“مجانية التعليم مينفعش تتساب دون نقاش، لازم تناقشوه، لو فضلنا عايشين بدا نبقى بنضحك على نفسنا، هنفضل عايشين كده لأمتي، ثم مفيش مجانية، اللي بيدفع الفاتورة الدولة والأهالي، الفاتورة اللي بندفعها مع بعض ٢٠٠ مليار جنيه، ومش بتروح في المكان الصح، والناس ممكن تدفع لأي حد إلا الحكومة، تدفع لسنتر أفاق مليان مبيقات وكأن أحنا كخة”.. حالة من الجدل أثارتها تلك التصريحات الصادرة عن وزير التربية والتعليم المصري الدكتور طارق شوقي أمس السبت.
التصريحات التي أطلقها الوزير خلال اجتماع لجنة المشروعات الصغيرة بالبرلمان عن دعم التعليم الفني أعادت ملف إلغاء التعليم المجاني على طاولة النقاش مرة أخرى، وهو الملف الذي لم يغلق بعد وإن توارى عن الأضواء قليلاً، ليضع مستقبل ملايين الطلاب غير القادرين ممن يتلقون تعليمًا حكوميًا على المحك.
فالمجانية ظلت السلطات المتعاقبة في مصر تعزف على أوتارها منذ بداية الخمسينيات كونها واحدة من أهم مكتسبات ثورة يوليو 1952، هذا بخلاف ما ينص عليه الدستور الحالي في مادته الـ(19) بأن “التعليم حق لكل مواطن، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية”، كل هذا يثير علامات الاستفهام عن التلميحات الرسمية لإلغاء مجانية التعليم التي تخرج بين الحين والآخر.
تصريحات تمهد الطريق
لم تكن تصريحات طارق شوقي التي ألمح فيها إلى إلغاء مجانية التعليم هي الأولى من نوعها التي تذهب في هذا الاتجاه، إذ سبقها مجموعة من التصريحات المشابهة التي تعزف جميعها على وتر أن المجانية تحد من قدرات الدولة وتشل يدها في البناء والتنمية، مرجعة الأزمة في أصلها إلى الزيادة السكانية.
قبل أقل من شهر وفي أكتوبر الماضي خرج رئيس مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية الدكتور مصطفى الفقي – الذي شغل منصب مستشار للمعلومات في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك – ليجدد مطالبته مرة أخرى بإلغاء مجانية التعليم الجامعي وأن يكون مقتصرًا على المتفوقين فقط، مبررًا ذلك بأنه “لا يوجد تعليم جامعي مجاني في العالم”.
وفي سبتمبر الماضي دعت عضوة مجلس النواب المصري أنيسة حسونة بشكل غير مباشر إلى إلغاء مجانية التعليم، وأن يطبق ذلك على الطفل الثاني كمرحلة أولية في إطار الضغوط التي تسعى لممارستها للحد من الزيادة السكانية، مضيفة خلال لقائها مع برنامج “صالة التحرير” المذاع عبر فضائية “صدى البلد”، أنه ينبغي أن تعتمد هذه الحملات الدعائية على المنطق في مخاطبة الناس، متابعة: “لازم يبقى فيه منطق، أقوله مثلاً خلّف على كيفك، بس بعد الطفل الثاني مفيش تعليم مجاني، ولا علاج مجاني”.
وفي فبراير 2017 صرح وزير التعليم الحاليّ، الذي كان يشغل حينها رئيس المجلس الاستشاري لشؤون التعليم (مجلس شُكل بناء على توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2014) بضرورة انتهاء التعليم المجاني كحق مكتسب للمواطن، ليعيد دعوته بعدما بات وزيرًا، ففي ديسمبر الماضي طالب مرة أخرى بمراجعة مصطلح المجانية، وتابع :”مفيش حاجة ببلاش والدولة عليها التزامات كبيرة”.
في يناير 2016 حث النائب أحمد مرتضى منصور على اتخاذ قرار بإلغاء مجانية التعليم، قائلاً إنه سيكون قرارًا شجاعًا كقرار حرب أكتوبر 1973 ضد العدو الصهيوني، مطالبًا السلطات بالتحلي بالشجاعة لاتخاذه لدعم عملية التنمية الداخلية على حد قوله.
أما في ديسمبر 2014 فقد بدأت إرهاصات العزف المبكر على هذا الوتر حين سُمح للأذرع الإعلامية المحسوبة على السلطة بجس نبض الشارع من خلال طرح فكرة إلغاء المجانية للنقاش المجتمعي، وهو ما طالب به الإعلامي عمرو أديب في أكثر من مناسبة، ففي حلقة له على فضائية “اليوم” تعليقًا على مظاهرات حملة الماجستير أمام مجلس الوزراء للمطالبة بالتعيين، قال: “مستني ليه تعيين فى الحكومة وأنت حاصل على شهادة كبيرة كدة”، مخاطبًا الطلاب قائلاً: “روحوا اشتغلوا في قناة السويس”، مطالبا بإلغاء مجانية التعليم الجامعى بمصر نهائيًا.
التصريحات السابقة تدور جمعيها في فلك ما يؤمن به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن ضرورة إلغاء مجانية التعليم، وهو ما عبر عنه أكثر من مرة، تلميحًا أو تصريحًا، البداية كانت خلال مؤتمر الشباب الأول، في أكتوبر/تشرين الأول 2016، عندما قال إن دولاً كثيرة نجحت في تجربة إلغاء مجانية التعليم، وتساءل: “هل أقدر أنا أعمل كده؟”.
وبعدها بشهرين وفي ديسمبر من نفس العام وخلال حديثه عن جودة التعليم تساءل صراحة: “يعمل إيه التعليم في وطن ضايع؟” وهو التصريح الذي أثار موجة من الجدل داخل الشارع المصري، خشية أن يكون شارة البدء لتدشين إستراتيجية تعليمية جديدة تضرب بالمجانية عرض الحائط وهو ما بدت تلوح في الأفق ملامحه.
إرهاصات إلغاء المجانية
رغم ما تحمله التصريحات السابقة من مخاطر وتهديدات واضحة لمستقبل تعليم الملايين من محدودي الدخل، غير أن الكثير تعامل معها كونها لا تعدو مجرد شماعة لتحميل الفشل عليها دون أن تترجم على أرض الواقع، لكن الأمر لم يكن هكذا، وهو ما تذهب إليه بعض الإجراءات التي صدرت مؤخرًا كإرهاصات لإلغاء المجانية رويدًا رويدًا.
في يوليو الماضي، أرست المحكمة الإدارية العليا في مصر مبدأ قضائيًا جديدًا يقضي بأحقية مجالس الجامعات الحكومية في تحديد المقابل المالي السنوي والمصروفات الدراسية التي يسددها الطلاب للقيد بما يسمى “برامج التعليم المستحدثة بالكليات”، حتى ولو جاوزت مبالغ تلك المصروفات، المبالغ المقررة باللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات.
وفي مارس 2015 أعلن المجلس التخصصي للتعليم والبحث العلمي التابع للرئاسة، ملامح نظام جديد للدراسة بالجامعات، يتضمن تحويل الدراسة الجامعية إلى نظام المنح، بحيث تتاح مجانية الدراسة بالجامعات تبعًا لدرجات الطالب، فمن يحصل على درجات أعلى يكمل دراسته مجانًا ولم يحصل على درجات أقل يتحمل نسبة من كلفة الدراسة.
النظام يأتي وفقًا لجدول تصاعدي، “فالطالب الذي يحصل على نسبة أعلى من 70% سيحصل على المنحة كاملة، وتتحمل الدولة مصروفاته، ومن يحصل على نسبة بين 65% لـ70% يدفع نسبة من المصروفات، ومن يحصل على نسبة بين 60% لـ50% يدفع نسبة أعلى، ومن يحصل على نسبة أقل من 50% يتحمل مصروفات دراسته كاملة”، مشيرًا إلى أن النسب ستختلف من كلية لأخرى.
علاوة على ذلك فقد لجأت بعض الكليات داخل الجامعات المصرية إلى اعتماد نظام دراسي خاص، يهدف إلى تدشين أقسام بعينها بمصروفات أعلى، يكون التعليم فيها بشكل أكثر تطورًا، في مقابل تجاهل الأقسام الأخرى، وهو ما يعني وفق خبراء التحول تدريجيًا من المجانية إلى التعليم الخاص بمصروفات قد لا تقدر الغالبية العظمى من الطلاب على تحملها.
إنفاق بلا مردود وتعليم متدن
“مصر من أكثر الدول إنفاقًا من الموازنة العامة أو من دخول المواطنين على التعليم والصحة، ومع ذلك مردود الخدمة أقل من الإنفاق”، هكذا قال الدكتور محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي، في تصريحات له كشفت حجم التناقض بين ما تزعمه الدولة من زيادة معدلات إنفاقها على التعليم في الوقت الذي يعاني فيه من تدن واضح.
وفق الدستور المصري وبحسب المادة (19) فإن الدولة ملتزمة بتخصيص 4% من الناتج القومي للتعليم قبل الجامعي، و2% من الناتج القومي للتعليم الجامعي وفقًا للمادة (21)، ونسبة لا تقل عن 1% من الناتج القومي تخصص للبحث العلمي.
وفي الوقت الذي يغرد فيه المسؤولون المصريون عن إلغاء المجانية، تعاني منظومة التعليم في مصر من تراجع ، وهو ما تشير إليه المؤشرات والإحصاءات الدولية، فقد حصلت مصر على 2.9 درجة (معيار جودة التعليم من 1-7 درجات) لتحتل المركز 129 من إجمالي 137 دولة في تصنيف جودة التعليم الصادر عن منتدى الاقتصاد العالمي 2017/2018، استنادًا إلى تقييم 12 معيارًا أسياسيًا: المؤسسات، البنية التحتية، بيئة الاقتصاد الكلي، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، كفاءة أسواق السلع، كفاءة سوق العمل، تطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، تطور الأعمال، الابتكار.
كما حصدت المركز الـ112 دوليًا بمؤشر التعليم والتدريب من بين 138 دولة، والمركز 89 دوليًا بمؤشر تحقيق المتطلبات الأساسية من الصحة والتعليم الأساسى من بين 138 دولة والمركز 134 من إجمالي 139 في مؤشر جودة التعليم الابتدائي خلال العام 2016-2017.
وفي السياق ذاته أعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، خلال المسح الذي تجريه كل 3 سنوات، عن جودة التعليم العالمي، خروج مصر من قائمة التصنيف عالميًا في جودة التعليم العام الماضي بعدما كانت في المركز قبل الأخير في آخر تصنيف لها.
وقد انعكس هذا التراجع في جودة التعليم على كفاءة الخريجين لسوق العمل، فتوضح بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (حكومي) أن معدل البطالة بين الأميين 0.8%، بينما تزيد إلى 1.3% بين الحاصلين على مؤهل أقل من المتوسط، وترتفع إلى 1.7% للحاصلين على الثانوية العامة أو الثانوية الأزهرية، فيما ترتفع بين الحاصلين على مؤهل متوسط 6.5%، وتزيد النسبة لتصل إلى 17% بين الحاصلين على مؤهل جامعي وفوق جامعي “الماجستير والدكتوراه”.
تراجع ترتيب مصر في مؤشرات جودة التعليم
ماذا عن الدول العربية؟
بينما يتعثر قطار التعليم في مصر لأسباب بعضها مادي والآخر إداري وفني، فإن الوضع مختلف تمامًا في العديد من الدول العربية التي قطعت شوطًا مهما في اللحاق بالركب العالمي في تطور أنظمة التعليم، حيث احتلت قطر المرتبة الـ4 عالميًا في تقرير المنتدى العالمي للاقتصاد “دافوس” في 2015 -2016، فيما جاءت الإمارات في المرتبة العاشرة، أما ﻟﺒﻨﺎﻥ ﻓكان في اﻟﻤﺮﺗﺒﺔ 25، تلاها ﺍﻟﺒﺤﺮﻳﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ 33، ثم ﺎﻷﺭﺩﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ 45 والسعودية ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ 54 ﻣﻦ ﺑﻴﻦ 140 ﺩﻭﻟﺔ ﺷﻤﻠﻬﺎ مؤشر الجودة.
الاستثمار في التعليم في تلك الدول لا يعني التخلي عن مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، إذ تتحمل كل التكاليف الدراسية فضلاً عما تضخه من أجل تخريج مورد بشري قادر على التعامل مع تطورات سوق العمل، المحلي والدولي، وعلى سبيل المثال ﺗﺜﺒﺖ ﺍﻹﺣﺼاءات ﺃﻥ ﻗﻄﺮ ﺗﺨﺼﺺ 3.2% ﻣﻦ ﻧﺎﺗﺠﻬﺎ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ ﻭﻧﺤﻮ 12% ﻣﻦ ﺇﻧﻔﺎﻗﻬﺎ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﻲ ﻟﻺﻧﻔﺎﻕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺃﻱ ﻧﺤﻮ ﺳﺘﺔ ﻣﻠﻴﺎﺭﺍﺕ ﺩﻭﻻﺭ ﺳﻨﻮﻳًﺎ ﻭﺃﻥ ﻣﺠﻤﻮﻉ ﻣﺎ ﺳﺘﻨﻔﻘﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺣﺘﻰ ﻋﺎﻡ 2025 ﺳﻴﺘﺨﻄﻰ 41 ﻣﻠﻴﺎﺭ ﺩﻭﻻﺭ، وفقًا لصحيفة الوطن القطرية.
وفي المجمل فإن التصريحات المتناثرة بشأن إلغاء مجانية التعليم في مصر ستضع مستقبل 18 مليونًا و608 ملايين تلميذ بالمدارس الحكومية على المحك، خاصة مع تصاعد معدلات الفقر بصورة غير مسبوقة التي لن تسمح بتحمل كلفة الدراسة في المدارس الخاصة أو حتى المصروفات الإضافية التي من المفترض أن تقرها الحكومة، ليبقى السؤال: ما مصير هؤلاء التلاميذ؟ ومن يتحمل مسؤولية تداعيات حرمانهم من التعليم والزج بهم في الشوارع؟