تاريخيًا، تميزت إنغوشيا بموقعها الجيو-استراتيجي الذي مثّل حلقة وصل بين طرق التجارة الرئيسية، والحد الفاصل بين آسيا والقارة الأوروبية، حيث تقع في جنوب غرب روسيا عند سفوح جبال القوقاز الكبرى، ويحدّها أوسيتيا الشمالية من الشمال الغربي، وتجاورها الشيشان من الشرق، وتشكّل سلسلة جبال القوقاز حدودها الجنوبية مع جورجيا وإقليم ستافروبول.
إنغوشيا والشيشان كانتا بلدًا واحدًا، وحدود إنغوشيا التي رسمها الروس لا تعكس الانقسامات العرقية الفعلية، وقد خلقت إشكاليات وتعقيدات كثيرة، ما زالت إلى اليوم المصدر الأساسي لكل مشكلات إنغوشيا حتى مع أبناء عمومتهم الشيشانيين، كما منعت هذه الحدود إنغوشيا من إقامة علاقات اقتصادية وسياسية مستقرة مع الجوار رغم كل الثروات الطبيعية والمعدنية التي تتمتع بها، والتي قد تغير من واقع أهل البلد ومستقبلهم.
هذا المقال جزء من ملف “ديار الإسلام في روسيا”، وهي سلسلة نتتبع فيها تاريخ وحاضر الأقاليم التي تضم أكثرية مسلمة، تقدر بـ25 مليونًا، وخاضعة للسيطرة الروسية.
إنغوشيا اليائسة
رغم أن إنغوشيا أصغر جمهوريات الاتحاد الروسي، إذ تبلغ مساحتها نحو 3 آلاف و600 كيلومتر، فهي واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في شمال القوقاز، ولديها أعلى معدل ولادة في الاتحاد الروسي. وحسب إحصاء 2024، يبلغ عدد سكانها 527 ألفًا و200 نسمة، ويشكّل الإنغوش غالبية السكان بنسبة 96%، والباقي جنسيات روسية وأوكرانية.
تعتمد إنغوشيا في مصدر دخلها الأساسي على الزراعة وتربية الماشية، بجانب النفط والغاز الطبيعي والمعادن والقطاعات الصناعية خاصة الأخشاب، وكذلك العديد من الحرف والفنون الشعبية كالفخار والسجاد والمجوهرات والتطريز والنحت، وفي السنوات الأخيرة لجأت إنغوشيا إلى السياحة، وبالفعل لديها قطاع سياحي متنامٍ.
أما التعليم الإسلامي ففي تطور كل يوم، إذ توجد الكثير من المدارس والمساجد والمؤسسات التعليمية الإسلامية التي افتتحت مؤخرًا، واللافت أن حجم التعليم العالي الإسلامي في إنغوشيا أعلى حتى من داغستان، إذ توجد 6 جامعات إسلامية في هذا البلد الصغير. كما يشكّل الصوفيون في القرى ما يسمّى بمجموعات المريدين، وهم أتباع إحدى الطريقتَين القادرية والنقشبندية.
اليوم، تعيش إنغوشيا حالة من الاضطراب السياسي كنتيجة مباشرة للسياسات الروسية، كما تظل إنغوشيا الأكثر فقرًا والأقل استقرارًا في المنطقة، إذ تعاني من أعلى معدل بطالة في الاتحاد الروسي، رسميًا بلغ 40%، لكن التقارير المحلية تصرّ على أنه أقرب إلى 50%.
وفي حين قد يبدو الوضع الحالي في شمال القوقاز مسيطرًا عليه من قبل روسيا، لكن إنغوشيا واحدة من أكثر جمهوريات شمال القوقاز تأثرًا بالأيديولوجية الجهادية التي ظهرت منذ الحرب الشيشانية الأولى، وقد ذهب العديد من المقاتلين الإنغوش إلى سوريا والعراق، ويرى كثير من الباحثين أن الضغط الروسي على الإنغوش أدّى إلى تنامي المجتمع السلفي وتغذية التمرد.
فكرة الاستقلال عن روسيا ما زالت ماثلة في ذهن شريحة واسعة من المجتمع الإنغوشي، ففي أواخر مارس/آذار الماضي حاصر 150 جنديًا روسيًا 6 مسلحين وصفتهم موسكو بـ”انفصاليين إنغوش”، وقتلتهم في كارابولاك.
وفي عام 2023 أصدرت حركة تسمّى “استقلال إنغوشيا” بيانًا أعلنت فيه تشكيل “جيش تحرير إنغوشيا”، ودعت إلى إنهاء الاحتلال الروسي، وبالفعل هناك العديد من الكتائب الإنغوشية تقاتل اليوم في صف أوكرانيا. وقد صوّت البرلمان الأوكراني على الاعتراف بحق الأمة الإنغوشية في تشكيل دولة مستقلة.
الجذور والبنية الاجتماعية
الإنغوش من أقدم الشعوب الجبلية التي سكنت شمال القوقاز منذ عصور ما قبل الميلاد، ويلتقون مع الشيشانيين في أصل واحد، ووفقًا للمؤرخ الشيشاني يافوز أحمدوف، فقد هاجر سكان ناخ (الذين يشملون أسلاف الشيشان والإنغوش الحاليين) من السهول إلى الجبال في أواخر عام 1262م، لحماية أنفسهم من الغزوات المغولية في منطقة مضيق داريال، وظلوا في الجبال حتى تسعينيات القرن الرابع عشر.
لم يتمكن المغول من غزو الجزء الجبلي من إنغوشيا، وظل الشيشانيون والإنغوش غير متأثرين نسبيًا بالغزو المغولي حتى عام 1395 عندما عانوا من هزيمة كبرى على يد تيمورلنك، إذ تسلقت جحافل جيشه الجبال وقتلوا وأحرقوا المراعي ومئات القرى الجبلية، ونتيجة لذلك تفتتت قبائل ناخ إلى وحدات اجتماعية أصغر وتشتتت في الجبال، ثم كانت تتحد من جديد في عدة أوقات.
من الناحية الدينية، كان الإنغوشيون منذ العصور القديمة على معتقداتهم الوثنية، ثم في الفترة من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر اعتنق الإنغوش الإسلام، ومثل الشيشانيين فإن غالبية الإنغوش على المذهب الشافعي.
رغم أن اللغتين الشيشانية والإنغوشية مختلفتان من الناحية الرسمية، فإن كلتاهما من نفس العائلة ومتشابهتان إلى حد يجعل من السهل على الشعبَين أن يفهما بعضهما، إذ تشترك اللغة الإنغوشية في %40 مع الشيشانية، ومثل الأخيرة كانت اللغة الإنغوشية تكتب بالأبجدية العربية، إلى أن فرض الروس كتابتها بالأبجدية السيريلية منذ عام 1938.
على غرار أبناء عمومتهم الشيشانيين، فالإنغوش مجتمع قائم على العشيرة ومحافظ جدًّا في كثير من النواحي، ويتعامل وفقًا للشريعة والعادات القَبَلية، وإلى اليوم يلاحظ أن الإسلام متشابك بعمق مع التقاليد ويتغلغل في عقلية وسلوك الإنغوش.
مشاعر الاستقلال والكرامة والحرية هي سمات مميزة للغاية للشخصية الإنغوشية، وما زالت التقاليد الجبلية القديمة والروابط العشائرية جزءًا لا يتجزأ من حياة 350 عشيرة تعيش في إنغوشيا اليوم، وإذا حدثت مشكلات وانقسامات، فإن الناس كقاعدة عامة لا يلجأون إلى المحاكم والقانون الروسي. ويعتقد الإنغوش أن القبيلة بمثابة آلية للحفاظ على تماسك مجتمعاتهم، يمكن القول إنها تعمل كمنظمات اجتماعية.
حتى اليوم، يواصل شيوخ القبائل في إنغوشيا أداء أدوار بارزة للغاية في حل النزاعات، والتواجد في الاحتفالات والمناسبات العامة والطقوس الدينية، كالجنازات والزواج، وعادة ما يسعى الساسة للحصول على الدعم الرمزي من شيوخ القبائل.
أيضًا إنغوشيا تعتبر متحفًا ضخمًا في الهواء الطلق، وتشتهر بمناظرها الطبيعية الجبلية وأبراج المراقبة والقلاع التي يعود تاريخ بعضها إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وكانت هذه الأبراج دفاعية ضد قطاع الطرق والغزاة، ويُنظر إليها اليوم كرمز لقوة وصمود الإنغوشيين.
المجتمعات الإنغوشية غنية جدًا بثقافة متنوعة من التقاليد والأساطير والملاحم والأغاني والأمثال والأقوال، وتحظى الموسيقى والأغاني والرقص بتقدير كبير، كما تبرز ذكريات المظالم في تحديد هوية الإنغوش اليوم، وهناك الكثير من الذكريات التي يتقاسمها الشيشانيون والإنغوش فيما يتعلق بماضيهم مع الهيمنة الروسية، خاصة حرب القوقاز (1817-1864) والقمع السوفيتي اللاحق وعدم احترام ثقافتهم ولغاتهم الأصلية، لكن يظل التهجير القسري في عهد ستالين اللبنة الأساسية لذكريات المظالم.
إنغوشيا في الفترة القيصرية
بحلول القرن الثامن عشر، احتلت روسيا الأراضي المنخفضة في الشيشان، ويشير المؤرخ الإنغوشي نور الدين كودزويف إلى أن وفدًا إنغوشيًا من 9 شيوخ في مدينة كيزليار تعهّدوا بالولاء للإمبراطورية الروسية في عام 1770، ثم في عام 1781، حذت العديد من القبائل الإنغوشية حذو الوفد الأول وأعلنوا ولاءهم لروسيا.
وهي البادرة التي لا يزال الروس يعتبرونها اندماجًا طوعيًا في روسيا من قبل الإنغوش، لكن المؤرخ الشيشاني يافوز أحمدوف يرى أن هذا ليس له أساس من الصحة التاريخية، وفي رأيه الذي يتفق معه العديد من الباحثين، فهذه القبائل أُجبرت على إعلان ولائها لروسيا، وكانت تكسر ولاءها في أي لحظة، بجانب أن هناك عشائر إنغوشية أخرى قاومت بشدة الغزو الروسي.
بعد هزيمة الدولة العثمانية أمام روسيا عام 1774، كثّفت روسيا جهودها الاستعمارية في شمال القوقاز، وردًا على الاحتلال الروسي أعلن الإمام منصور الحرب ضد الروس، وبحلول عام 1785 حظيت ثورة منصور بدعم قوي، وعلى مدار السنوات الستة التالية بذلت روسيا محاولات متكررة لقمع ثورة منصور، ونجحت أخيرًا في اعتقال الأخير الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة.
بعد قمع ثورة الإمام منصور، كانت القبائل الشيشانية والإنغوشية مجزأة وضعيفة، وهذه الفترة مرتبطة باسم أليكسي يرمولوف (1777-1861)، وهو جنرال روسي وصف الشيشانيين والإنغوش في تقريره إلى القيصر ألكسندر الأول بأنهم “شعب جريء وخطير وأن غزوهم يتطلب نهجًا وتكتيكًا خاصًا”.
في فترة حكم يرمولوف، أحكم الروس احتلالهم لإنغوشيا، وبنوا سلسلة من المستوطنات الروسية في الأراضي الشيشانية والإنغوشية، فضلًا عن بناء العديد من القلاع والحصون العسكرية خاصة في مدينة نازران بإنغوشيا.
في عام 1810 وقّع ممثلو 6 عشائر إنغوشية في قرية إنغوشيت على وثيقة الولاء لروسيا، وانتشر الاسم العرقي منذ ذلك الوقت، لكن كانت هناك عشائر إنغوشية قاومت الغزو الروسي وانتفضت مرتين، واحدة في عام 1822 والأخرى في عام 1840، وقد انضم عدد من القبائل الإنغوشية مثل الغالاشيون والكارابولاك إلى صف الإمامين منصور وشامل.
ثم في عام 1858 وقعت انتفاضة شعبية كبرى في الأراضي الإنغوشية في نازران ضد روسيا، وعلى إثرها دمّر الجيش الروسي الكثير من القرى الإنغوشية والطرق التي تربط إنغوشيا بالأراضي التي يسيطر عليها شامل في الشيشان. والأسوأ أن الجيش الروسي سن سياسة “توسيع المستوطنات”، فبين عامي 1859 و1861 بنى الروس 13 مستوطنة قوزاقية على الأراضي الإنغوشية، كل منها ضمّت 200 أسرة.
في ظل هذه الظروف، وجد الإنغوش أنفسهم محاصرين بين الجبال والمستوطنين القوزاق، ومعزولين أكثر عن القبائل الشيشانية، الأمر الذي أدّى إلى زيادة التباعُد بين أبناء عمومتهم وسحق الوحدة مع الشيشان، والتي كانت تعزز بعضها البعض.
وبسبب الأساليب الروسية، وكرد فعل على سنوات الصراع والحرب، عارضت بعض القبائل الإنغوشية استمرار المقاومة ضد روسيا، وعلى رأسهم شيخ شيشاني ينتسب إلى الطريقة القادرية، يُدعى كونتا حاجي كيشيف، بدأ في الوعظ بجميع أنحاء شمال القوقاز في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، عندما كانت الحرب القوقازية الكبرى تقترب من نهايتها.
تمثل برنامج كيشيف الأيديولوجي في الدعوة إلى السلام والمقاومة السلمية، والتكيُّف مع الاحتلال الروسي طالما سمح الأخير بممارسة الدين ومراعاة العادات، وكان خطابه جذابًا بشكل خاص لشعوب الجبال التي أنهكها الغزو الروسي، يقول كيشيف:
“إذا طلب الروس منك الذهاب إلى الكنيسة، فاذهب، فإن الكنائس ليست سوى مبانٍ ونحن في أرواحنا مسلمون.. وإذا أجبروك على ارتداء الصليب، فارتديه، فهو ليس إلا قطعًا من الحديد، وفي قلبك ستظل مسلمًا، ولكن إذا اغتصبوا نساءك وأرغموك على نسيان لغتك وثقافتك وتقاليدك، فانهض وقاتل حتى الموت”.
وسرعان ما انتشرت تعاليم كيشيف بين مجتمعات الجبال، وفي ستينيات القرن التاسع عشر تخلى بعض الشيشانيين والإنغوش المنهكين من الحرب عن الطريقة النقشبندية، وانضموا إلى الطريقة الجديدة، وحتى يومنا هذا يحب الإنغوش القول إن كيشيف أثّر فيهم بكلماته أكثر مما أثر شامل بمقاومته للروس.
رغم نهج كيشيف السلمي، قبض الروس عليه في 1863، وقد تسبّب اعتقاله فيما عُرف بانتفاضة الخناجر، إذ خرج الآلاف من مريديه بالخناجر فقط في محاولة لتحرير شيخهم، لكن القوات الروسية فرقت وقتلت مريدي الشيخ.
إنغوشيا في قبضة الاتحاد السوفيتي
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، تعافت القبائل الشيشانية والإنغوشية، وأعادت ارتباطها ببعضها مجددًا، ثم في عام 1917 أسّس أوزن حاجي جمهورية شمال القوقاز، وأعلنت القبائل الإنغوشية استقلالها عن روسيا واندماجها في الدولة الجديدة.
حتى عام 1920، لم تكن هناك حدود إدارية بالمعنى الحديث بين سكان إنغوشيا والشيشان، حيث كانت الأراضي مرتبطة بعشائر معينة تتحرك بسلاسة في المنطقة، لكن في عشرينيات القرن العشرين، أنشأ الاتحاد السوفيتي منطقتين مستقلتين، واحدة للشيشان والأخرى للإنغوش، ومنذ ذلك الحين تغيرت حدود إنغوشيا بمرور الوقت.
خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، تمرّد الشعب الإنغوشي عدة مرات ضد السوفيت، ومن خلال نزع ملكيات الفلاحين وشنّ الحكومة السوفيتية حملة على ما أسمته “القومية البرجوازية”، بجانب القضاء على الزعماء الدينيين والمثقفين في إنغوشيا بالاعتقال أو الموت، قوض ستالين الهياكل التقليدية الراسخة، وخرب التنمية الثقافية والاقتصادية للإنغوش. وفي فترة 1932-1934 ضربت المجاعة قرى إنغوشيا.
ثم في عام 1944 ألغى ستالين جمهورية الشيشان-إنغوشيا، ووجّه إلى الشعبين تهمة التعاون مع النازيين، وفي قلب الشتاء قام السوفيت بتهجير جماعي لسكان إنغوشيا إلى كازاخستان وسيبيريا، ومات العديد من سكان الجبال بسبب المرض والبرد والجوع خلال طريقهم، أو بعد وصولهم بفترة وجيزة.
الهولوكوست الشيشاني: كيف قام الروس بأكبر هجوم إرهابي في تاريخ البشرية؟
في أثناء التهجير، استوطن الأوسيتيون والروس معظم أراضي الإنغوش، كما قسّم ستالين أراضي الإنغوش ووزّعها على الجمهوريات المجاورة، ثم عندما سمح خروشوف للإنغوش بالعودة إلى ديارهم عام 1957، واجه الإنغوشيون العائدون عداءً كبيرًا من المستوطنين الأوسيتيين والروس الذين حلّوا محلهم، واضطر بعض الإنغوش لشراء منازلهم السابقة.
من المهم ملاحظة أن المرسوم الذي أصدره السوفيت عام 1957، والذي أعاد جمهورية الشيشان إنغوشيا، لم يعد المناطق التي أعطاها ستالين إلى أوسيتيا الشمالية، وبالتالي وجد الإنغوش وطنهم بحدود مختلفة.
ميلاد متعثّر.. الحركة الوطنية الإنغوشية
بحلول الثمانينيات، كانت ذكريات المظالم تؤثر على الشيشانيين والإنغوش بشكل عميق، فأصبحوا مستائين بشكل متزايد من رموز الهيمنة الروسية في بلادهم. وفي الفترة ما بين عامي 1988 و1990 تحركت المشاعر نحو الاستقلال الكامل عن روسيا، ونشأت عدة مؤسسات غير رسمية في القرى والسهول الشيشانية والإنغوشية، ونظمت مؤتمرات ومناقشات حول المظالم والإحساس المشترك بالظلم التاريخي، بهدف تعزيز الهوية والتضامن بين المجتمعين.
خلال هذه الظروف، ولدت الحركة الوطنية الإنغوشية، وكانت القضية الرئيسية التي شغلت همّ السياسين والمثقفين الإنغوش، هي استعادة أراضيهم السابقة التي منحها سالتين إلى أوسيتيا الشمالية في أثناء تهجيرهم عام 1944، وعقد الإنغوش في خريف عام 1988 مؤتمرًا كبيرًا في غروزني، عاصمة الشيشانيين والإنغوش آنذاك من أجل هذه القضية.
ثم في أعقاب الثورة الوطنية في الشيشان التي قادها دوداييف، طالب نواب القرى الإنغوشية من موسكو بعودة الأراضي التي كانت جزءًا من جمهورية الشيشان-إنغوشيا، ومع تطور الأحداث أعلن المجلس الأعلى لجمهورية الشيشان-إنغوشيا الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1990، وبعدها مباشرة تطورت المناقشات بين الإنغوش والشيشانيين حول أولوياتهم.
زار بوريس يلتسن إنغوشيا في 23 مارس/آذار 1991، وكان أول سياسي روسي رفيع المستوى يزور إنغوشيا، ومن الواضح أن هذه الزيارة كانت لهدف واضح، إضعاف استقلال الشيشان. وفي الشهر التالي لزيارة يلتسن، تبنّى المجلس الأعلى للاتحاد الروسي قانونًا بشأن إعادة الأراضي التي اُنتزعت من الإنغوش بشكل غير قانوني، وتصور زعماء الإنغوش أنهم سيستعيدوا مناطقهم.
لذا في 15 سبتمبر/أيلول 1991، قرر الإنغوش الانفصال عن إخوانهم الشيشانيين، وأعلن نواب المجالس الريفية في إنغوشيا إنشاء “جمهورية إنغوشيا”، وقرروا التبعية للاتحاد الروسي المشكل حديثًا.
من الواضح أن ذلك كان على أمل استعادة أراضيهم المحتلة من أوسيتيا، لا سيما أن الرئيس الروسي يلتسن أعطى الإنغوش آمالًا كبيرة، فشل بالنهاية في الالتزام بها. وفي الوقت الذي أعلنت فيه الشيشان استقلالها وإنغوشيا تبعيتها للاتحاد الروسي، لم تكن الحدود بينهما مرسومة، ولم تكن قائمة إلا على أساس تفاهم شفوي بين الشعبين.
إنغوشيا في عهد أوشيف (1992-2001)
لم يكن لدى إنغوشيا وقت إعلان انفصالها عن الشيشان في تسعينيات القرن الماضي أي مؤسسات للتعليم العالي، ولا مطار، ولا فنادق، ولا استاد رياضي، ولا محطة سكك حديدية، أو خطوط الهاتف، أو وزارات ودوائر الحكومية وأجهزة الأمن. كما تمركزت النخبة المثقفة الإنغوشية في مدينتَي غروزني وفلاديكافكاز.
مباشرة بعد تأسيس الجمهورية الإنغوشية، أرسلت موسكو ممثلين روس لمساعدة الإنغوش في تشكيل الحكومة، ومنذ ربيع عام 1991 كانت الاشتباكات بين الإنغوشيين والأوسيتيين تحدث بانتظام، إلى أن خرجت الأمور عن السيطرة في ليلة 30 أكتوبر/تشرين الأول 1993، واندلع صراع مسلح بينهما.
هرع مئات الإنغوشيين إلى بريغورودني للدفاع عن إخوانهم، وفي الوقت نفسه وصل بضع مئات من الرجال من أوسيتيا الجنوبية للدفاع عن الأوسيتيين، وكان كلا الجانبين مجهز بمدافع رشاشة وقنابل يدوية ومدافع مضادة للطائرات وبنادق.
في ظهر يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول، طار وفد من موسكو إلى أوسيتيا الشمالية، وعلى عكس توقعات الإنغوش أعلن العقيد فيلاتوف الموقف الرسمي للحكومة الروسية على شاشة التلفزيون الأوسيتية، قائلًا:
“في الساعة 12:45 ظهر اليوم، وصلت أول طائرة تحمل جنودًا مظليين ومعدّات وذخيرة لأوسيتيا، لا تنسى روسيا أبناءها المخلصين الأوسيتيين الذين خدموها بكل إخلاص وأمانة لسنوات.. سيقوم المظليون جنبًا إلى جنب مع قوات أوسيتيا الشمالية بعمل عسكري ضد المعتدين”.
ثم في اليوم التالي، وصلت أفواج من القوات الروسية إلى المنطقة، قامت أولًا بفصل الأطراف المتحاربة، ثم انضمت إلى قوات أوسيتيا الشمالية والمقاتلين شبه العسكريين من أوسيتيا الجنوبية، وتم طرد ما بين 40 إلى 60 ألف مدني إنغوشي من بريغورودني وفلاديكافكاز – طُرد كل الإنغوشيين تقريبًا -، وأُجبروا على السير عبر الجبال إلى إنغوشيا في ظروف شديدة البرودة، كما تمّ تدمير حوالي 3 آلاف منزل إنغوشي عمدًا.
وجد الإنغوش الذين أُجبروا على مغادرة بريغورودني وفلاديكافكاز ملجأ في إنغوشيا المجاورة، وكذلك في العاصمة الشيشانية غروزني. وحتى اليوم، ظل الصراع بين الإنغوش والأوسيتيين الذي انحاز فيه الكرملين إلى الجانب الأوسيتي دون حلّ، وما زالت العلاقات بين الإنغوش والأوسيتيين متوترة للغاية، واليوم تصطف القواعد العسكرية الروسية على طول الحدود بين البلدين.
عززت هذه الأحداث بشكل كبير من ذكريات المظالم التي عانى منها الإنغوشيون، وينظرون إليها باعتبارها تطهيرًا عرقيًا على أيدي الأوسيتيين والقوات الروسية التي أرسلها يلتسن لطرد الإنغوشيين من بريغورودني وأجزاء من فلاديكافكاز.
بعد هذه الأحداث المأساوية، كانت الشيشان المجاورة غارقة في مشكلاتها، فحافظت على مسافة بينها وبين صراع بريغورودني، وحتى يومنا هذا لا يزال الإنغوش مستائين من أن الشيشانيين فشلوا في مساعدتهم في هذا الوقت، إذ شعر الإنغوشيون بأن لا أحدًا يهتم بهم.
ثم في 28 فبراير/شباط 1993، انتخب الإنغوش أول رئيس للجمهورية رسلان أوشيف، وهو إنغوشي ولواء سابق في الجيش السوفيتي، كان المرشح الوحيد، ولأن حالة الطوارئ استمرت حتى عام 1993، لم تكن هناك انتخابات برلمانية في إنغوشيا إلا في 27 فبراير/شباط 1994، وبموجب مرسوم خاص خصّص أوشيف 3 مقاعد لممثلي الأقلية الشيشانية، و3 للروس.
نصَّ الدستور الجديد على أن إنغوشيا جمهورية رئاسية، واشترط على من يريد الترشح للرئاسة أن يتراوح عمره ما بين 35 و65 عامًا، ويتقن كلتا اللغتين الإنغوشية والروسية. ووفقًا للمادة 11، فإن “استعادة الأراضي التي تم ضمها بشكل غير قانوني من الأراضي الإنغوشية سيكون بالوسائل السياسية”.
تركزت سياسة أوشيف على تهميش القوميين الإنغوش، ورفض بشكل قاطع السماح للقوميين بالاقتراب من الحكومة، وعلى النقيض من نظيره في الشيشان الذي كان يشعل المظالم التاريخية، حاول أوشيف أن يوقف مشاعر الحزن الجماعي، وخاطب شعبه عام 1994 قائلًا: “كفوا عن الشكوى، نعم، نحن أمة عانت طويلًا، لكننا بحاجة إلى العمل، وليس الاستمرار في النظر إلى الوراء”.
أُعيد انتخاب أوشيف لولاية ثانية في عام 1995 بنسبة 66.5% من الأصوات، وخلال فترة ولايته الثانية أعطى الأولوية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإحياء صناعتَي البتروكيماويات والغاز في الجمهورية، وتطوير التعليم والبنية التحتية.
ورغم أن موسكو كان من المفترض أن تموّل برنامج التنمية، لم توفر حتى الاحتياجات الأكثر إلحاحًا لإنغوشيا، ونتيجة لذلك اقترح أوشيف إنشاء منطقة اقتصادية حرة داخل الجمهورية الصغيرة، وقد وافق على الاقتراح كل من يلتسن ورئيس وزرائه فيكتور تشيرنوميردين.
وفّرت المنطقة الاقتصادية حوافز ضريبية لإنغوشيا، وفي فترة 1995-1997 تمّ إنشاء 88 مشروعًا باستخدام الأرباح التي تولدت من المنطقة الاقتصادية الحرة، وشملت هذه المشروعات مصانع ودور نشر ومدارس وجامعة، وبناء مطار ومحطة سكة حديد، ومحطة طاقة كهرومائية، وملاعب رياضية مختلفة، وبناء البنية التحتية للغاز والاتصالات للقرى الجبلية.
وبعد أن خسرت إنغوشيا المراكز الحضرية، إذ بقيت غروزني للشيشان، وفلاديكافكاز في أوسيتيا الشمالية التي كانت بالفعل عاصمة الإنغوشيين، قرر أوشيف بناء عاصمة جديدة، سُمّيت “ماغاس” وأُنشئت أيضًا بتمويل من أرباح المنطقة الاقتصادية الحرة.
تزايد دور التعليم والدين خلال العقد الأول من عمر الدولة الإنغوشية، وانتشرت المساجد في مختلف أنحاء الجمهورية بشكل مكثف، ورغم أن أوشيف همّش الجماعات الإسلامية الأصولية، فإنه أعلن الأعياد الإسلامية الرئيسية أعيادًا رسمية، وحظر بيع الكحول خلال شهر رمضان، وأدخل الإسلام كمادة دراسية في المدارس.
بل إن أوشيف شرّع تعدد الزوجات، فضلًا عن ذلك أدرك الناس أن الحكومة الإنغوشية تبذل قصارى جهدها لتقديم الخدمات الاجتماعية في ظل ظروف بالغة الصعوبة. وبحلول عام 1998 بدأ القطاع الزراعي يقوى، واسترد المجتمع عافيته.
وطوال فترة حكم أوشيف، كان الخلاف السياسي الأساسي في إنغوشيا هو السياسة المتّبعة تجاه الشيشان، والمفاوضات مع الأوسيتيين.
فتح أوشيف الحدود أمام النازحين الشيشانيين، وقد تأثرت إنغوشيا بالحرب الشيشانية بشكل كبير، ليس فقط كمضيفة للاجئين، ففي عام 1995 قصف الروس القرى الجبلية الإنغوشية بشكل متكرر، ما أدى إلى قتل المدنيين، كما تعرض مطار إنغوشيتيا المدني للهجوم بواسطة 7 طائرات تابعة للقوات الروسية في أكتوبر/تشرين الأول 1995.
سافر أوشيف إلى القرى الجبلية التي تعرضت للقصف، وحث السكان على عدم جر إنغوشيا للحرب، كما واصل عقد مؤتمرات صحفية أدان فيها بشدة الغزو الروسي في الشيشان، واستضاف منظمات دولية وثّقت جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الروسية. وقد حظي موقف أوشيف المنتقد للحرب الروسية باحترام القادة الشيشان الذين امتنعوا عن تحدي سلطته.
رغم إدانة الإنغوش للغزو الروسي للشيشان، وحدوث بعض المقاومة للجيش الروسي في أثناء دخوله عبر الأراضي الإنغوشية إلى الشيشان عام 1994، فإنهم لم يدعموا الشيشانيين بالجنود والسلاح، ولم يفسدوا علاقتهم بروسيا الفيدرالية لسببَين رئيسيَّين:
أولهما، قلّة عددهم وتجربتهم الأخيرة مع القوات الروسية في نزاعهم مع الأوسيتين الشماليين حول مقاطعة بريغوردني، والتي حسب الباحث مراد الشيشاني ولّدت لديهم نوع من الخشية والخوف من تكرار مسلسل الإبادة الروسية. السبب الثاني هو دور رئيس الجمهورية أوشيف في إبقاء الإنغوش خارج الصراع.
ثم بعد فترة وجيزة من تسليم يلتسن السلطة إلى بوتين، استقال أوشيف أو بالأحرى أُقيل في 28 ديسمبر/كانون الأول 2001 قبل انتهاء ولايته، إذ يرى معظم المراقبين أن أوشيف تعرض للضغط من الروس، وكان من المستحيل أن يعمل مع القيادة الجديدة في الكرملين.
لقد أمرَ الجنرال الروسي شامانوف بإغلاق جميع حدود مناطق الاتحاد الروسي أمام اللاجئين الشيشانيين في الحرب الثانية، إلا أن أوشيف وحده رفض القيام بذلك، واستقبلت إنغوشيا كل اللاجئين الشيشانيين، الأمر الذي أنقذ آلاف الأرواح.
زيازيكوف (2002-2008)
بعد تنحّي أوشيف، تولى عضو “كي جي بي” وتلميذ بوتين، مراد زيازيكوف رئاسة إنغوشيا في مايو/أيار 2002 في انتخابات اُعتبرت على نطاق واسع غير نزيهة. فترة زيازيكوف تعتبر الأقل أهمية في تاريخ إنغوشيا الحديث، إذ لم يكن لديه أي مشروع، ولم يحاول معالجة المشكلات الاقتصادية، واشتهرت حكومته بفسادها غير المسبوق وعنفها وعدم كفاءتها. بجانب تحويل أراضي إنغوشيا إلى منطقة خلفية لعمليات التطهير التي نفّذتها القوات الروسية في الشيشان.
ثم في عام 2007 كانت إنغوشيا تشهد يوميًا اشتباكات مسلحة، وقد وصل السخط الاجتماعي إلى مستوى عالٍ، حيث بدأت الاحتجاجات الجماهيرية تجوب الشوارع، وأسفرت عن عزل زيازيكوف من منصبه بموجب مرسوم صادر عن دميتري ميدفيديف، وعيّن الأخير الجنرال يونس بك يفكوروف رئيسًا لإنغوشيا في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2008.
يفكوروف (2008-2019)
أعلن يفكوروف عن سياسة جديدة لإرساء الأمن والاستقرار، وتبنّى الحوار بين التيارات الإسلامية المختلفة، كانت السنوات الأولى من حكمه هادئة، وأعطت الأمل لسكان الجمهورية. كما دافع يفكوروف باستمرار عن المجتمع السلفي والمساجد السلفية الـ13 في إنغوشيا، وأنشأ لجنة لمساعدة المتمردين على الاستسلام للسلطات والعودة إلى الحياة السلمية.
مع ذلك اتسمت فترة يفكوروف باستقطاب ديني حاد في المجتمع، وعلى وجه الخصوص، فقد أدى موقف يفكوروف تجاه السلفيين إلى صدام حاد مع مفتي الجمهورية الصوفي الشيخ عيسى خامخوف، الذي حشد دعم الصوفيين ضد يفكوروف والسلفيين.
كان خامخوف الذي اُنتخب مفتيًا في عام 2004، شخصًا مؤثرًا وثريًا تدعمه مجموعة كبيرة من الأئمة المحليين، لقد عارض خامخوف بشدة الحوار مع السلفيين، وخاصة إدراج المساجد السلفية في “المجلس الديني الرسمي”، واستمر على سياسة العداء تلك طوال الوقت.
وصل الأمر أن قام هو وأنصاره في 5 يونيو/حزيران 2015، بالاستيلاء بالقوة على أحد المساجد السلفية في ناصر كورت التي يديرها الإمام الكاريزماتي والمشهور للغاية حمزة تشوماكوف، واندلعت معارك في المسجد، وتعرّض الشيخ حمزة لمحاولة اغتيال، لكن أجهزة الأمن منعوا رجال خامخوف من السيطرة على المسجد.
سجّل المفتي سلسلة من الفيديوهات ادّعى فيها أن تشوماكوف إمام غير شرعي، ولا توجد حاجة إلى اتجاهات جديدة في الإسلام في إنغوشيا. بعد ذلك، ألقى يفكوروف باللوم على المفتي لاستقطاب المجتمع المحلي ودعا إلى استقالته، لكنه تخلى في النهاية عن هذه الفكرة.
وانضمّ علماء الصوفية الذين دعموا المفتي إلى معارضة يفكوروف، وكانوا هم الذين لهم التأثير الأكبر على المجتمعات المحلية، كما سافر خامخوف إلى غروزني عام 2015 للقاء رمضان قديروف الذي عرض على المفتي الإنغوشي الدعم ضد يفكوروف. ومن الجدير بالذكر أن مفتي الشيشان وإنغوشيا ينتميان إلى نفس المدرسة الصوفية، ويتقاسمان جهودًا مشتركة لمواجهة المجتمعات السلفية في جمهوريتيهما.
على السطح، كان الصراع بين قديروف وييفكوروف يدور بشكل أساسي حول الأساليب المتبعة، فقد نفّذ قديروف تكتيكات قاسية للغاية ضد السلفيين، وكان منزعجًا للغاية من أساليب القوة الناعمة التي ينتهجها يفكوروف، واتهمه مرارًا وتكرارًا بتساهله في محاربة الوهابيين، ففي الشيشان يتم التعامل مع جميع السلفيين باعتبارهم شركاءً للإرهابيين.
على النقيض من قديروف، حاول يفكوروف الحفاظ على صورة السياسي الليبرالي المنفتح الذي يفضّل الحوار على القمع، ووفقًا لبعض المحللين فقد كان الرئيس الإنغوشي ينظر إلى قديروف باعتباره فتى صغيرًا، الأمر الذي أثار استياء الأخير إلى حد كبير.
كان لهذه الحلقة تداعيات على المجتمع الإنغوشي حتى اليوم، وأدّت إلى تعميق انقسام المسلمين في إنغوشيا بشكل ملحوظ، ولم يكن خامخوف وأنصاره مستعدين للتفاهم، وحشدوا الدعم على مستويات عالية، لذا ظل الصراع مستعرًا بشدة، وأخذ بُعدًا عشائريًا، فصارت القبائل ضد بعضها البعض.
اتّسمت فترة يفكوروف باستقطاب ديني حاد في المجتمع، وبحلول نهاية ولايته كان الناس غاضبين منه للغاية، وألقوا عليه اللوم في الفساد واستسلامه لبوتين وإرسال كتيبة عسكرية إنغوشية للقتال في سوريا بجانب روسيا.
لكن اتفاقية ترسيم الحدود الغامضة التي وقع عليها يفكوروف مع قديروف في خريف 2018، والتي أعطت الشيشان أكثر من 7% من أراضي إنغوشيا، كانت بمثابة الشرارة التي هزّت المجتمع، ويقول الإنغوش إن الاتفاقية تنازلت عن أراضٍ ذات أهمية رمزية بالنسبة إليهم.
الثورة.. القشة الأخيرة
أدى فساد نظام يفكوروف إلى اندلاع انتفاضة شعبية واسعة هزت إنغوشيا في عام 2018-2019، ونزل آلاف الإنغوش إلى الشوارع ضد اتفاقية الحدود وضد الحكومة، وطالبوا بإسقاطه، وإجراء انتخابات مباشرة لرئيس الجمهورية.
قطعت السلطات الإنترنت، لكن تمكن المتظاهرون من التنسيق، واشتبك الشباب مع الشرطة، وفي الأيام الأولى أحضر المتظاهرون الخيام وبدأوا في اعتصام مفتوح، نظموا أنفسهم وفقًا للتقاليد الإنغوشية، كبار السن في المقدمة مرتدين قبعاتهم التقليدية (باباخا)، ووقف الشباب خلفهم، والنساء في منطقة منفصلة، وأقيمت الصلوات على الأرصفة.
في النهاية، أيّدت المحكمة الدستورية لروسيا الاتحادية اتفاقية الحدود بين إنغوشيا والشيشان، ومن الواضح أن الكرملين قرر إغلاق القضية لصالح قاديروف، ثم جلبت روسيا وحدات عسكرية لقمع الثورة.
وفي وقت مبكر من صباح يوم 27 مارس/آذار 2019، وعندما بدأ المتظاهرون صلاة الفجر، تدخلت القوات الروسية لفض أحد أهم الاعتصامات، حاولت مجموعة من رجال الشرطة الإنغوشية تشكيل درع لحماية المتظاهرين، لكنهم لم يتمكنوا من منع الاشتباك، وردًّا على ذلك اشتبك المحتجون مع القوات الروسية.
- احتجاجات في ماغاس، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
اعتقلت أجهزة الأمن الروسية الثوار والشيوخ، وفي مرحلة ما تم فرض حظر التجول على قرى بأكملها، ورغم أنه من النادر جدًا أن يبقى المتظاهرون في الشوارع لمدة أسبوعين في ظل روسيا بوتين، استمرت الاحتجاجات الإنغوشية التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2018 حتى مارس/آذار 2019، وبلغت ذروتها باستقالة رئيس إنغوشيا.
- احتفال سكان إنغوشيا باستقالة يفكوروف
بعد سحق روسيا للثورة، واعتقال الناشطين وقادة الاحتجاج، اضطرت إلى زيادة وجودها العسكري والأمني في إنغوشيا، وعيّن بوتين محمود علي كاليماتوف رئيسًا لإنغوشيا، بجانب تعيين مواطن روسي هو قسطنطين سوريكوف رئيسًا لوزراء إنغوشيا.
اليوم لا تزال إنغوشيا تعيش أزمة سياسية مزمنة، ومؤخرًا أعلن زعماء العشائر الإنغوشية اعتراضهم على التعديلات التي أقرها الكرملين بشأن إعادة توزيع السلطة لصالح المركز. وفي حين تكافح موسكو للحفاظ على قبضتها في هذه البقعة الصغيرة، إلا أنها اليوم في مأزق، فالقمع في حد ذاته قد غذى غضب السكان.