لم تحدث “الموجة الزرقاء” ـ الأزرق هو اللون الذي يرمز للديمقراطيين ـ التي انتظر عدد واسع من المتابعين للشأن الأمريكي حدوثها ضد الرئيس دونالد ترامب، خلال الانتخابات النصفية الأمريكية، حيث حافظ الجمهوريون، ولو جزئيًا، على تفوقهم في الكونغرس، وجاءت نتائج الانتخابات لتقسم الكونغرس إلى جزئين: جزء يتفوق فيه الجمهوريون وهو مجلس الشيوخ “المجلس الأعلى”، وجزء يتفوق فيه الديمقراطيون وهو مجلس النواب “المجلس الأدنى”.
وفي إطار هذه النتيجة المتباينة في المجلسين، أضحى التساؤل الأكثر طرحًا من المُتابع هو: كيف ستؤثر هذه النتيجة على مسارات السياسة الخارجية لإدارة ترامب حتى انتهاء ولايته عام 2021؟
مهام المجلسين
قبل الخوض في تفاصيل التأثيرات التي يُمكن أن تعكسها نتائج الانتخابات النصفية، لا بد من التعرف على مهام المجلسين.
مجلس الشيوخ:
ـ المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية قبل توقيع الرئيس عليها.
ـ التصديق على تعيين كبار الموظفين وقضاة المحكمة العليا والسفراء والمسؤولين العسكريين.
يُنفذ الرئيس ترامب برنامجه الحمائي الاقتصادي من خلال فرض جمارك عالية على الدول التي تملك فائضًا تجاريًا في ميزان تعاملها مع الولايات المُتحدة
ـ محاكمة الرئيس وخلعه بعد نزع الثقة عنه.
مجلس النواب:
ـ إقرار مشاريع القوانين والتشريعات، بما يشمل تلك المُتعلقة برفع معدل الواردات.
ـ التصويت على الميزانية.
ـ توجيه الاتهامات لعزل رئيس البلاد وقضاة المحكمة العليا.
ـ اختيار رئيس البلاد في الحالات التي لا ينال فيها أحد مرشحي الرئاسة أكثرية.
تأثيرات نتائج الانتخابات التشريعية الأمريكية على الساحة الدولية
ـ كبح جماح الحرب الاقتصادية:
يُنفذ الرئيس ترامب برنامجه الحمائي الاقتصادي من خلال فرض جمارك عالية على الدول التي تملك فائضًا تجاريًا في ميزان تعاملها مع الولايات المُتحدة، كما اتجه نحو إعلان نيته إنشاء جدار عازل مع المكسيك، وغيرها الكثير من الإجراءات التي تعكس توجهه الحمائي، لكن مع فوز الديمقراطيين بالأكثرية في مجلس النواب، يُتوقع أن تصدر عدة تشريعات تُشجع التبادل التجاري الحر الذي يزيد من الواردات، ويوفر للمُستهلك عدة خيارات، بعيدًا عن الحظر أو تحديد الكميات أو فرض الجمارك الباهظة، وهذا ما قد يؤدي إلى إيقاف أو تخفيف لهيب “الحرب الاقتصادية” المُشتعلة منذ تسلم الرئيس ترامب لمقاليد الحكم.
من أبرز التشريعات التي قد لا تمر عبر مجلس النواب، التشريع الخاص بإلغاء نظام الرعاية الصحي المعروف باسم “أوباما كير”
وفي سياق ذلك، قد يتم استئناف المفاوضات التجارية مع الاتحاد الأوروبي لتخفيض التعريفات الجمركية وإلغاء الحواجز التجارية التي وضعها ترامب أخيرًا، لا سيما على الصلب والحديد والألمنيوم، وبذلك في الغالب قد لا يستطيع ترامب فرض تعريفات جمركية عالية على السيارات التي تدخل الولايات المُتحدة.
ـ إيقاف العمل أو إلغاء صدور عدة تشريعات تحاكي أجندة الرئيس ترامب وحزبه الجمهوري:
ومن أبرز التشريعات التي قد لا تمر عبر مجلس النواب، التشريع الخاص بإلغاء نظام الرعاية الصحي المعروف باسم “أوباما كير”، وإيقاف التشريع الخاص بإضافة المزيد من التخفيضات الضريبية للشركات الكبرى، وإلغاء فكرة إنشاء الجدران الحدودية، مواصلة العمل بقرار أوباما التنفيذي الذي يضمن للأطفال حق البقاء في حال قدموا إلى الولايات المتحدة دون وثائق مُكتملة، وغيرها الكثير من التشريعات.
ـ ربما عزل ترامب:
كما تبيّن أعلاه، يمكن لمجلس النواب عزل الرئيس الأمريكي من خلال توجيه اتهامات إليه، لذا قد ينتظر الديمقراطيون نتائج التحقيق الذي يُجريه المُحقق روبرت مولر، التي إن أدانت الرئيس ترامب، يستطيع الديمقراطيون، ربما التعاون مع بعض الجمهوريين المُخالفين لسياسة ترامب أيضًا، والاتجاه نحو عزله.
من المفترض أن تُحرك الدول الأوروبية، وغيرها من الدول الرافضة لسياسات ترامب، جماعات الضغط على نحوٍ فاعلٍ خلال الانتخابات الرئاسية المُقبلة
وإن لم يُدان الرئيس ترامب، فيبدو أن هزيمته على هذا النحو، قد تدفع عددًا من جماعات الضغط للرهان على الديمقراطيين بشكلٍ كبير، في سبيل إزاحته عن كرسي الرئاسة في الجولة القادمة، لا سيما في ظل تحريك سياسات ترامب لجيل جديد أُطلق عليه اسم “المقاومة الليبرالية” يضم طيفًا كبيرًا من الأقليات والشباب والنشطاء والنساء المعارضين لسياسات الانغلاق والسياسات غير المراعية لحقوق المواطن والبيئة، وغيرها من القضايا.
ومن المفترض أن تُحرك الدول الأوروبية، وغيرها من الدول الرافضة لسياسات ترامب، جماعات الضغط على نحوٍ فاعلٍ خلال الانتخابات الرئاسية المُقبلة، مما يجعل سيناريو عدم تمكن الرئيس ترامب من الفوز بجولة ثانية مُرجحًا نسبيًا، ولهذا السيناريو، إن تحقق، تأثير إيجابي في إعادة العقلانية لمسارات السياسة الخارجية الأمريكية.
مواصلة ترامب سياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط بحذر، كيلا يُصبح “بطة عرجاء”
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز
في المقابل، لا تتعلق صلاحيات ومهام مجلس النواب مباشرةً بتحركات الرئيس على صعيدٍ دوليٍ، لذا قد يُلامس تحركًا ثابتًا، لكن أكثر انضباطًا تجاه منطقة الشرق الأوسط، بحيث قد يستمر في إستراتيجية الانعزالية والاعتماد على “عنصر الوكالة” في سوريا، لكن دون تقديم المزيد من التنازلات لموسكو، وهو ما يتماشى مع توجه الديمقراطيين الإستراتيجي، كما قد يستمر في التوجه نحو إيجاد صيغة مناسبة لحل القضية الفلسطينية وفقًا لمعاهدات دولية يُساعده مجلس الشيوخ في التصويت عليها، لكن بتوجهٍ يُعيد حالة التوازن المُمكنة للقضية الفلسطينية، بعد أن اكتسح الانحياز شبه الكامل لإدارة ترامب مسارها.
وقد يشمل تحرك الرئيس ترامب على الساحة الخارجية، رغم عدم وجود سلطة مباشرة للنواب عليه، حذرًا وانضباطًا يوقفان حالة التخبط المؤسسي الذي تشهده إدارته منذ وصوله لسدة الحكم، كما قد تتضمن تقديم المؤسسات على تحركاته وصهره جاريد كوشنر الشخصية، وسينبع حذر وانضباط الرئيس ترامب من خشيته لميل الديمقراطيين لتسريع التحقيقات أو جنوحهم لتعطيل المصادقة على الميزانية العامة أو تحركهم لإصدار عدة تشريعات قد لا توازي طموحه، مما يخلق حالة من الاستقطاب السياسي العارم على الصعيدين الداخلي والخارجي.
المُرشح أن تواصل الإدارة الأمريكية تطبيق إستراتيجية “العصا الغليظة” التي تعني استهداف النفوذ الإيراني في بعض البقع الجغرافية، من خلال الركون إلى إستراتيجية “الاحتواء والتطويق”
في المقابل، قد لا يظهر تغيّر جوهري كبير في الدعم الأمريكي العسكري والمالي المُقدم للكيان الصهيوني، انطلاقًا من الحصانة التي يحظى بها داخل أروقة مؤسسات اتخاذ القرار الأمريكية، لكن قد يظهر هناك بعض الحذر “الترامبي” لتجاوز حالة تجاهل حقوق الفلسطينيين، فقد ظهر اتزان، ولو نسبي، لحكم الديمقراطيين في أمريكا حيال الحقوق الفلسطينية، خلال السنوات الماضية، وهذا ما يعني احتمال عودة حالة التوازن للملف الفلسطيني، خلال الشهور القادمة.
لكن فيما يتعلق بالملف الإيراني، المُرجح أن تستمر الإدارة الامريكية في مواصلة عقوباتها المفروضة على إيران، في سبيل اضطرار الأخيرة للجلوس إلى طاولة المفاوضة، وفقًا لشروط تخدم المصالح الأمريكية، ويُستند في ذلك إلى الذريعة المنطقية التي يسوقها ترامب في أن إيران تزعزع أمن المنطقة وتقوم بممارسات حكم داخلية وخارجية لا تتناغم مع المعايير الديمقراطية، أيضًا يُرتكز إلى القوة الشرعية التي ما زال الرئيس ترامب يتمتع بها من خلال سيطرته على مجلس الشيوخ الذي يمتلك صلاحية الموافقة على المُعاهدات والاتفاقيات الخارجية، والذي قد يُسانده في هذا الملف الذي يبدو تحرك الرئيس ترامب فيه منطقي وعقلاني.
وفي ضوء ذلك، المُرشح أن تواصل الإدارة الأمريكية تطبيق إستراتيجية “العصا الغليظة” التي تعني استهداف النفوذ الإيراني في بعض البقع الجغرافية، من خلال الركون إلى إستراتيجية “الاحتواء والتطويق” التي تعني تحقيق انتشار جزئي تكاملي مع الدول المجاورة والمنافسة للدولة المُتسهدفة، في سبيل حصر نفوذها وتحجيمه.
ومن المرجح، أن تطال الإستراتيجيتان المذكورتان أعلاه النفوذين الصيني والروسي اللذين حاولت الإدارة الأمريكية الديمقراطية السابقة، إدارة أوباما، كبح جماح تحركهما على الساحة الدولية، وبما أن ترامب سار في ذلك على نهج الإدارة الديمقراطية السابقة في هذه النقطة، فقد يشعر بالأمان في إتمام تحركه على ذات النهج تجاه تلك القوتين.
أما تحالفات المصالح الرامية إلى تحقيق مصلحة مشتركة على نحوٍ تكاملي لا يكلف الولايات المتحدة الكثير، فهو مستمرٌ، لا سيما فيما يتعلق بالتحالفات الأمريكية الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، فقد اتبعت الإدارة الديمقراطية السابقة ذات الإستراتيجية لكن بشكلٍ صامت، واليوم يتابع الرئيس ترامب ذات النهج لكن بشكلٍ صارخ وواضح عنونه “ادفعوا أكثر كي نبقى ونحميكم”.
في الختام، لم تُظهر انتخابات الكونغرس الأمريكية النصفية تغيراتٍ جذريةٍ في الخلفية السياسية للأعضاء الفاعلين فيه، إذ لم يظهر التغيير سوى في مجلس النواب الذي تفوق فيه الديمقراطيون على الجمهوريين، الذي سردت مهامه أعلاه، وانطلاقًا من مهامه وصلاحياته المذكورة، يتضح أن السياسة الخارجية الأمريكية قد تتجه نحو تغيّرات بسيطة، وليست جذرية حيال الملفات العالقة.