كثيرًا ما نسمع من أنّ الأشخاص الناجحين عادةً ما يمتلكون نمطًا معيّنًا في الحياة، فهم ذلك النوع من الناس الذين يستيقظون باكرًا مع ضوء الشمس، يمارسون التمارين الرياضية ويتناولون وجبة إفطارهم قبيل بدئهم بتفاصيل يومهم ومجرياته. فيما نسمع أيضًا أنّ أولئك الذين يحبّون السهر متأخرًا والذي يبدأون يومهم متأخرين أيضًا، فهم عادةً ما يرتبطون بالإبداع والغرابة.
تُخبرنا النظريات العلمية بأنّ إيقاعنا اليومي أو ما يُعرف بساعتنا الداخلية، هي المسؤولة عن تنظيم أنماط حياتنا بما يتعلّق بالنوم واليقظة. وبشكلٍ عام، ترتبط دورتي النوم والاستيقاظ لكلّ فردٍ مع بزوغ ضوء النهار وحلول الظلام، بحيث يستيقظ معظم الأشخاص صباحًا وينامون بالليل، وبالتالي فيُعرفون بلقب “الطيور المبكّرة” أو “قبّرات الصباح”، فيما يميل البعض إلى السهر طوال الليل أو لساعاتٍ متأخرة ليستيقظوا بعد حلول الصباح بساعاتٍ طويلة، ولهذا فيُلقّبون ببومات الليل.
وتلعب العديد من العوامل الخارجية في كيفية تنظيمنا لجداول نومنا واستيقاظنا، كالعمل والمدرسة والجامعة وغيرها من الالتزامات اليومية. لكنّ الغريب في الموضوع أنّ العديد من الدراسات تخبرنا أنّ ثمة علاقة فعلية بين ساعتك الداخلية أو نمط نومك، وبين سمات شخصيتك وبين صحّتك الجسدية والنفسية.
فمن جهة، هناك العديد من الدراسات التي أثبتت أنّ السهر لأوقات متأخرة قد يرتبط بمعدّلات أعلى من العديد من الأمراض والمشاكل الصحية بما فيها السُمنة وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية. عدا عنّ أنّ “بومة الليل” عادةً ما تكون أكثر عرضةً لبعض السلوكيات غير الصحية مثل التدخين وشرب الكحول وتعاطي المخدّرات، إضافةً إلى الخمول والكسل وانعدام النشاط البدنيّ.
بعض الدراسات الأخرى وجدت علاقةً بين السهر المتأخّر من جهة، وانخفاض معدّلات الأعمار أو ارتفاع خطر الوفاة من جهةٍ أخرى، نظرًا للعديد من عوامل الخطر الفسيولوجية والنفسية والسلوكية المصاحبة لهذا النمط أو السلوك في النوم والاستيقاظ، والتي يمكن أن يُعزى العديد منها إلى اختلال مزمن بين التوقيت الفيسيولوجي الداخلي للجسم والتوقيت المفروض عليه خارجيًا بسبب العمل والأنشطة الاجتماعية واليومية الأخرى.
ساعتك البيولوجية لا تتحكّم في نومك وحسب!
بدايةً، علينا أنْ نفهم كيف تعمل “الساعة البيولوجية Circadian Rhythm” للجسم لنفهم أثرها على صحّتنا الجسدية والعقلية من جهة وعلى شخصيّاتنا وسماتنا وسلوكيّاتنا من جهةٍ ثانية. فنحن نعرف أنّ ساعاتنا البيولوجية، والتي توجد عند كلّ الكائنات تقريبًا، هي ما ينظّم ساعات نومنا واستيقاظنا نظرًا لتأثّر بالعديد من الإشارات البيئية الخارجية مثل ضوء الشمس ودرجات الحرارة، لتعمل بدورها على تحديد إذا ما كان المرء مستعدًا للاستيقاظ أو إذا ما كان يشعر بالجهد والإرهاق ونضوب الطاقة، في أوقات مختلفة من اليوم.
تنظم ساعاتنا البيولوجية النوم والاستيقاظ ودرجات حرارة الجسم والجنس وسلوكيّاتنا الغذائية ومستويات تركيزنا وذاكرتنا
تحدث العملية هذه عن طريق قيام عضو الدماغ المعروف باسم “النواة الفوق تصالبية” أو “suprachiasmatic nucleus“، والتي تقع في منطقة “تحت المِهاد”، من خلال خلاياها العصبية التي تتعدّى العشرين ألف خلية، بتنظيم الإيقاع اليوميّ لوظائف الجسم الحيوية المختلفة عبر التحكّم بمستويات إفراز الهرمونات وعمل الجهاز العصبي الطرفي، بما في ذلك النوم والاستيقاظ ودرجات حرارة الجسم والجنس وسلوكيّاتنا الغذائية بما في ذلك استهلاك الطعام وحرقه وامتصاصه وكمية الطاقة الناتجة عنه وغيرها الكثير.
لذلك، فإنّ فهمنا الدقيق لكيفية عمل الساعة قد يساعدنا بالفعل لفهم العديد من الأمراض أو الاضطرابات التي تُصيبنا، كالأرق ومشاكل النوم، واضطرابات الطعام والشهية والسُمنة، واضطرابات المزاج كالقلق والاكتئاب وثنائي القطب، واضطرابات التركيز والذاكرة، على سبيل المثال لا الحصر.
هل ينعكس نمط نومك على شخصيتك؟
في دراسة أجراها كريستوف راندلر ولينا ساليرج من جامعة هايدلبرغ الألمانية، وشملت 344 مشتركًا، توصّل الباحثان إلى عدة نقاط تشي بوجود علاقة بين أنماط النوم وسمات الشخصية المختلفة عند الأفراد. فقد أظهر “عصافير الصباح” من الخاضعين للدراسة مستوياتٍ أعلى من المثابرة والتعاون مع الآخرين، وهي الصفات التي ترتبط عادةً بصفة “التوافق agreeableness“، أحد المفاتيح الخمسة الرئيسية للشخصية والتي تُعرف عادةً بمصطلح “الخمسة الكِبار”. وترتبط صفة التوافق أيضًا بالثّقه بالآخرين ودرجة مساعدة المرء لغيره واللَطافَة وحسن المعاملة.
وجدت دراسة نوعًا من العلاقة السلبية بين عصافير الصباح والتردّد والمماطلة، إذ يُظهرون مستوياتٍ أعلى من الثبات والمثابرة والإصرار على أداء أعمالهم بعيدًا عن التأجيل والمماطلة
فيما أظهرت الدراسة مستوياتٍ أعلى من الترابط بين كلٍّ من محبّي السهر أو كما يُعرفون ببومات الليل، والبحث عن الغرابة والإبداع وتجربة الجديد، ويعزو الباحثان السبب إلى انخفاض مستويات الدوبامين في الدماغ، الأمر الذي يرتبط عادةً بسلوكيات غير مستقرة مثل التدخين وشرب الكحول والرغبة أو السعي في تجربة المخدّرات والعقاقير وغيرها من السلوكيات غير الصحية. النتيجة التي تدعم الدراسة التي أشرنا إليها في الأعلى.
أظهر محبّو السهر والنوم المتأخر معدّلات أعلى بالتفكير الإبداعيّ الذي يرتبط عادةً بسمة “الانفتاح”
ومن ناحيةٍ ثانية، وجدت الدراسة نوعًا من العلاقة السلبية بين عصافير الصباح والتردّد والمماطلة، إذ يُظهرون مستوياتٍ أعلى من الثبات والمثابرة والإصرار على أداء أعمالهم بعيدًا عن التأجيل والمماطلة، ما يمكن أنْ يرتبط في الوقت نفسه بمعدّلات أعلى من التحصيل الأكاديميّ والمهنيّ وغيرها من الجوانب الحياتية.
دراسة أخرى وجدت علاقةً ما بين المستيقظين مبكّرًا والاستباقية أو “proactivity“، وهو المصطلح المُستخدم في علم النفس التنظيمي\الصناعي والذي يُشير إلى القدرة على التصرّف قبل وقوع الحدث المستقبلي، بدلًا من انتظار حدوثه ومن ثمّ التفاعل معه. وبكلماتٍ أخرى، هو السيطرة على الأمور وجعلها تحدث بدلًا من مجرّد التكيف مع الموقف أو انتظار حدوث شيء ما. ولا يحتاج الموظفون الاستباقيون عمومًا أيّ إشارة لبدء العمل أو المهمّة، فهم يبدأونها بأنفسهم، كما أنهم لا يحتاجون إلى تعليمات مفصلة تخبرهم آلية عملها.
وعلى عكس المستيقظين مبكّرًا، أظهر محبّو السهر والنوم المتأخر معدّلات أعلى بالتفكير الإبداعيّ الذي يرتبط عادةً بسمة “الانفتاح” أحد المفاتيح الخمسة للشخصية، والتي تنطوي على فضول الشخص ورغبته بالاكتشاف وتجربة الأشياء الجديدة والغريبة والنفور من الروتين والأشياء الرتيبة والمكرّرة.
من أين تنشأ الاختلافات في أنماط النوم؟
قد تتساءل كثيرًا ما الذي يحدّد نمط نومك، أي ما الذي يجعلك طيرًا صباحيًا ويجعل غيرك بومةً ليلية؟ يخبرنا عدد من الدراسات أنّ الجينات قد تلعب دورًا مهمَّا في ذلك، فالساعة البيولوجية لها بُعد وراثي ينظّم ساعات النوم والعمليات الحيوية والفسيولوجية الأخرى التي نقوم بها.
وعلى صعيدٍ آخر، ثمّة ما يُعرف بأثر “التأخّر بالطيران الاجتماعي”، وهو مصطلح يُستخدم لوصف عدم التزامن الذي يمكن أن يحدث بين الساعة البيولوجية الداخلية للشخص وبين المجتمع والبيئة المحيطة به. يحدث هذا التأخّر بشكلٍ شائع في عطل نهاية الأسبوع أو خلال رحلات السفر وغيرها. ونتيجةً لذلك، ينام البعض على جداول مختلفة في بعض الأيام مقارنةً بغيرها. وبالتالي، فبومات الليل أو الأشخاص الذين يميلون للنوم المتأخر فعادةً ما يعانون من اضطراب في الطيران الاجتماعي
العلاقة لا تخبرنا بالأسباب.. لكن!
تخبرنا تلك الدراسات وغيرها الكثير بوجود علاقةٍ واضحة بين النوم مبكّرًا أو السهر لوقتٍ متأخر والعديد من صفات الشخصية، تمامًا كما العديد من المشاكل الصحية. لكنّنا يجب أنْ نعي قبل كلّ شيء، أنّ واحدة من أهمّ النقاط التي يأخذها الباحثون بعين الاعتبار أثناء القيام بدراساتهم وأبحاثهم هي أنّ وجود علاقة بين عامليْن لا تعني بالضرورة أنّ أحدهما هو السبب بحصول الأخرى. وبكلماتٍ أخرى، قد لا يكون استيقاظك المبكّر هو السبب بامتلاكك لصفة المثابرة، تمامًا مثل أنّ صفة المثابرة لديك ليست السبب في استيقاظك المبكّر.
يجب أنْ نعي قبل كلّ شيء أنّ وجود علاقة بين عامليْن لا تعني بالضرورة أنّ أحدهما هو السبب بحصول الأخرى، وبالتالي قد لا يكون استيقاظك المبكّر هو السبب بامتلاكك لصفة المثابرة، تمامًا مثل أنّ صفة المثابرة لديك ليست السبب في استيقاظك المبكّر
لكن في الوقت نفسه، يمكّننا هذا النوع من الدراسات من البحث في العديد من الأسباب المنطوية ما وراء هذه العلاقة. كأنْ تكون المشاكل الصحية التي يعاني منها محبّو السهر قد ترتبط بشرب الكحوليات والتدخين أو إدمان المخدّرات، لكنها في ذات الآن قد تكون أيضًا نتيجة الوحدة أو الاكتئاب أو غيره من الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الشخص. فالسهر والاستيقاظ في منتصف الليل يعدّان فرصةً أكبر للتدخين وشرب الكحول نظرًا لانعدام أيّ فعالياتٍ أخرى كالوظيفة أو لقاء الأصدقاء أو الذهاب لمطعمٍ لتناول وجبة طعام، وغيرها.