وحده جرس كنيسة القديس برفيريوس الذي بقي يؤنس سكان البلدة القديمة، وتحديدًا حي الزيتون، فحين يدق صباحًا وقت الصلوات في أيام الجمعة والسبت والأحد يهلل صغار المسلمين في الخارج فرحًا لهذا الصوت الذي يغطي على طائرة الزنانة وصوت المدفعيات الحربية، أما من جاءوا للكنيسة فارين من الحرب بعدما نسفت بيوتهم من مسيحيي غزة، فهم يتسابقون إلى ما تبقى من قاعة الكنيسة المقصوفة للصلاة والدعاء لينتهي كابوس الحرب.
وكثيرًا ما تختلط أصوات المصلين المسيحية بالمسلمين في الصلوات وهم يرددون “آمين”، فهناك عوائل مسلمة اتخذت من قاعات الكنيسة مأوى لهم، ففي باحة الكنيسة لا فرق بين مسلم ومسيحي، الصغار يلعبون، أما النساء فيجتمعن حول موقد النار ليتشاركن في طهي الطعام لعوائلهن، بينما الرجال ينصتون للأخبار ويترقبون أي صوت خارجي.
داخل كنيسة القديس برفيريوس، التي تعتبر أقدم كنيسة في القطاع، يقيم نحو 400 شخص معظمهم من مسيحيي غزة الذين قصفت بيوتهم، ولم يجدوا مكانًا يأوون إليه داخل المدينة المدمرة، فجلهم رفض النزوح وقرر البقاء في شمال القطاع يعاني الجوع والخوف تحت مبدأ “هادي أرضنا ولا نتخلى عنها” كما يقولون.
وكما تعرض عدد منهم للقصف والموت، أيضًا اعتقل بعض الشباب المسيحي في الاجتياح البري وأطلق سراحهم بعد التحقيق، وحين يخبر أحدهم الضابط الإسرائيلي أنه مسيحي يرد عليه: “أنتم مخربون أكثر من حماس”.
كيف تقضون يومكم في الكنيسة؟
تقف السبعينية رجاء عبده – مسيحية مصرية الجنسية – داخل الكنيسة تحث السيدات على الطهي وتلبية احتياجات أولادهن الأساسية بدلًا من الخوف والفزع، تقترح عليهن وصفات يمكن إعدادها من المعلبات، تكور العجين بيدها ثم تناوله لسيدة أخرى لتدويره وخبزه سريعًا.
بعدما تعرض بيتها للضرر بفعل القذائف الحربية، خرجت بسلام رفقة أولادها والأحفاد إلى الكنيسة، فهي بالنسبة لهم مكان آمن ولن يمسسه بشر لأن دور العبادة خط أحمر، لكن الاحتلال تجاوز ذلك وقصف في 19 من أكتوبر/تشرين الأول 2023 الكنيسة، وأوقع فيها مجزرة راح ضحيتها نحو 18 مسيحيًا، وبعدها قررت اللجوء إلى كنيسة دير اللاتين.
لماذا لم تسافري إلى بلدك مصر؟ تجيب: “وين أولادي بكونوا هي بلادي (..) سأبقى حتى تنتهي الحرب رغم أني أعاني الأمراض”.
لم تخف رجاء توترها فهي تخاف وتفتقد للأمان كثيرًا، فطيلة الوقت تراقب أولادها والأحفاد حال تحركوا من أماكنهم فتنادي “ما تروح بعيد عن الكنيسة يما بقلق عليكم”، كما تعاني من قلة الرعاية الطبية حتى لو تمكنت من الذهاب للمستشفى كونها مريضة كلى، إلا أنها لا تمتلك ماء الشرب النظيف أو الأكل الصحي.
تحكي المسنة السبعينية لـ”نون بوست” بلهجتها المصرية المحببة لمن حولها: “ظروفي تشبه كبار السن الموجودين في القطاع”.
وفي كنيسة القديس برفيريوس تقيم مي عياد – 31 عامًا – داخل غرفة طرف الكنيسة رفقة عائلتها وصغارها، فمنذ عام وهذا المكان بالنسبة لها هو البيت بمقتنياته البسيطة من أدوات مطبخ وملابس قديمة جاءت بها وقت النزوح.
بعد أسبوع من الحرب وصلت إلى الكنيسة بعدما قصفت الطوابق الأخيرة من البناية التي تسكنها، في البداية ظن السكان أن القصف بالقرب منهم لكن بعدما اشتعلت النيران وانتشر الدخان في المكان هرع الجميع إلى الخارج، فمشهد النار وهي تخرج من الشقق لا يزال عالقًا في ذاكرتها.
قليلًا ما تخرج من باب الكنيسة تحاول تجاوز الدمار كي تصل إلى مكان بيتها في منطقة “تل الهوا” قرب حي الزيتون، علها تستطيع جلب الملابس الشتوية لصغارها، لكنها تعود خوفًا من طائرات كواد كابتر ودبابات الاحتلال هناك، كما تقول لـ”نون بوست”.
تحاول مي السيطرة على صغارها الثلاث، زين وكريم ومريم، حيث تلهيهم بما يوجد من أطعمة وتركز مع أكبرهم زين، في دراسته التي انتظمت قبل عدة شهور ضمن مدرسة تتبع الكنيسة.
تقول لـ”نون بوست” إنها اضطرت مجبرة للخروج من بيتها بعدما قصفت الطوابق الأخيرة من البناية التي تسكن، وهي المرة الأولى التي تنزح فيها إلى الكنيسة رغم الحروب السابقة، ورغم تعرض المكان للقصف عدة مرات وسقوط القذائف فإنها وزوجها يرفضان النزوح إلى الجنوب مطلقًا.
تكمل، وهي تتحايل على صغيرها ليأكل بسكويت العجوة: “أطفالي يطلبون بعض الأطعمة غير المتوفرة في شمال القطاع”، مستذكرة موقفًا: “قبل أيام طلبت صغيرتي مريم من والدها أن يشتري لها عصيرًا كان يباع بشيكل واحد – ما يعادل ثلث الدولار – بينما اليوم في ظل ارتفاع الأسعار وصل سعره إلى 10 شواكل، حينها أخبرها والدها بتهكم من الواقع، العصير أغلى مني يا بابا”.
وعندما سمعها زين تحكي عن قلة الأطعمة المتوفرة، رغم أن الكنيسة تحاول سد احتياجاتهم، قال: “اشتقت آكل البرغر والبيتزا، أريد الذهاب إلى الجنوب عند خالتي لشراء الإندومي والخضار والفاكهة”، ثم سألناه: “هل تعرف معنى النزوح”، رد: “آه، يعني خيمة”.
تضيف مي: “هذه الحرب علمتنا كل شيء، أصبحت أجيد البرجر بمعلبات اللحمة التي نحصل عليها من الطرود الغذائية لكن الصغار يريدون حياة الرفاهية السابقة، لكن صغيرتي لا تعرف شيئًا فهي بعمر العامين، قبل أيام وزعت الكنيسة سلة خضار وأعطيتها جزرة طيلة الوقت تسألني شو هاد يا ماما؟”.
ترفض مي أن يلتقط لها صورة فهي تداري نفسها معلقة: “هذا القميص أرتديه من أول الحرب وأبدله مع آخر رغم شرائي بعض الملبوسات لكني أريد العودة بملابسي القديمة إلى بيتي”.
وتبرر عدم نزوحها للجنوب: “روحي معلقة بمدينة غزة، حين كنت أذهب قبل الحرب إلى بيت لحم وقت الأعياد المسيحية كنت أتلهف للعودة كثيرًا”، لافتة في الوقت ذاته إلى أنها تشتاق للصلاة في كنيسة المهد والقيامة كثيرًا.
بالقرب من مي عياد، كانت صابرين زيارة 50 عامًا وهي مسلمة تصلي صلاة العشاء في ساحة الكنيسة، كان السؤال لماذا أنتِ هنا؟ لترد: “كل عدوان على قطاع غزة آتي من حي الشجاعية إلى الكنيسة مع عائلتي”.
وتكمل: “هذه المرة مختلفة، غالبية النازحين في الكنيسة هم مسيحيون، ونحن هنا عائلات مسلمة قليلة، لكن لا فرق في التعامل فما تقدمه إدارة الكنيسة يكون بالتساوي بين الجميع، أصبحنا عائلة واحدة نتشارك ونتقاسم كل شيء”.
لماذا التعلق بغزة؟
هنا حكاية يسردها العم أبو جورج الذي يسكن قرب مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، وقت اجتياح مستشفى الشفاء، وقتها حوصر كبقية سكان المنطقة، ثم طلب القائد العسكري الإسرائيلي إجلاء كل من في البيوت والتوجه جنوب القطاع.
يقول إنه كان قد جاء لبيته يتفقده بعد فترة طويلة من الانقطاع، وحين عاد طلب من عائلته البقاء في الكنيسة وأنه سيعود إليهم بما يلزم من احتياجات.
يستذكر العم جورج وكأنه انتصر على العدو: “حين أمرنا الجيش بالنزوح كانت الدبابات تسير خلفنا خاصة بعد تجمعنا قرب مستشفى الشفاء (..) كنت أسير ببطء وأفكر كيف سأهرب إلى أزقة البلدة القديمة دون أن يراني أحد، وفعلًا بعد ساعتين من الالتفاف بين الأزقة هربًا من طائرة كواد كابتر، وصلت إلى باب الكنيسة ومن يومها لم أذهب سوى للسوق القريب لشراء المعلبات الضرورية”.
وماذا بعد ذلك؟ يرد العم جورج: “لا شيء، هذه حكايتي في الحرب”، ثم صمت دون أن يتفوه بكلمة، لكنه بقي يردد: “بعين الله يا عمي”.
أما المسيحية بسمة سويلم وهي أم لـ3 فتيات، تتواجد اليوم في مصر بعدما عاشت ويلات الحرب وتنقلت بين كنيسة القديس برفيريوس واللاتين، وكانت شاهدة على مجزرة المعمداني وقصف الكنائس.
تقول إنها عاشت كل تفاصيل الحرب من الطهي على الحطب وغسل الملابس على يدها وأكل المعلبات، وشاهدت ابنتها مغمى عليها بعد ضرب بوابة الكنيسة وظنت وقتها أنها استشهدت.
وتضيف لـ”نون بوست” أنها نجت من الموت مرات عديدة، ففي احدى المرات طلبت منها قريبتها الذهاب إلى غرفتها لتناول الشاي، وقتها انشغلت وقُصف المكان لترتقي قريبتها وعدد من مسيحي الكنيسة شهداء.
قرر زوجها اصطحابها إلى مصر كونه يحمل الجنسية المصرية، بعدما تقدم بطلب لوزارة الخارجية، تستذكر وقت سفرها ثم تكمل: “لا أعرف كيف وصلنا معبر رفح، ظننت أني نجوت (..) لكن بمجرد وصولي بر الأمان شعرت بغصة كبيرة، كيف تركت عائلتي”.
وتضيف: “هذه المرة لم أستطع العيش في مصر، طيلة الوقت أفكر بعائلتي (..) أنتظر انتهاء الحرب للعودة إلى غزة”.
وتشير إلى أن ما يربطها بغزة هو الذكريات والأهل والتفاصيل التي ببساطتها هي حياة، فالركام والدمار والموت سيزول وسيتبدل بالعمار والحياة، فهذه المدينة وأبناؤها لا يعرفون الاستسلام كما تصف.
وتخبر “نون بوست” أنها حين وصلت مصر رأت كل ما لذ وطاب من الطعام، لكنها لم تقترب وتحاول العيش، كما لو كانت بغزة تضامنًا مع أهلها هناك، وطيلة الوقت تجلس أمام شاشة التلفاز وتحاول الاتصال بعائلتها حال أتيح لهم الإنترنت، خاصة لو سمعت عن قصف بجانب الكنيسة.
من يغيث كنائس غزة؟
ليست كنيسة القديس برفيريوس وحدها من تعرضت للقصف وسقوط القذائف عليها عدة مرات، بل شهدت بوابة كنيسة دير اللاتين الكثير من القذائف المدفعية ورصاص الكواد كابتر، لكن ما يدلل على انعدام إنسانية الاحتلال هو محاولة ضرب بيت الراهبات الذي يأوى إليه كبار السن وذوو الإعاقة من المسلمين والمسيحيين، ويقوم على خدمتهم راهبات غالبيتهم من الهند.
يقول كامل اسبيرو عياد مدير العلاقات العامة بالكنيسة برفيريوس الأرثوذكسية، إن أبناء الطائفة المسيحية في قطاع غزة توجه جميعهم إلى البلدة القديمة في حي الزيتون للاحتماء بالكنيسة بعدما تعرض مكان سكناهم للقصف، لكن مع الأيام الأولى من الحرب قصف المكان وارتقى عدد منهم شهداء.
وذكر عياد لـ”نون بوست” أن الكنيسة في الأيام الأولى من الحرب خزنت بعض المعلبات والأدوية الضرورية خشية الأيام العصيبة، وفي كثير من الأحيان توفر قدر المستطاع العديد من الطرود الغذائية للنازحين، ولا تفرقة بين مسلم ومسيحي داخلها.
ولفت إلى أن مسيحيي غزة اعتقدوا أن النزوح إلى الكنائس سيحميهم من الاحتلال، لكن الأخير واصل عدوانه على الجميع، مشيرًا إلى أنه تم استهداف بيت الراهبات بقذائف الدبابات وتم تدمير جزء من المكان رغم أنه مركز إيواء للمعاقين وكبار السن.
ويؤكد عياد رفض أبناء الطائفة المسيحية النزوح إلى الجنوب والتمسك بالبقاء داخل كنائسهم كحال بقية أهالي شمال قطاع غزة، لا سيما في الوقت العصيب الذي يمر به جميع السكان هناك، فبقاؤهم يعزز تمسكهم بالأرض.