مع نهاية التنافس السياسي في العراق والخاص بتسمية الرئاسات الثلاثة، ورغم عدم اكتمال الكابينة الحكومية لعادل عبد المهدي، بدا التحرك السياسي الخارجي للعراق مختلفًا عما كان عليه في الحكومات السابقة، فالسياسة العراقية الجديدة لديها توجه حقيقي لترميم العلاقة مع الدول العربية الفاعلة، لا سيما الدول الخليجية منها، بسبب الظروف الصعبة التي يمر بها العراق بشكل خاص، والظروف التي تمر بها المنطقة بشكل عام.
وبسبب أن الحكومة العراقية الجديدة لا تختلف كثيرًا عن الحكومات التي سبقتها من ناحية التوزيع الطائفي المحاصصي، فإن كل مكون داخل بالعملية السياسية يحاول جاهدًا أن يجد ما يخدمه، ليس فقط على المستوى الداخلي، إنما على مستوى العلاقات الخارجية أيضًا.
من ناحية المكون الكردي، كانت هناك دعوات واضحة وصريحة قبل أيام من مسؤول العلاقات الخارجية بحكومة إقليم كردستان فلاح مصطفى باكير بضرورة التقارب من الدول العربية والخليجية منها على وجه الخصوص، ذلك حينما دعا السعودية ومصر وباقي الدول الخليجية لدور أكبر في المسائل العراقية، هذه الدعوة التي كانت من مسؤول العلاقات بحكومة الإقليم، تمثل إرادة كل الأحزاب الكردية المشكلة لها، وبالتالي فإن هذا يفسر وبشكل واضح الحماسة التي يبديها رئيس الجمهورية الجديد برهم صالح للتقارب من الدول العربية والخليجية، لأنه من المكون الكردي وقيادي بحزب الاتحاد الكردستاني، أحد أكبر الأحزاب في كردستان.
يجعلنا هذا ندرك مدى حاجة هذا المكون للدعم العربي، بالأخص بعد تجربة الاستفتاء الفاشلة للانفصال عن العراق التي أثرت كثيرًا على الشعب الكردي وعلى علاقات الساسة الكرد بالدول العربية، وفي أول زيارة خارجية لبرهم صالح منذ توليه منصب رئيس الجمهورية، قام بجولة خليجية بدأت بزيارة رسمية للكويت.
من غير المرجح أن يقدم السياسيون الشيعة أي تنازلات بما يخص علاقاتهم بالنظام الإيراني لصالح التقارب مع السعودية وباقي دول الخليج
أما ما يخص المكون العربي السني، فإن العلاقات مع الدول الخليجية قد سبقت تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وسبقت تولي الرؤساء الثلاث لمناصبهم، فقد كانت هناك جهود سعودية قوية لجمع شتاتهم وتشكيل كتلة برلمانية قوية تنافس الكتل السياسية ذات الولاء الإيراني، إلا أن تلك الجهود باءت بالفشل لأسباب عديدة ربما أهمها عدم معرفتهم بقواعد اللعبة السياسية الجارية بالعراق، فكانت الغلبة للنفوذ الإيراني، وانحاز كثير من السياسيين السنة إلى الكتل الشيعية، بعد تقديم الوعود لهم بدعم مرشحهم لرئاسة البرلمان وسحب المليشيات من مناطق السنَّة وإرجاع المهجرين إليها وحل ملف المختفين قسريًا وإطلاق سراح المعتقلين.
ورغم أن الوعد الأول قد تم تحقيقه لغاية تصب بمصلحة الكتل السياسية الشيعية، فإن الوعود الأخرى من الصعب تصور أن تفي بها الكتل السياسية الشيعية للسنَّة، لكن مع ذلك اعتبر السياسيون السنَّة هذه الوعود مكسبًا سياسيًا كبيرًا لهم.
الرئيس العراقي برهم صالح في زيارته للإمارات
وفيما يخص السياسيين الشيعة، فإن توافقهم مع النظام الإيراني ليس محل جدل، إلَّا أن الأوضاع المحيطة بإيران جراء العقوبات الاقتصادية الأمريكية، جعلتهم ينشدون التقارب من الدول الخليجية للعب دور جديد يتمثل بالمساهمة الاقتصادية لتخطي الظروف الصعبة التي يعيشها العراق بعد صراعه الطويل مع تنظيم داعش، ومن غير المستغرب أن تكون إيران من دفعتهم لاتخاذ مثل هذا الموقف، لأنها في الوقت الحاليّ لا تستطيع أن تقدم لهم شيئًا، وبذلك يكون النظام السياسي في العراق إيراني الهوى وخليجي الدعم والمساندة.
وعلى هذا الأساس، فمن غير المرجح أن يقدم السياسيون الشيعة أي تنازلات بما يخص علاقاتهم بالنظام الإيراني لصالح التقارب مع السعودية وباقي دول الخليج، إنما اقصى ما يستطيعون تقديمه هو الوقوف على الحياد في الصراع السعودي الإيراني في المنطقة.
السعودية هي الأخرى تنظر للعراق والتقارب معه، كجولة جديدة لجر العراق لصالحها في صراعها مع إيران من جهة، وصراعها مع قطر من جهة أخرى
أما كيف تنظر الدول العربية والخليجية إلى العراق، فهم منقسمون إلى فريقين: أحدهما سعودي والآخر قطري، ورغم أن الفريقين يتوقان لخروج العراق من العباءة الإيرانية لصالح العرب، فإن كل فريق يريده بصفه، وعلى هذا الأساس قام وزير الخارجية القطري بزيارة خاطفة للعراق، ليتم تسجيلها كأول زيارة لمسؤول خليجي للعراق بعد تشكيل الحكومة العراقية، التقى فيها كبار المسؤولين العراقيين من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ورئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، كما التقى بوزير الخارجية العراقي الجديد محمد الحكيم، ليعرض عليهم مشاريعه الاستثمارية الواعدة، لكن من الواضح أن قطر تهدف بتلك الزيارة وعروضها الاستثمارية المغرية، جر العراق لصالحها في صراعها مع السعودية.
السعودية هي الأخرى تنظر للعراق والتقارب معه، كجولة جديدة لجر العراق لصالحها في صراعها مع إيران من جهة، وصراعها مع قطر من جهة أخرى، عبر الدعم الاقتصادي، في محاولة منها لاستدراك فشلها السياسي حينما قامت بمحاولات تستهدف التأثير على تشكيلة الحكومة العراقية أو توصيل من يخدم مصالحها بالرئاسات الثلاثة أو تشكيل تحالفات سياسية مضادة للتحالفات السياسية الموالية لإيران، لكن خريطة التحالفات السياسية بالعراق، أدت لغير ما تريده السعودية، لتبدو الرياض أكبر الخاسرين.
ومع ذلك قام وزير الطاقة السعودي بأول زيارة رسمية للعراق بعد تشكيل الحكومة والرئاسات الثلاثة، وكان الملف الاقتصادي والاستثمارات السعودية حاضرة في مباحثاته مع المسؤولين العراقيين، وتعتبر مسألة توفير الطاقة الكهربائية للعراق إحدى أهم تلك الاستثمارات السعودية التي تقدمها للعراق، بعد أن رفضت السعودية عرضًا سابقًا من العراق بهذا الشأن حينما قطعت إيران إمدادات الطاقة الكهربائية عنه الصيف الماضي.
رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي وخلفه عبد المهدي
والآن يجد العراق نفسه بوضع حرج مرة أخرى، بعد أن أمهلته الولايات المتحدة الأمريكية مدة 45 يومًا لإيجاد بدائل عن استيراد الطاقة الكهربائية من إيران، فجاء العرض السعودي بمثابة طوق نجاة لحكومة عادل عبد المهدي، فيمكن للسعودية كسب ثقته بهذا العرض، فهذه المشكلة تُعد واحدة من أكبر التحديات التي تواجه حكومته، وكانت سببًا لاندلاع تظاهرات كبيرة في جنوب ووسط العراق الصيف الماضي، كادت أن تعصف بالعملية السياسية العراقية برمتها.
توافق الرئاسات على سياسة برغماتية
ووفق مصادر حكومية مسؤولة ذكرت أن الجولة الخليجية هذه متفق عليها بين رئيس الحكومة عادل عبد المهدي ورئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، لغرض إبلاغ دول الخليج رسالة من العراق بأنه لا يرغب بأن يكون في أي محور من محاور الأزمة الخليجية أو الصراع الأمريكي السعودي – الإيراني بالمنطقة، وأنه على مسافة واحدة من الجميع، وطمأنة الأطراف الخليجية من أن العراق كحكومة والرئاسات الثلاثة، غير محسوبة على أي محور إقليمي، في إشارة واضحة لإيران.
سياسة العراق في زمن العبادي كانت وبشكل واضح، معبرة عن الإرادة السياسية الإيرانية، وفي كل الملفات الساخنة، مثل ملف سوريا والبحرين واليمن
لكن ماذا ستفعل الرئاسات الثلاثة بشأن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ قريبًا سيصل السفير الأمريكي الجديد ماثيو تولر إلى العراق وسيمارس مهماته عبر ثوابت لديه، تتمثل بالانحياز للسعودية والإمارات، والعداء لإيران والميليشيات الموالية لها، وسيكون ذلك واضحًا في مطالب الأمريكيين من حكومة بغداد، وستكون سياسات السفير الأمريكي الجديد أكثر هجومية من سياسات السفير السابق، بل ويمكن أن تقع صدامات بين فريقه وحلفاء طهران في العراق، فكيف سيدير عبد المهدي ورفاقه تلك العلاقة؟
إن الخطاب العراقي بادعاء الحيادية، سبق أن سمعناه من العبادي ووزير خارجيته الجعفري، إلا أن سياسة العراق كانت وقتها وبشكل واضح، معبرة عن الإرادة السياسية الإيرانية، وفي كل الملفات الساخنة، مثل ملف سوريا والبحرين واليمن، فيا ترى ما الضمانات الذي تمتلكها الحكومة العراقية الجديدة لتبديد المخاوف الخليجية؟ وعلى صعيد آخر، يا ترى هل المساعدات والاستثمارات الخليجية الموعودة، ستجد طريقها الصحيح في إعادة إعمار المناطق المنكوبة من العراق، أم انها ستجد طريقها إلى جيوب الفاسدين كما في كل مرة؟