء أنظمة الحكم بشكلها مثل الإمارات وقطر وغيرها.. كلها ثغرات سيستغلها الاحتلال للدخول إلى التطبيع الشعبوي.
التطبيع الشعبوي وحاجة الاحتلال للاستقرار فلسطينيًا
ظلت مشكلة أساسية كبرى تندرج تحت جملة “إن طبّعت الأنظمة فإن الشعوب لن تطبّع”، فهذه سمعتها وقرأتها في كثير من المسيرات المؤيدة للقضية الفلسطينية باعتبارها الجامع والقضية العربية المركزية للخروج من مأزق التشتت، وكذلك قرأت كثير من كتابات المثقفين خصوصًا في المغرب العربي تندرج تحت إطار العبارة السابقة.
وهنا تبرز حاجة جديدة للاحتلال، محاولة الوصول للهدوء مع الطرف الفلسطيني العنصر الأقوى لتشتيت تقدم حالة التطبيع والمهم، فقد فكك الاحتلال البعد التأييدي في إطاره الشعبوي للحرب على لبنان تحت إطار أن حزب الله في نهاية المطاف يمثل ذراع إيران الشيعي في المنطقة، لكنه حاول كثيرًا تحت إطار الإرهاب ومقاومة الإرهاب إدراج الفلسطينيين في إطارها وفشل، وبقيت الشعوب العربية خصوصًا المغاربية أو العراق والكويت وقطر وحتى السعودية ترفض التطبيع في السياق العام الشعبي وتعتبره جريمة نكراء سواء على المستوى الديني أم القومي والوطني.
تبدو الحاجة الماسة الآن أكثر من أي وقت مضى لمقاومة التطبيع شعبيًا وإبراز مخاطره على الإطار الشعبوي، وهذه مسؤوليات البوابات الرقمية والإعلامية المشهورة في مجتمعاتنا
وقد أنشأ الاحتلال محطات مهمة لتفكيك الوعي الجمعي العربي ضد مسألة التطبيع شملت إنشاء صفحات باللغة العربية مثل “إسرائيل تتكلم العربية” وصفحات باللهجات مثل “إسرائيل باللهجة العراقية” للوصول إلى الجماهير العربية، وحين متابعة الصفحتين بشكل أساسي نرى أن خطابها موجه لتحسين صورة الاحتلال الإسرائيلي وإبراز المشترك معه عربيًا وآلية التعاون المستقبلي مع التركيز أيضًا على الحالة الإنسانية مثل: “الاحتلال الإسرائيلي يقدم تقنية جديدة لمستقبل الجراحة في الطب” أو “الاحتلال الإسرائيلي يعالج مصابين سوريين” لتكون مقارنة بينه وبين جرائم أنظمة عربية شهدت ثورات، ويعطي مبررًا لجرائمه بحق الفلسطينيين بأنها أقل حدة من جرائم أنظمة عربية، وهي المرحلة الأخيرة للتطبيع، وفيها سيحافظ الاحتلال على الهدوء والاستقرار على جبهة الصراع الأساسية مع الفلسطينيين غزة والضفة لتمرير صفقة القرن التي يعتبر التطبيع بوابتها المركزية.
تبدو الحاجة الماسة الآن أكثر من أي وقت مضى لمقاومة التطبيع شعبيًا وإبراز مخاطره على الإطار الشعبوي، وهذه مسؤوليات البوابات الرقمية والإعلامية المشهورة في مجتمعاتنا، والتركيز أيضًا من نفس الإطار الذي يحاول الاحتلال الإسرائيلي دخوله وهو كتابات شعبوية بسيطة وفيديوهات داعمة للمناهضة أو نخبوية تواجه ظاهرة التطبيع للحفاظ على الوعي الجمعي الشعبوي تجاه مسألة التطبيع.
وعلى كل حال لا يمكن تناول موضوع التطبيع من كل جوانبه، فهناك نجاحات مهمة للمقاطعة وحركة BDS خصوصًا المقاطعة الأكاديمية خلال السنوات الماضية، تطرق لها كتاب آخرون وسيتطرق لها لاحقون عبر هذه المنصة التي غذت الموضوع حقيقة بترجمات ومقالات محكمة وعميقة لكتاب عرب وغير عرب تناولوا قضية التطبيع من زوايا مختلفة، إلا أن هذه المقالة ركزت على التطبيع في إطاره الفلسفي ولماذا يحصل من كلا الطرفين.