تركوا بيوتهم التي لم تزل تحمل عبقهم، حتى وإن هُدمت جدرانها، غادروا بلادهم هربًا من الموت، فروا بأجسادهم من بين فكي نظام لا يجد غضاضة في أن يصنع من جماجم شعبه سلمًا يصعد عليه إلى أحلام مجده وخيالات التخليد، خرجوا لا يعرفون قبلتهم، خطواتهم هي ما يحدد وجهتهم، وإيمانهم بأنفسهم دليلهم في رحلة قد تكلفهم حياتهم.
“السوريون في مصر” عنوان تقرأه كثيرًا على مانشيتات الصحف والمجلات وعبر شاشات الفضائيات، تارة يعزف على أوتار الأخوة والعروبة وضرورة فتح الباب أمام الفارين من جحيم حرب أكلت الأخضر واليابس واحتضانهم بشتى السبل، وتارة أخرى يعلق البعض عليهم شماعة الفشل، أمنيًا كان أو اقتصاديًا، غير أنهم بعد 7 سنوات من الحرب الدائرة في بلادهم باتوا رقمًا مؤثرًا في المجتمع المصري.
500 ألف لاجئ سوري في مصر نجحوا خلال السنوات القليلة الماضية في بناء إمبراطورية اقتصادية ومجتمعية غير متوقعة، استطاعت أن تؤصل لمفاهيم جديدة في الاستثمار وتدشين المشروعات الصغيرة، إلى الحد الذي باتوا هم أنفسهم أرباب عمل لبعض أبناء البلد أنفسهم، هذا في الوقت الذي يعاني فيه الشباب المصري من بطالة زائدة دفعت الكثير منهم إلى الهجرة والبقية في انتظار الفرصة، فلماذا نجح السوريون في مصر رغم الوضع الاقتصادي المتردي؟
قصص النجاح لم تنحصر في مشروعات الأكل والشرب وفقط، وهي المشهورة عن السوريين، غير أنها تجاوزت ذلك إلى اقتحام سوق الأعمال والبيزنس
تجارب ناجحة
“حين قدمت إلى مصر في 2013 لم أكن أفكر في البقاء بها لمدة طويلة، كان في اعتقادي أن الأمر لن يستمر أكثر من أشهر قليلة أو عام على الأكثر ثم أعود إلى بلدي أو على الأقل أغادر إلى أوروبا، غير أن الوضع تبدل تمامًا بعد مرور عام، إذ وجدت نفسي مضطرًا للدخول إلى سوق العمل بعد أن انتهت أموالي”، بهذه الكلمات استهل جاسم العسلي حديثه عن تجربته في مصر.
العسلي الشهير بأبو يحيى السوري المقيم بمدينة السادس من أكتوبر، البالغ من العمر 50 عامًا ويعمل قصابًا (جزارًا باللهجة المصرية) أضاف في حديثه لـ”نون بوست” أنه ظل يبحث عن عمل قرابة شهرين غير أنه استقر في نهاية الأمر على فتح مشروع صغير عبارة عن مجلات للجزارة والمشويات.
“البداية كانت صعبة، خاصة أن بعض المصريين كانوا ينظرون إلينا على أننا جئنا لمشاركتهم رزقهم، لكننا مع مرور الوقت نجحنا في كسب ثقة الجميع”، هكذا أشار أبو يحيى، كاشفًا أنه في غضون أقل من 3 أعوام باتت مطاعمه من أشهر مطاعم المدينة فضلاً عن افتتاحه فروعًا في مدن أخرى كالعاشر من رمضان في محافظة الشرقية.
أما حسين الفراس، 40 عامًا، فأشار إلى أن المصريين من أكثر شعوب المنطقة حبًا لأشقائهم العرب، مضيفًا في تصريحاته لـ”نون بوست” أنه حين جاء إلى مصر بداية 2014 ما كان يمتلك أي نقود تؤهله لافتتاح مشروع خاص به، فالتحق بالعمل في أحد مطاعم القاهرة ومع مرور الوقت طلب منه رجل أعمال مصري أن يشاركه في بناء مطعم للأكلات السورية.
الفراس أوضح أنه اكتشف عشق المصريين لأنواع بعينها من الأطعمة السورية على رأسها “النابلسية” أو الكنافة بالجبنة، وهي عبارة عن مزيج من الجبن والعسل والكنافة، وكان يبيعها بأسعار رخيصة وهو ما دفع الناس للتهافت عليها، وفي غضون عامين فقط استطاع شراء المحل من شريكه ليصبح مملوكًا له بمفرده، وبه يعمل خمسة شباب مصريين.
واقعية السوريين ورغبتهم الحقيقية في إثبات أنفسهم وتخليهم عن المظاهر والشكليات أبرز مقومات نجاحهم في السوق المصرية
قصص النجاح لم تنحصر في مشروعات الأكل والشرب وفقط، وهي المشهورة عن السوريين، غير أنها تجاوزت ذلك إلى اقتحام سوق الأعمال والبيزنس، حيث نجح بعض رجال الأعمال السوريين في بناء مصانع وشركات خلال الأعوام الأخيرة، منهم فيصل الخطيب الشهير بأبو القاسم صاحب أحد مصانع الملابس بمنطقة الهرم بمحافظة الجيزة.
أبو القاسم لـ”نون بوست” أشار إلى أنه اشترى مصنعه بداية الأمر من صاحبه المصري بملبغ قدر حينها بنحو 50 ألف دولار، غير أنه طوره وأعاد هيكلته من جديد، متخصصًا في الملابس السورية والخليجية، وخلال عامين فقط استطاع المصنع أن يحقق شهرة كبيرة في المنطقة وباتت منتجاته مطلبًا لكثير من المحلات، حتى بلغت القيمة السوقية له قرابة 500 ألف دولار.
السوق المصرية ورغم كل ما يثار عنها فهي سوق مفتوحة، تستوعب الكثير من المشروعات والتجارب، لكن المشكلة الأساسية في الإدارة والتخطيط، فكثير ممن يرفعون رايات الشكوى والتملل من عدم ملاءمة السوق المصرية لا يملكون خططًا أو دراسات جدوى جيدة تؤهلهم للنجاح، لكن معظم تجارب السوريين أثبتت نجاحها بصورة فاقت في كثير من الأحيان لو نفذت في سوريا ذاتها، هكذا أنهى أبو القاسم حديثه.
نجح السوريون في كسب ثقة السوق المصرية
لماذا نجح السوريون؟
في الوقت الذي بلغت فيه معدلات البطالة بين المصريين 10.6% في الربع الأول من هذا العام، فيما وصل عدد العاطلين عن العمل 3 ملايين و94 ألفًا، بخلاف تضاعف معدلات هجرة الشباب المصري غير الشرعية لثلاثة أضعاف خلال السنوات الأخيرة، بينما تكتظ فيه سفارات الدول الأوروبية والعربية على حد سواء بطلبات الهجرة، يقدم السوريون المقيمون في مصر أروع الأمثلة في النجاح والتقدم.
هذا بخلاف الأزمة الاقتصادية التي تحياها مصر منذ سنوات وساهمت في تردي الأوضاع المعيشية؛ ما زج بما يقرب من 30 مليون مصري تحت مستوى خط الفقر، فضلاً عن احتمالية تضاعف هذا الرقم حال استمرت الأحوال على ما هي عليه، وهو ما دفع الكثير للتساؤل: لماذا ينجح السوريون مقارنة بالمصريين؟
واقعية السوريين ورغبتهم الحقيقية في إثبات أنفسهم وتخليهم عن المظاهر والشكليات أبرز مقومات نجاحهم في السوق المصرية بحسب الخبير الاقتصادي محمد سيد حنفي عضو اتحاد الصناعات المصرية، الذي طالب الشباب المصري بالتعلم من نظيره السوري.
أثبتت التجربة السورية في مصر – ولا تزال- نجاحها ما بين الحين والآخر، في الوقت الذي يحاول آخرون وأدها، تارة باسم التخوفات الأمنية وأخرى باسم المخاطر الاقتصادية
حنفي لـ”نون بوست” كشف أن الأعمال التي يعمل بها السوريون كانت محل رفض من كثير من المصريين لا سيما خريجي الجامعات، فبعضهم يرتضي أن يجلس على المقاهي في طابور العاطلين انتظارًا للوظيفة الحكومية، فيما يعتبر آخرون أن الالتحاق بأعمال فنية وإدارية متواضعة نوع من الإهانة التي لا تتناسب مع شهاداتهم العلمية، هذا بخلاف الفجوة الكبيرة بين المناهج الدراسية وسوق العمل.
انتفاء الرغبة الحقيقية لدى الشباب المصري في إثبات هويته واستسلامه المطلق لسوداوية المشهد وراء فشله الذريع حتى بات يبحث عن الكسب السريع، مستحدثًا في ذلك بعض السبل، إما عن طريق الهجرة، شرعية كانت أو غير شرعية، أو عن طريق بعض الأعمال الأخرى كالتنقيب عن الآثار والذهب وغيرها، هكذا أكمل عضو اتحاد الصناعات المصرية حديثه.
3 ملايين و93 ألف شاب مصري عاطل عن العمل
أما الإعلامي محمد علي خير، رئيس تحرير جريدة “الجمهورية” الأسبق، ومقدم برنامج ” كلامنا بالمصري” فاستعرض بعض التجارب التي تجيب عن هذا التساؤل، لافتًا إلى أنه وفي إحدى المرات اتصل بعامل تكييف سوري لإصلاح جهاز التكييف الخاص به، وبعد الانتهاء من إصلاحه على أكمل وجه، فوجئ في أثناء إعطائه مبلغًا من المال للفني، بفاتورة يقدمها العامل مختومة بخاتم المحل الذي يعمل به، ومعها ما تبقى من المال، وحينما أخبره بالاحتفاظ بما تبقى رفض السوري مؤكدًا أن هذا ليس من حقه وأنه أخذ ما استحقه فقط.
خير أضاف أنه وبعد هذا الموقف الذي يتنافى كثيرًا مع ما يمارسه المصريون اكتشف حجم الفارق وكيف أن أمانة كتلك كفيلة أن تسوق للعامل السوري في المنطقة، وهو ما حدث بالفعل، حيث وزع رقم العامل على أصدقائه وبات العامل الموثوق لديهم لإصلاح أجهزة التكييف الخاصة بهم، وهكذا نجح العامل في كسب احترام وثقة الجميع.
الإعلامي المصري استنكر في الوقت ذاته ما أسماه “تكبر” الشاب المصري على بعض الأعمال في انتظار الأفضل مقارنة بنظيره السوري الذي يقبل العمل في أي مجال ثم يطور نفسه ويثبت أهليته بثقة الجميع، ليجد نفسه مع مرور الوقت صاحب عمل ناجح، وهو ما أثبته السوريون منذ قدومهم إلى مصر.
وفي المجمل أثبتت التجربة السورية في مصر – ولا تزال – نجاحها ما بين الحين والآخر، في الوقت الذي يحاول آخرون وأدها، تارة باسم التخوفات الأمنية وأخرى باسم المخاطر الاقتصادية، بخلاف التضييقات الإدارية والإجرائية التي تمارس ضدهم، وبينما هم كذلك يواصل السوريون نجاحهم غير ملتفتين لمعاول هدم ما نجحوا في ترسيخه طيلة السنوات الماضية.