تغيرات كبيرة مهمة تشهدها الساحة السياسية في تونس مع بداية تسخينات الساسة والأحزاب والشخصيات استعدادًا للمحطة الانتخابية والتشريعية بعد عام من الآن، كلها تغيرات زادت من تعميق الهوة بين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، التي بدأت في الاتساع منذ أواخر مايو الماضي مع تعليق العمل بوثيقة العقد الاجتماعي المسماة بوثيقة قرطاج.
لكن المصادقة البرلمانية على التغيير الحكومي الجديد قد تحقق نوعًا من الاستقرار السياسي المطلوب، بعد افتراق حزب نداء تونس عن شريكه الأكبر في الحكم حركة النهضة، وانفراط عقد النداء بخروج رئيس الحكومة يوسف الشاهد منه.
حرب على رؤوس الأشهاد
لم تكن المعارك معلنة، إنما بدأت خفية داخل حركة نداء تونس وظهرت للعلن شيئا فشيئًا انطلاقًا من مؤتمر نابل ومؤتمر جربة الشهيرين، حتى وصلت مرحلة لا يمكن إخفاؤها فطفت إلى السطح مع كل محطة حاسمة، ومع خطاب الباجي الأخير، الخطاب الذي مرّر رسائل إلى حكومة الشاهد الحاليّة، أثارت نقاط جدل كبيرة بشأنها ليس داخل الندائيين فقط، بل مختلف الطيف السياسي.
عمومًا، يمكن القول إن التعديل الحكومي الحاليّ والثالث لرئيس الحكومة يوسف الشاهد جاء متأخرًا كثيرًا، هذا ما يقر به الجميع منذ تجميد العمل بوثيقة قرطاج، لكن الخلاف هو على ماهية التغيير أو التعديل الحكومي.
مضى الشاهد بعيدًا غير آبه بمطالب السبسي بتشكيل حكومة بعيدة عن حليف الأمس القريب، حركة النهضة الإسلامية، مقابل انهيارات متتالية داخل النداء
يبدو أن يوسف الشاهد يحسن اللعب جيدًا مع رئيس الجمهورية الذي جاء به إلى السلطة كمقترح من حزب النداء الذي ينتميان إليه، وبالتالي أراد الشاهد ضرب عصفورين بحجر واحد، فحضر للبرلمان استجابة لدعوات الرئيس المتكررة للذهاب إليه، فذهب ومرّر تشكيلته الوزارية الجديدة ونالت الثقة وجدّد شرعيته وأنهى الجدل بشأنها، وبالتالي نجح في اقتطاع صك التزكية من البرلمانيين، وتلك نقطة أخرى تُحسب للرجل.
إلى ذلك وقبل ذلك، لا شك أن الشاهد عرف كيف “يروّض سيده” ويركله ركلات مميتة مع المحافظة على روح الدستور! تلك الركلات يبدو أنها أثّرت في الغريم وهو ما بدا واضحًا في كلمة الباجي الأخيرة مع الصحفيين، فلم يُظهر السبسي عدم الرضا فقط بل أعلن الحرب على رأس الشاهد وعلى رؤوس الأشهاد، ليصطف وراء ابنه المدير التنفيذي لنداء تونس حافظ السبسي.
من جانبه، مضى الشاهد بعيدًا غير آبه بمطالب السبسي بتشكيل حكومة بعيدة عن حليف الأمس القريب، حركة النهضة الإسلامية، مقابل انهيارات متتالية داخل النداء، آخرها خروج منجي الحرباوي الذي تداعى للسقوط هو الآخر، رغم استماتته في الدفاع بشراسة عن الحزب حتى آخر رمق، فمالذي يجري في النداء؟ وهل ينتهي به الأمر إلى الزوال والفناء؟
رسائل متبادلة
رسالة نارية وغاضبة جدًا وجهها رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة في خطابه الأخير ليقول: “لست ساعي بريد بين قصر قرطاج الرئاسي ومقر الحكومة في القصبة”، في إشارة منه أو تقريع منه بالأحرى إلى الشاهد بضرورة استشارته في التعديل الوزاري وليس العكس، والحال أن دستور البلاد لا ينص على ضرورة رجوع رئيس الحكومة لرئيس الجمهورية عند إجراء تعديل وزاري لا يمس حقيبتيْ الدفاع والخارجية، الأمر الذي لم يتجاوزه الشاهد.
لا شك أن الخلاف السياسي المركب قد ينتهي بإضفاء الشاهد شرعية على حكومته، لكن لا ريب أن خلافًا آخر داخل حزب النداء ألقى بظلاله على الأزمة التي تعيشها البلاد
تلك الرسالة تلقفها الشاهد فرد عليها بنفس المعجم الحربي خلال كلمته الأخيرة بالبرلمان للتصويت على التغيير الجديد، رئيس الحكومة الذي هاجم ما أسماه القصف السياسي العشوائي والنيران الصديقة التي يقول إنها أقوى من نيران المعارضة! ذلك ما يفسر غياب كتلة نداء تونس النيابية عن جلسة منح الثقة للحكومة رغم النفي وربط ذلك بمسائل أخرى.
لا شك أن الخلاف السياسي المركب قد ينتهي بإضفاء الشاهد شرعية على حكومته، لكن لا ريب أن خلافًا آخر داخل حزب النداء ألقى بظلاله على الأزمة التي تعيشها البلاد مع تغير خريطة التحالفات الجديدة، تخلط الأوراق وتعيد الفرز.
خلط وفرز جديد
الطلاق النهائي كما أسمّاه الباجي قايد السبسي في حواره التليفزيوني قبل الأخير، بين حركة نداء تونس وحركة النهضة الذي يعد تنكرًا واضحًا ونكوصًا على العقب، وانقلابًا واضحًا بعد أن كان راشد الغنوشي حليفًا إستراتيجيا لقائد السبسي، بل الأغرب أن يذهب النداء إلى ما أبعد باتهام حركة النهضة بتهم قديمة تعود إلى ما قبل تحالفهما قبل أربع سنوات خلت، عندما طالبت بالتحقيق في وثائق بغرفة بوزارة الداخلية قالت الجبهة الشعبية قبل أشهر، إنها تثبت تورط النهضة في اغتيالات سياسية وهو أمر نفته وزارة الداخلية.
هذا الافتراق المفاجئ للجميع، أفرز تحالفًا لا يقل مفاجأة من الأولى، كذلك بين النهضة وغريمها الشديد حركة مشروع تونس ذات التوجه اليساري التي طالما اتهمت الإسلاميين بمحاولات الانقلاب على المسار الديمقراطي بتونس بدعم إماراتي مصري للانقضاض على النهضة أو ما يسمى بالإسلام السياسي، لتنضم إليهما كتلة الائتلاف الوطني البرلمانية المتكونة من شخصيات مستقيلة من نداء تونس وأخرى مستقلة، هذا التحالف الثلاثي (الترويكا الجديدة) الداعم ليوسف الشاهد من المرجح حسب كثيرين أن يكون خزانًا انتخابيًا مهمًا خاصة إذا توحد حول مرشح رئاسي ربما يكون الشاهد نفسه.
رغم أن النداء هو إعادة رسكلة لحزب التجمع (حزب النظام السابق) فإن أحزاب أخرى تجمعية ظلت تراقب الوضع من فوق الربوة، ولم تنخرط بعد في أي تحالفات، كحزب المبادرة الذي تولى رئيسه كمال مرجان حقيبة وزارية في التغيير الحكومي الجديد
في المقابل سعى حزب النداء الشق المتبقى عند نجل رئيس الجمهورية حافظ السبسي، إلى توسيع تحالف ثنائي مع الحزب الوطني الحر المتمثل في شخص سليم الرياحي هذا الذي كون قبل عام جبهة مع محسن مرزوق ضد النهضة والنداء حينها! وقال الرياحي أيضًا حينها إن حزب النداء صناعة غير صالحة للاستعمال إلا مرة واحدة! لكن دارت التحالفات.
في خضم هذا المشهد، ورغم أن النداء هو إعادة رسكلة لحزب التجمع (حزب النظام السابق) فإن أحزاب أخرى تجمعية ظلت تراقب الوضع من فوق الربوة، ولم تنخرط بعد في أي تحالفات، كحزب المبادرة الذي تولى رئيسه كمال مرجان حقيبة وزارية في التغيير الحكومي الجديد.
عودة مرجان للواجهة سيسمح له بترويج نفسه كخيار لانتخابات 2019 وسيكون المترشح الأول لرئاسة الجمهورية مستندًا إلى الدولة العميقة التي ربما تنفض يدها من الحزب المتشقق الذي جربته ولم يعد معوّلاً عليه، يبقى ذلك رأيًا وإن غدًا لناظره قريب.