كان من المفترض أن تتم عملية سرية أمنية واستخباراتية معقدة مساء الأحد 11 من نوفمبر 2018 تقوم بها وحدة خاصة في جيش الاحتلال الإسرائيلي بصمت تام داخل أراضي المنطقة الشرقية في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، ومن المؤكد أن العملية استخباراتية تمامًا لتثبيت أجهزة تنصت واتصال حديثة داخل القطاع على شاكلة سابقة لما حصل في منطقة الزوايدة والبريج أو في جنوب لبنان قبل كشف أمرها.
كانت عملية معقدة تشبه الدخول إلى عش الدبابير، ومن هنا يمكن اعتبار نجاح العملية أو فشلها في عودة الوحدة القتالية في جيش الاحتلال الإسرائيلي سالمة مع قيامها بالمهمة، لكنها عادت بقتيل برتبة مقدم وهي أعلى رتبة تُقتل في الجيش الإسرائيلي منذ حرب غزة 2014، وفشل تركيب أجهزة الاتصال التي عرضتها صور المركبة التي قصفها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ما الذي حصل؟
حسب مصادر دقيقة لـ”نون بوست”، كانت الرواية الحقيقية تتحدث عن سيارة من نوع “فلوكس فاجن” مدنية وفرها أحد العملاء لقوة خاصة تسللت عبر الحدود الشرقية لمنطقة خزاعة وعبسان الكبيرة وهي منطقة جغرافية زراعية مفتوحة “ساقطة أمنيًا” بالمفهوم الميداني، وكانت السيارة مجهزة بأجهزة استخباراتية واتصال مباشر مع الجهات المختصة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتوقفت السيارة بالقرب من القيادي القسامي نور بركة في منطقة بني سهيلا ما أثار شبهات، دفعت الشهيد بركة للشك فيها وملاحقتها بمرافقة عدد من المقاومين.
المنطقة التي دخلت منها القوة الخاصة الاستخباراتية الإسرائيلية
تمكن المقاومون من عرقلة طريق السيارة وإيقافها بالقرب من “روضة السندباد” في منطقة عبسان الكبيرة، وطالبوهم بإبراز هوياتهم الشخصية، فبادرت القوات الخاصة الإسرائيلية بفتح النار من المقاعد الخلفية تجاه المقاومين، حيث استشهد على الفور الشهيد نور بركة مع المقاتل خالد القرا، قبل أن تحاول السيارة التي تقل جنود الاحتلال العودة للحدود بعد خوض اشتباك مع المقاومين الموجودين الذين تواصلوا مع قوات الميدان لمتابعة السيارة ومنعها من الخروج.
سلاح الجو في جيش الاحتلال الإسرائيلي خرج بأنواعه المختلفة فور انكشاف العملية التي كان يراقبها من الأعلى بكل أنواع الطائرات القتالية دون طيار (الاستطلاع والهجوم والاتصالات)، وأطلقت طائرات F16 أكثر من 40 صاروخًا خلف السيارة وعلى مسافات أمامها، وكذلك رشاشات المروحيات وصواريخها لتأمين خروجها.
فيديو مشاركة الأباتشي برشاشاتها وصواريخها لتأمين خروج السيارة، مراقب من طائرات دون طيار شرق مدينة خانيونس
في حين أطلقت المقاومة العديد من قذائف الهاون عليها قبل أن تصطدم بحائط أسمنتي وتهبط طائرات مروحية على الحدود لإخراج الخلية الإسرائيلية، التي قتل فيها كولونيل وليس قائد المجموعة، أي أنه خبير متخصص في أجهزة التجسس وهو ما تطلب نزول هذه المجموعة على الميدان، وقد أظهرت صور من السيارة التي قصفتها طائرات الاحتلال مجموعة من أجهزة التجسس، وفق ما تعرضه الصور القادمة للسيارة ومكان قصفها للتغطية على الأدوات التقنية الموجودة بها.
تطابقت الرواية مع بيان كتائب القسام في 12 من نوفمبر 2018 الذي لم يفصح عن نوع العملية: هل هي لخطف القيادي نور بركة أم أنها استخباراتية تهدف لزرع أجهزة تجسس؟ وقد نشر أفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي باللغة العربية أن العملية لم تكن بهدف الاغتيال أو الخطف، وهو ما يعزز فرضية أنها عملية استخباراتية تهدف لزرع أجهزة تنصت فائقة التقانة لترصد مرابض الصواريخ وحركة الأنفاق تحت أراضي غزة، أو مراقبة أجهزة الاتصال الداخلية التابعة لحماس.
العملية التي نفذتها القوة الإسرائيلية الليلة الماضية لم تكن تهدف لتنفيذ عملية اختطاف أو اغتيال
— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) November 12, 2018
ماذا بعد فشل الاحتلال الإسرائيلي الاستخباراتي شرق خانيونس؟
اعتبر الاحتلال الإسرائيلي أن العملية كانت مؤلمة وشديدة القسوة عليه، فهو أرادها سرية وأن تتم بهدوء دون أي تأثير سياسي على مسار التهدئة، فقد علق وزير جيش الاحتلال أفيغدور ليبرمان قائلًا: “فقدنا بالأمس في غزة مقاتلًا متعدد المهام، فالقتيل في عملية خانيونس نائب قائد الوحدة الخاصة ماجلان”، وقد ذكر غادي آيزنكوت رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي قائلاً: “قوة خاصة تابعة للجيش نفذت عملية ذات أهمية كبيرة لأمن “إسرائيل” واستخدمنا فيها سلاح الجو لتأمين انسحابها”.
نزول خبراء ومقاتلين في جيش الاحتلال الإسرائيلي لزراعة أجهزة تجسس بأيديهم يعني تمامًا أن الاحتلال بات يفقد معلوماته عن تحديثات المقاومة الفلسطينية، خصوصًا كتائب القسام
الحقيقة أن المقاومة الفلسطينية بقيادة القسام تعاملت مع الحدث بضبط نفس منقطع النظير، ولم تنجر لتصعيد شامل، وهو ما فاجأ الاحتلال الإسرائيلي، إذ إن المعادلة التي ترسخها دائمًا أن “أرض غزة صعبة الدخول وليست نزهة، وعليكم القبول بالخيارات البديلة في مفاوضات غير مباشرة”، ومع أن الاستخبارات الإسرائيلية نفذت عدة عمليات مشابهة لعملية الأمس بسرية تامة في لبنان وغزة وكشف أمرها لاحقًا، إلا أن هذه العملية التي نفذت في أكثر المناطق ضعفًا بقطاع غزة فشلت وقتل خلالها ضابط برتبة مقدم.
بنك أهداف صعب الوصول
هنا صورة مختلفة يخشى الاحتلال الإسرائيلي نقلها للضفة الغربية، أن الأصل في الوضع الفلسطيني وعلاقته بالاحتلال الإسرائيلي الاشتباك والحرب والتهدئة استثناء، وقد بدا بنك الأهداف في غزة صعب الوصول إليه ويحتاج أن تنزل قوات الهندسة للاحتلال الإسرائيلي على الأرض لتزرع بنفسها أجهزة تجسس تعطيها معلومات قادرة على اتخاذ قرارات مستقبلية بشأن غزة، وهو ما جعلها مستعدة لهذه المغامرة التي حسبت جيدًا كيفية دخول القوة الخاصة، وتعزز العملية أيضًا أن النقص الاستخباراتي واضح نتيجة نقص العملاء الإسرائيليين في أرض غزة بشكل كبير جدًا، وإن وجدوا فإن تقديراتهم ومعلوماتهم خاطئة بشأن شبكة الاتصال للمقاومة والصواريخ وآلية التصرف.
نزول خبراء ومقاتلين في جيش الاحتلال الإسرائيلي لزراعة أجهزة تجسس بأيديهم يعني تمامًا أن الاحتلال بات يفقد معلوماته عن تحديثات المقاومة الفلسطينية، خصوصًا كتائب القسام، وهذا لا يعني بالضرورة صعوبة احتلال قطاع غزة إن أراد الاحتلال الإسرائيلي ارتكاب محرقة، بل ما الذي ينتظره في شوارع غزة إن فقد الاتصال بجنوده فيها أو إن بقيت الصواريخ تهطل على المستوطنات ما يستلزم نزول قوات الهندسة لتفكيك هذه المنظومات، لذلك فإن أهمية تركيب أجهزة استخبارية ضرورة ملحة لجيش الاحتلال الإسرائيلي في أرض غزة تؤخره لخوض معركة جديدة فيها أو تصعيد، لكنه اليوم أصبح يدفع ثمنًا أكبر لنزول هذه القوات.