كالتي تنقض غزل قوتها أنكاثًا تنقض تداعيات قضية خاشقجي وظنونها المرعبة خيوط القوة السعودية الناعمة عروة عروة، اهتزت الصورة وتداعت، فالمملكة التي أملت في الأمس القريب حجز مقعد مع كبار العالم تتعرض لامتحان عسير، وعلاقاتها مع المجتمع الدولي بأسره بدأت تصيبها شظايا قضية خاشقجي.
أربكت قضية خاشقجي حسابات حكام المملكة التي فقدت تعاطفًا مهمًا من الكونغرس ووسائل الإعلام وجماعات الضغط، هذا فضلاً عن الانسحاب من المشاركة والرعاية لمؤتمر اقتصادي اسقبلته الرياض، والبعض الآخر علَّق محادثات استثمارية، وآخرون علقوا مشاركاتهم في مشروع نيوم الذي روج له كثيرًا ولي العهد.
وبينما يتحدث الجميع عن تداعيات سياسية واقتصادية لقضية خاشقجي، ظهرت تداعيات رياضية قد تؤثر على محاولة السعودية تقديم نفسها بوصفها المكان الأمثل والأفضل لاحتضان البطولات والأحداث العالمية، لكن تلك الصورة علتها شوائب مرتبطة بسجل حقوق الإنسان المثقل بالانتهاكات في الداخل وبمغامرات عسكرية غير محسوبة العواقب في الخارج.
يختلف ذلك المشهد عن صورة السعودية التي لازمتها على مدار عقود
ثمة المزيد في الطريق: لماذا الرياضة؟
قبل نحو عامين، ألقت السعودية بثقلها جديًا وراء الرياضة، عبر إنشاء صندوق تنمية الرياضة الذي كان هدفه توجيه بعض الثروة النفطية الهائلة للبلاد نحو بناء بنية تحتية جديدة، من نوادٍ رياضية ومرافق القواعد الشعبية وساحات النخبة وجذب أحداث رياضية دولية والترويج لها، بهدف تجميل صورة السعودية “القمعية” في الداخل والخارج.
ويختلف ذلك المشهد عن صورة السعودية التي لازمتها على مدار عقود، فالمملكة لم تبذل جهدًا كبيرًا للانخراط في المجتمع الرياضي الدولي، فقد كانت تنظر إلى الرياضة بالطريقة نفسها التي تنظر بها إلى العديد من أشكال الترفيه الأخرى باعتبارها أمرًا غير ذي أهمية في أفضل الأحوال، وتهديدًا ثقافيًا في أسوأ أحوالها.
كان موقف المملكة الإسلامية المتشددة من الرياضة يعكس بطريقةٍ ما سلوك المملكة تجاه بقية العالم: لا مبالاة متغطرسة تعززها حقيقة أنَّها يمكنها ببساطة في أي لحظة إيقاف إمدادات النفط – مصدر الدخل الرئيسي في البلاد – وإصابة الاقتصاد العالمي بهبوط حاد، أما الآن، فهي تعوّل على قطاع الترفيه لتنويع اقتصادها المتضرر جراء تراجع أسعار النفط عن مستويات منتصف 2014، التي تجاوزت 120 دولارًا للبرميل.
السعودية لجأت في عهد ابن سلمان إلى إستراتيجية استخدام الرياضة في إعادة بناء صورة الدولة، خاصة بعد أن اجتاحت الفعاليات الترفيهية كل الأمكنة
ومنذ ظهور ولي العهد محمد بن سلمان اختلف المشهد كثيرًا، ففي مقابل صورة وحشية رسمتها “جرائم حرب” ترتكبها السعودية ضد جيرانها في اليمن، وانتهاكات حقوقية تطال مواطنيها في الداخل، سعت المملكة بقوة لتوظيف الرياضة والرياضيين كوسيلة لتلميع صورتها والتغطية على انتهاكاتها الوحشية لحقوق الإنسان في الداخل والخارج.
وبحسب منظّمات حقوقية دولية، فإن السعودية لجأت في عهد ابن سلمان إلى إستراتيجية استخدام الرياضة في إعادة بناء صورة الدولة، خاصة بعد أن اجتاحت الفعاليات الترفيهية كل الأمكنة، وتزامن ذلك مع وصول تركي آل الشيخ إلى كرسي الهيئة العامة للرياضة (أرفع جهة مسؤولة عن مختلف الأنشطة الرياضية) بالسعودية، ووعد بتحويل المملكة إلى وجهة رياضية عالمية على غرار الجارة قطر.
وبدأت المزايدات السياسية على شخص ولي العهد بعد قرارات كانت المرأة عمادها، وكان على رأسها السماح للسعوديات بدخول الملاعب الرياضية رسميًا بداية عام 2018، لكنها – في رأي البعض – لم تغير شيئًا في واقع المرأة السعودية، فقد بدأ ولي العهد بآخر سلم الأولويات التي تطالب بها المرأة السعودية.
وقَّعت السعودية،مع رئيس اتحاد “WWE” عقدًا حصريًا لاستضافة عروض المصارعة الحرة لمدة 10 سنوات
أما رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرياضة تركي آل الشيخ فقد كان أكثر استخدامًا لتلك الإستراتيجية، ففي نهاية فبراير 2018، وقَّعت السعودية، مع رئيس اتحاد “WWE” عقدًا حصريًا لاستضافة عروض المصارعة الحرة لمدة 10 سنوات، مقابل 450 مليون دولار، ضمن فعاليات فنية ورياضية غير مسبوقة في المملكة أقيمت إثر قرارات أدت إلى التخلي عن عدد من القوانين والأعراف الرسمية التي اعتمدتها على مدار عقود، خصوصًا بعد إنشاء الهيئة العامة للترفيه.
وبالفعل استضافت مدينة الملك عبد الله الرياضية بجدة “الجوهرة المشعّة” أول عروض المصارعة، في أبريل/ نيسانالماضي، وحمل اسم “أعظم رويال رامبل” بمشاركة كوكبة من أبرز المصارعين العالميين، وقد تداول رواد مواقع التواصل مقطعًا مصورًا لمأدبة نظمها تركي آل الشيخ لنجوم المصارعة الحرة من مؤسسة “WWE“.
وقد بدا أن السعوديين ينتصرون على منافسيهم الإيرانيين، لكن في حلبة المصارعة فقط، إذ دخل الحلبة في مشهد تمثيلي مصارعان يرفعان علم إيران، وقام مصارعون يمثلون السعودية بضربهم وطردهم من الحلبة، ما أثار ردود فعل غاضبة، ففي الوقت الذي يقاتل فيه السعوديون في الحد الجنوبي يرفف علم من تعتبرهم عدوًا في سماء مدينتهم.
كانت السعودية تخطّط لاستغلال “سوبر كلاسيكو” عبر الأسماء اللامعة في صفوف العملاقين البرازيلي والأرجنتيني
لعنة خاشقجي حاضرة: من دجوكوفيتش ونادال إلى نيمار وديبالا
جاءت قضية جمال خاشقجي لتربك حسابات حكام المملكة، وذاك ارتباك انعكس في تعاطيهم مع القضية، من صمت يؤكد الشبهة إلى روايات يعوزها التماسك وغياب للأدلة النافية، بل غياب لخطة تحرك دبلوماسية مدروسة، تزامن مع غياب لرأس الدبلوماسية عن المشهد.
وبينما غاب وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عن المشهد، حضر آل الشيخ بـ”إمبراطورية” رياضية حلمت بها السعودية، لكن اغتيال خاشقجي برز عقبة في وجه هذا المسعى، ففي الـ16 من أكتوبر الماضي، لعبت البرازيل والأرجنتين مباراة ودية في جدة، وهي مباراة كانت غير مهمة للجميع باستثناء الحسابات المصرفية للاعبي الفريقين، والسعوديون أنفسهم الذين كانوا قادرين على نشر صور نيمار وكوتينيو وغابرييل خيسوس وديبالا، وهم يلعبون على أرض سعودية أمام جمهور عالمي.
وكانت السعودية تخطّط لاستغلال “سوبر كلاسيكو” عبر الأسماء اللامعة في صفوف العملاقين البرازيلي والأرجنتيني؛ للترويج لصورة تدَّعى أنها باتت الوجهة الرياضية الأولى في منطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن الحدث انتهى دون ضجّة، رغم محاولة بعض وسائل الإعلام المحسوبة على السعودية التهليل للبطولة الودية.
لم يكن إلغاء هذه المباراة – أو ربما تأجيلها بحسب هيئة الرياضة – سوى مشكلة صغيرة في إستراتيجية السعودية للسماح للرياضة وأبطالها بالترويج لها
لم يعد يعلو صوت فوق قضية اغتيال خاشقجي، حتى باتت باقي القضايا والبطولات “تحصيل حاصل”، فقد استضافت جدة – المدينة الثانية في السعودية – أيضًا نهائي سوبر الملاكمة في شهر سبتمبر/أيلول، حين فاز كالوم سميث باللقب بعد هزيمته لجورج جروفز، لكن دون أن تترك المباراة صدى عالميًا كما كان يُخطط القائمون على الرياضة السعودية.
وعلى ما يبدو لا تجري الرياح كما يشتهي المسؤولون السعوديون وتحديدًا تركي آل الشيخ، فبعد شهور قليلة من استهداف طائرات التحالف حافلة تقل أطفالاً يمنيين بمحافظة صعدة، جلس نوفاك دجوكوفيتش ورافائيل نادال في مؤتمر صحفي في باريس، مستشعرين بعض الحرج، إذ كانا في معرض الدفاع عن قرارهما بلعب مباراة استعراضية مربحة للغاية في جدة في 22 من ديسمبر/كانون الأول القادم، في مواجهة دعوات بإعادة النظر في قرارهما بعد مقتل خاشقجي في القنصلية السعودية في تركيا.
تساءل البعض عن المعلومات الزائدة التي يحتاجها دجوكوفيتش للحكم على بلد تمنع فيه النساء من الحقوق الإنسانية الأساسية، ويتعرض العمال المهاجرون بشكل روتيني لسوء المعاملة دون اللجوء إلى القضاء، ويتعرض أعضاء من الأسرة المالكة والعلماء والناشطين للضرب والتعذيب، بلد يرتكب، بحسب الكثير من الخبراء، جرائم حرب في اليمن تحت ستار قتال المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران.
ألغيت مباراة نادال ودجوكوفيتش المقررة إقامتها في السعودية فجأة
جاءت الإجابة بعد أسبوعين، حيث ألغيت المباراة فجأة، وكان السبب المعلن إصابة نادال في كاحله، لكن لم يكن إلغاء هذه المباراة – أو ربما تأجيلها بحسب هيئة الرياضة – سوى مشكلة صغيرة في إستراتيجية السعودية للسماح للرياضة وأبطالها بالترويج لها، خاصة أن النجمين تعرضا لضغوط كبيرة، وقد “تهشم مشاركتهما” في هذه البطولة صورتهما الإنسانية وتفضيلهما المليون دولار لكل واحد منها على تسجيل الاعتراض على “نظام متهم بقتل وتصفية صحفي”.
لكن ليس نادال وديوكوفيتش فقط من ثارت الزوابع حولهما، فحتى المنظمة المسؤولة عن الجولات الأوروبية في رياضة الغولف، التي من المفترض أن تستضيف السعودية إحدى جولاتها مطلع العام المقبل، قالت إنها تراقب الأوضاع قبل اتخاذ القرار، بل إن لاعب الغولف الأمريكي الشهير تايجر وودز أعلن مقاطعته للمسابقة التي تستضيفها السعودية، بحسب ما جاء بصحيفة “التليغراف” البريطانية.
ارفع صوت الموسيقى بما يكفي ولن يكون أحد قادرًا على سماع الصراخ
بحسب الصحفي جونسن ليو في مقال بصحيفة “الإندبندنت“، من السهل معرفة ما يحصل عليه النجوم من ذلك، فحياة نخبة الرياضيين حياة قصيرة ومن الصعب أن نستكثر على من يريد ببساطة تحقيق أكبر قدر من الاستفادة من إمكاناتهم الربحية محدودة الزمن، لكنَّ الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو معرفة ما يحدث على الجانب الآخر.
التقى رئيس الفيفا العاهل السعودي، وولي عهده، 4 مراتٍ خلال العام 2017
إذ سوف تستضيف الرياض افتتاح سباق الموسم الجديد من “فورمولا إي” في شهر ديسمبر/كانون الأول، كما ستستضيف في شهر يناير/كانون الثاني، مباراة كأس السوبر الإيطالي بين يوفنتوس وإيه سي ميلان، وهي مباراة قد استضافتها، في السنوات الأخيرة، قطر والصين وليبيا تحت حكم العقيد القذافي.
وبينما تنشغل الطائرات الحربية السعودية بنسف اليمن، يجوب الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” جيانو إنفانتينو العالم في محاولة للترويج لمنافسة كأس العالم للأندية الذي تموله السعودية، وبحسب صحيفة “الجارديان” البريطانية، التقى إنفانتينو العاهل السعودي، وولي عهده، 4 مراتٍ خلال العام 2017، لكنَّ دخول السعودية في أيٍ من مشروعات “فيفا” قد يُثير جدلاً شديدًا، بالنظر للاستياء العالمي بسبب حادثة مقتل خاشقجي.
وبينما يقبع المنتقدون للنظام السعودي في السجون دون محاكمة، تستعد الجولة الأوروبية لاستضافة أول فعالية لها على الإطلاق في السعودية في شهر يناير/كانون الثاني، مع وجود أمثال داستن جونسون وباتريك ريد من بين الحضور.
أبدى ابن سلمان اهتمامًا بالاستحواذ على ملكية مانشستر يونايتد، أحد أكبر أندية إنجلترا والعالم، وشرائه من مُلاكه الأمريكان
أما على صعيد اللعبة الشعبية الأولى في العالم، فقد أبدى ابن سلمان اهتمامًا بالاستحواذ على ملكية مانشستر يونايتد، أحد أكبر أندية إنجلترا والعالم، وشرائه من مُلاكه الأمريكان، وهنا يدور الحديث عن عائلة “غلايزر”، وذهبت وسائل إعلام بريطانية إلى أبعد من ذلك، بتأكيدها أن الصفقة وصلت إلى مراحلها النهائية، وسط حديث يدور حول 5 مليارات دولار هي قيمة انتقال ملكية النادي الإنجليزي العريق إلى العائلة الحاكمة السعودية.
أما صحيفة “ذي جارديان” البريطانية فقد أكّدت أن المفاوضات بدأت منذ أشهر بين الطرفين، في ظل رغبة ولي العهد السعودي في الاستثمار الرياضي بعيدًا عن عوائد النفط، وضرورة تنوّع مصادر الدخل وفق “رؤية المملكة 2030″، مشيرة إلى أن ابن سلمان رصد ما يقرب من 25 مليار دولار للاستثمار في الرياضة.
رغم كل ذلك يشكك البعض في قدرة المملكة من خلال ثرائها على ترميم كل ضرر محتمل لصورة طافحة بالحداثة دفع لأجلها ولي العهد الشاب كثيرًا في الغرب، وأتبع ذلك بإصلاحات اجتماعية ورؤية طموحة تمتد حتى عام 2030، لكن تلك الصورة علتها شوائب مرتبطة بسجل حقوق الإنسان المثقل بالانتهاكات، المشكلة الآن أكبر، إنها تهدد بتراجع كل تأثير للسعودية على الساحتين الإقليمية والدولية، بل إن من المحللين من يحذر من تحول المملكة إلى دولة منبوذ نظامها.