تحت شعار “أقدم مطابخ العالم”، تستعدّ الأكلات المحلية التركية في مدينة “شانلي أورفا” بدخول قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير الماديّ، لتصبح بذلك واحدة من مدن العالم التي ستتّجه إليها الأعين والأنظار لثقافتها الضاربة في عمق التاريخ وما تحويه من آثار وبنيان تشهد على واحدة من أقدم وأعرق الحضارات التي استوطنت العالم، فخلّفت وراءها الكثير ممّا يحكي عنها ويقصّ حكاياتها.
تحرز “شانلي أورفا” مكانها في القائمة بعد عامٍ واحدٍ فقط وثلاثة أعوام من دخول جارتيها مدينتي “هاتاي” “وغازي عنتاب” للقائمة على التوالي، فيما لا تزال مدينة “ماردين” بانتظار دورها، لتثبت هذه المدن التركية للعالم عراقة حضارتها التي بدأت منذ أوج التاريخ ليأتي العثمانيون لاحقًا بتطويرها وتجميلها.
المدينة التي غيّرت مجرى البشرية
كانت المدينة تسمّى أصلا أورفا، لكنها مُنحت في وقتٍ لاحق لقب “Şanlı“، أو “المجيدة”، لتصبح “أورفا المجيدة”، للدور الذي لعبته خلال حرب الاستقلال التركية في عشرينات القرن الماضي.
تروي لنا الآثار القابعة في المدينة، أنّ “شانلي أورفا” ليست مدينةً عادية، فهذا هو المكان الذي بنى فيه بنو البشر معبدهم الأول في التاريخ، وهذا هو المكان الذي قرّرت فيه جماعة من الناس البدء بالزراعة لبناء حياةٍ أكثر استقرارًا وحضارة أكثر ثباتًا. وبكلماتٍ أخرى، ينظر العديد من المؤرّخين إلى المدينة القديمة هذه بوصفها “المكان الذي بدأ فيه التاريخ”.
تضمّ المدينة بين جنَباتها موقع “كوبيكلي تبه” أو “تل الكرْش”، الذي غيّر باستكشافه الكثير ممّا هو معروف عن تاريخ الإنسانية. فقد توصّل الباحثون أنّ عمر التل يرجع إلى ما قبل 12 ألف سنة، ليكون بذلك أقدم معبدٍ أنشأه البشر ومارسوا فيه طقوسهم وشعائرهم الدينية في وقتٍ عُرف الإنسان فيه ببدائيّته. وقد احتلّ الموقع المركز الثاني في قائمة “ثلاثون مكانًا على المرء رؤيته قبل أن يفارق الحياة”، على موقع “بيزنس إنسايدر” الإلكتروني.
جزء من الآثار المكتشفة في موقع “كوبيكلي تبه” في مدينة شانلي أورفا
تُعرف المدينة باسم “مدينة الأنبياء”، وباسم “أورشليم الأناضول”، إذ تُعتبر موقعًا مقدّسًا لليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء. ووفقًا للعهد القديم، فهنا وُلد النبي إبراهيم، وهنا أيضًا عاش أيوب ويعقوب وغيرهم من الأنبياء. ووفقًا لبعض الأساطير، فإنّ بحيرة “بالكلي جول” في المدينة تكوّنت بعدما تحوّلت النار التي أُشعلت لقتل النبيّ إبراهيم إلى ماءٍ، فيما تحوّل الحطب إلى أسماك، لتنتج البحيرة التي لا تزال إلى يومنا هذا.
المنازل القديمة والغريبة في منطقة “حرّان” بالمدينة والتي تعود أعمارها إلى آلاف السنين
كما تروي الأسطورة أيضًا، أنّ منطقة “حرّان“’، والتي ذُكرت في التوراة على أنها المدينة التي استقر فيها إبراهيم بعد محاولة قتله وهجرته من أور، هو المكان الذي وطأت فيه قدم الإنسانية للمرة الأولى على الإطلاق، وهو أيضًا المكان الذي تمّ استخدام المحراث والثيران فيه لأول مرة لزراعة الأرض. ولهذه الأسباب ربّما، ستشعر للوهلة الأولى من زيارتك لحرّان بغرابة بيوتها واختلافها عمّا حولها، تمامًا كما أنك ستشعر كأنك وسط رحلةٍ ضائعة في الأبعاد الزمنية العتيقة.
مطبخٌ عريق بعراقة تاريخه
لا بدّ وأنك تذوّقت خلال زيارتك لإسطنبول ذلك الكباب الحارّ، والمعروف باسم “كباب أورفا” وتقدّمه جميع مطاعم المشاوي والكباب في المدينة. أو على الأقل، لا بدّ وأنك سمعتَ عنه. وأهمّ ما يميّز كباب أورفا عن كباب جارتها مدينة أضنة، هو مذاقه المميّز الذي يستمده من أنواع الفلفل الحار المضاف إليه، والذي يُزرع خصّيصًا في مدينتي أورفا ومرعش، عوضًا عن لحوم الخروف المستخدمة به والتي تُعتبر من أفضل أنواع الخراف في تركيا.
يمتاز كباب مدينة أورفا بطعمه الحارّ نظرًا لاعتماده على التوابل والفلفل الحارّ الذي يُزرع ويُجفف في المدينة
ويتميّز كبابها أيضًا بمرافقة الباذنجان له، فيما يُعرف باسم “kazan kebabı“، والذي عادةً ما يُطبخ مع عددٍ من الخضروات الأخرى مثل البصل والبندورة وغيرها، بحيث توضع مع اللحوم على سياخ الشوي لتُطهى سويةً. كما يفتخر مطبخ المدينة بكباب الكبد الخاصّ به، وصفائح اللحم والكبة المحشية، والأطعمة المطبوخة في صواني الفرن. أمّا “الكبّة النيّة” والمعروفة باللغة التركية باسم “تشي كفتة”، واحدةً من أهمّ الوجبات التي تحضر على مائدة سكان المدينة. إذ يُعتقد أنّ أصلها يعود إلى زمن النبيّ إبراهين عليه السلام.
كباب الباذنجان المشهور في مدينة “شانلي أورفا”
أمّا أشهر الحساءات في المدينة فيُعرف باسم ” Lebeni“، والذي يتكوّن أساسًا من حبيبات الحمّص واللبن واللحم. كما تشتهر المدينة بما يُسمّى “lahmacun” المستمدّ من اللغة العربية بمعنى “اللحم بعجين”، وهي قطعة دائرية رقيقة من العجين المغطاة باللحم المفروم، الأكثر شيوعًا لحوم البقر أو الضأن، الذي تُضاف إليها الخضروات والأعشاب المفرومة بما في ذلك البصل والطماطم والبقدونس والتوابل مثل الفلفل الأحمر والأسود والكمون والقرفة. ولعلّها تشبه ما نسمّيه في بلاد الشام بالصفيحة والمناقيش.
يتمّ إعداد “اللحم بعجين” في الأفران الحجرية، فضلًا عن المطاعم والبيوت، ويتصدّر قائمة المأكولات المقدمة للضيوف في المناسبات مثل الأفراح ومراسم العزاء. وعلى الرغم من انتشاره في عموم تركيا، إلا أنّ اللحم بعجين الخاص بمدينة أورفا فيتميّز بفلفل “الإيسوت” وهو نوع من الفلفل الحار الذي تشتهر به الولاية، وصلصة الطماطم، ومزيج من لحم الخروف والبقر.
يُشبه “اللحم بعجين” التركيّ إلى حدّ كبير المناقيش أو الصفيحة التي نصنعها في بلاد الشام
وتشتهر المدينة أيضًا بكفتتها النيّة، أو “تشي كفتة Çiğ köfte“، والتي تروي الأساطير أنّ بدايتها تعود إلى زمن سيدنا ابراهيم وحكايته مع النمرود، فعندما جمع النمرود جميع الحطم والأخشاب في تلك المنطقة لحرق ابراهيم، كانت نسوة المنطقة يبحثن عن الأخشاب فلا يجدنها، فابتكرت إحداهنّ هذه الكفتة النية، حيث كانت تخلط اللحم بالبرغل والفلفل الحار وتقوم بعجنهم بقطع من الأحجار. ومع مرور الزمن، اقتصرت الأكلة على البرغل مع الاستغناء عن اللحم
تقول الروايات أنّ الكبة النية “تشي كفتة” تعود إلى زمن تواجد النبي إبراهيم في المدينة
من جهة ثانية، يعتبر شراب العرقسوس من أهمّ المشروبات المفضلة في المدينة، لا سيّما في فصل الصيف لتبريد الجسم من درجات الحرارة المرتفعة في المنطقة. أمّا القهوة هُنا فتُعرف باسم “مرّة” أو ” Mırra“، ولا نحتاج للشرح حتى نعرف أنّ اسمها مأخوذٌ من اللغة العربية أيضًا. وتحتلّ “المرّة” مكانةً مهمة في ثقافة المنطقة وتشكّل جزءًا مهمًّا من الحياة اليومية في المدينة، كما أنها تتطلب جهدًا خاصا لصنعها، بحيث تحتاج لأن تُغلى أكثير من مَرّة حتى تصبح جاهزة للشرب.
وبذلك، تتمتّع المدينة بثقافةٍ غنية من المأكولات المميزة والفريدة والتي ما تزال منذ آلاف السنين حاضرةً في مطابخها، تزيّن موائد السكّان وتُطعمهم في مناسباتهم المختلفة من أفراح وأحزان وعزائم وغيرها الكثير. وممّا لا شكّ فيه، فمن جرّب الأكل في أورفا أو غازي عنتاب أو هاتاي، سيلاحظ التشابه الكبير والواسع جدًا بين كلٍ من المطبخ التركيّ الجنوبيّ والمطبخ الشاميّ، أي في بلاد الشام.
ويرجع الأمر إلى التشابه بين الثقافتين الناتج عن القرب الجغرافيّ لتلك المدن مع العديد من المدن السورية، عوضًا عن التاريخ المشترك نظرًا للحضارات التي تعاقبت على تلك المناطق، نهايةً بالحضارة العثمانية العريقة التي وحّدت بينها وجمعت الكثير من الثقافات المشتركة بما في ذلك الطعام والموائد.