يقول المؤرخ الأمريكي مارتن كرامر: “لو كانت جوائز نوبل قبل ألف عام، لذهبت تقريبًا حصريًا إلى المسلمين”، كما يقول الباحث مارك جراهام عبر كتابه “كيف صنع الإسلام العالم الحديث؟” إن الحضارة الإسلامية وإسهاماتها الفكرية والعلمية هيأت الظروف لولادة النهضة الأوروبية في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي.
تدلنا هذه الاعترافات الصريحة إلى الإرث العلمي الإسلامي الذي صنعه مجموعة مذهلة من العلماء والشخصيات الإسلامية الفكرية والفلسفية، وبذكر الإنجازات العلمية الإسلامية، يُذكر اسم عالم الفلك أبو معشر البلخي الذي أبدع في مجاله وذاع صيته في الشرق وتجاوزت شهرته حدود الغرب.
يُعرف البلخي في الغرب باسم “ألبوماسر”، فقد كانت كتاباته ونظرياته الفلكية، لا سيما في قسم التنجيم، مصدرًا ومرجعًا رئيسيًا للدراسات والأبحاث في الأوساط الأكاديمية الأوروبية، ولذلك نجد أن العديد من أعماله وكتبه التي تزيد على 30 كتابًا مترجمة إلى اللغات الأجنبية وموزعة في عدة مكتبات بين باريس والبندقية وبرلين وفيينا، ومنها كتب “الزيج الكبير” و”المواليد الكبير” و”الأنوار” و”المدخل الكبير إلى علم أحكام النجوم” وأخيرًا “الدين والدولة”.
كيف بدأت رحلة البلخي في عالم الفلك؟
صورة تعبيرية عن أبو المعشر وهو يراقب السماء
اسمه الكامل أبو معشر جعفر بن محمد البلخي، ولد عام 787 ميلاديًا بمدينة قديمة تُدعى بلخ (واحدة من مقاطعات أفغانستان الآن)، وجاء إلى بغداد بغرض الحج، فقد كان خبيرًا في علم الحديث وميالًا للعلوم الإسلامية بشكل عام، وحينما ذهب إلى العراق وقعت عيناه على المكتبات الثرية بالكتب والمعارف المختلفة، وتحديدًا مؤلفات علم الفلك التي تعود إلى محمد بن الجهم ويحيى بن عبد الله وسند بن علي.
ورغم أنه كان منتقدًا لعلم الفلك، فقد قرر الانغماس فيه بعد أن أخبره أستاذه الفيلسوف العربي يعقوب بن إسحاق الكندي أنه لا ينبغي على الرجل الحكيم أن ينتقد أي موضوع قبل دراسته، فكان هذا الموقف الحاسم الذي دفع أبو معشر إلى التعمق في دراسة علم الفلك والتنجيم.
دخل عالم التنجيم متأخرًا عن عمر يناهز 47 عامًا، لكنه استطاع في سنوات قليلة واعتمادًا على التقاليد الفكرية الهندية والإيرانية واليونانية والساسانية (الإمبراطورية الفارسية الثانية) أن يؤسس نظرياته الفلكية الخاصة، ومن أشهرها أن العالم تم خلقه عندما كانت الكواكب السبع تتزامن في الدرجة الأولى من برج الحمل وسينتهي عند اقتران مماثل في الدرجة الأخيرة من برج الحوت.
استطاع أبو معشر التنبؤ علميًا بتجارب الإنسان المستقبلية أو تفسير أحواله الحاليّة، فقد رأى البلخي أنه من المهم أن يعي الإنسان التغيرات والظروف التي تحاصر حياته حتى يستعد لها ويستفيد منها
يضاف إلى ذلك نظرياته عن قوة النجوم والألوان والأذواق وتأثيرها على التغيرات الجسدية والنفسية للإنسان، التي من خلالها استطاع أبو معشر التنبؤ علميًا بتجارب الإنسان المستقبلية أو تفسير أحواله الحاليّة، فقد رأى البلخي أنه من المهم أن يعي الإنسان التغيرات والظروف التي تحاصر حياته حتى يستعد لها ويستفيد منها.
وذلك عدا عن مجموعة مؤلفاته الهائلة التي تنسب سمات شخصية معينة إلى كل برج وتفسر وقع هذه العلامات والدلالات على ظروف وحظوظ حياة الفرد، إذ قال عنه الفقيه الإسلامي والعالم ابن القفاص إنه كان بالنسبة لمعظم طلاب علم التنجيم الإسلامي “معلم الشعب الإسلامي فيما يتعلق بتأثيرات النجوم”، فقد أبطل العلوم المبنية على الأوهام وأضاف الحقائق والقواعد والحسابات إليها، فوفقًا لبعض العلماء في الصوفية، كان علم التنجيم مسموحًا في الإسلام لأنه لم يكن وهمًا أو ممارسة شيطانية، بل كان يستند إلى المعرفة الإحصائية ولذلك نجد أن علماء الفلك ضليعون بالرياضيات.
كان علم التنجيم مسموحًا في الإسلام لأنه لم يكن وهمًا أو ممارسة شيطانية، بل كان يستند إلى المعرفة الإحصائية ولذلك نجد أن علماء الفلك ضليعون بالرياضيات
كما ذكرنا سابقًا، لم تنحصر علومه وفلسفته في حدود الحضارة الإسلامية، بل تخطت الغرب، وذلك بحسب أطروحة الرائد العالمي في مجال علم التنجيم في العصور الوسطى روبرت زولر التي يقول فيها: “كان لعالم الفلك الفارسي أبو معشر تأثير عميق على علم التنجيم الغربي، وسيكافأ التلاميذ المعاصرين بشكل كبير من خلال دراسة أعماله وتأثيرها”، مع العلم أن إسهاماته النظرية تُدرس في وقتنا الحاضر بجامعات أمريكية وإنجليزية وتركية.
يعد العصر العباسي العصر الذهبي للعلوم الإسلامية
في آخر سنوات حياته، عانى أبو معشر من ضائقة مالية ولتحسين وضعه المادي حاول التقرب من البلاط الملكي العباسي في بغداد، فجاء إلى محمد المعتز بالله وأخبره بأنه سيكون الخليفة المقبل وعندما تحقق الأمر الذي تنبأ به، صرف له الخليفة المعتز مكافأة مالية شهرية بقيمة مئة دينار وأراضٍ بقيمة 30 دينار وعينه مسؤولاً على علماء الفلك في الديوان الملكي.
أسس البلخي المكانة الاجتماعية لعلماء الفلك والتنجيم وحجز لهم مكانهم في دوائر الحكم المركزية
ومنذ ذاك الحين، تفتحت أبواب السياسة أمام علماء الفلك، وازدادت علاقاتهم قوة مع رجال الدولة وأصبحوا أحد أهم الأفراد العاملين في الدولة سواء للاستعانة بعلمهم في الأمور الشخصية أم العسكرية والسياسية، وبهذا يكون أبو معشر أسس المكانة الاجتماعية لعلماء الفلك والتنجيم وحجز لهم مكانهم في دوائر الحكم المركزية، إلى أن توفي في 9 من مارس 886 ميلاديًا بمدينة تسمى الوسيط تقع بين بغداد والبصرة.
في النهاية، فكك البلخي ألغاز النجوم والأجسام السماوية وأعطاها معنى أكثر إثارة للاهتمام والجدل في آن واحد، وربط تحركاتها وسطوعها وعتمتها بحياة الفرد ومصيره، كما أنه منح الغرب مرجعًا مهمًا لدراساتهم وأضاف للعالم الإسلامي اسمًا وإرثًا يذكر بالعصر الذهبي الذي شهد الصحوة الفكرية آنذاك.