المدينة الإثيوبية الجميلة بها تعايش وسلام تّام بين كل الطوائف الدينية وتمثل قومية الأمهرا نسبة 96% من سكان بحر دار إلى جانب أقليات من قوميات إثيوبية أخرى، وتعد من أكثر المدن الإثيوبية تخطيطًا يلاحظ ذلك من يتجول في شوارعها وأحيائها الهادئة.
مشغولات يدوية جميلة
على إحدى جنبات السوق الكبير الواقع في قلب بحر دار يوجد ركن المشغولات اليدوية، فالمرأة الأمهرية رائدة ومبدعة في عملها وإذا كنت من محبي اقتناء المنسوجات التقليدية ستجد ضالتك في هذا السوق، هنا تباع الآنية التراثية التي يقدم فيها الطعام وتعرف بـ”مِي صوب”، كما يوجد سوق للملابس الشعبية والعديد من المنتجات والأواني الفخارية والخشبية، وأشير إلى أن المشغولات اليدوية ليست مقصورة فقط في السوق الكبير يمكنك أن تجدها في أماكن أخرى مثل أمام كنيسة القديس جورج وعلى ممشى بحيرة تانا.
نساء يبعن منتجات تقليدية في بحر دار
شلالات النيل الأزرق.. مناظر تدخل البهجة والسرور
لا تكتمل رحلة بحر دار إلا بزيارة شلالات النيل الأزرق التي تعرف محليًا باسم “تِس أباي” فمن لم يصلها لا يعتبره السكان زار مدينتهم من الأساس، فالشلالات ـ التي تقع في الجزء العلوي من المدينة على بعد 30 دقيقة بالسيارة – هي المقصد الأول للسيّاح وتعتبر واحدة من أجمل المناظر الخلابّة في إثيوبيا.
تجذب الزوار وتستهويهم بارتفاعها الهائل الذي يصل إلى 45 مترًا، ويقدر عرضها بنحو نصف ميل، مما يجعل مشهد سقوط المياه من المرتفعات إلى الأسفل في غاية الروعة والجاذبية، وينال صوت المياه المنهمرة من أعلى إعجاب الكثير من السياح الباحثين عن غرائب الطيور والأشجار النادرة التي تلف المكان بعبقٍ يتناغم مع وشوشة مياه الشلال.
وعند التخطيط لزيارة شلالات النيل الأزرق يفضّل ارتداء الملابس المريحة للسير بسهولة في طريق الشلالات الوعر وارتداء الأحذية الملائمة لأن الأرض طينية ولكي تصل إلى الشلال ستسير على الأقدام مسافة 20 دقيقة تقريبًا، في تجربتنا أذكر أن صوت هدير المياه وصل إلى آذاننا قبل مسافة طويلة لشدة اندفاع المياه، كما قمنا بالعبور إلى الجانب الآخر من النهر بواسطة مركب حديث يأخذ صاحبه نحو 30 برًا أجرة من الراكب ويدفع السائح لحكومة الإقليم رسمًا آخر قدره 50 برًا مقابل تذكرة الدخول لمنطقة الشلال.
كنيسة القديس جورج.. منذ القرن الـ12
كبرى كنائس بحر دار وهي من أجمل معالم السياحة في المدينة ومن أكبر كنائس الإقليم، تقع على ضفة بحيرة تانا في المنطقة المركزية لعاصمة إقليم الأمهرا، يعود تاريخها إلى القرن الـ12 الميلادي ويقصدها العديد من الزوار الأجانب خاصة الراغبين في التعرف على حضارة وثقافة المنطقة.
وبخلاف كنيسة القديس جورج هناك كنائس أخرى تاريخية في جزرٍ ببحيرة تانا تضم تاريخًا تليدًا يعود إلى أعماق سحيقة، فمثلًا توجد جزيرتان للرهبان، إحداهما للنساء الراهبات، يختفين تمامًا عن أعين الزوار، فيما الأخرى مخصصة للرهبان الرجال، ولا تفصل بين الجزيرتين سوى أمتار قليلة، ولا يزال القائمون عليهما يحرصون على عدم دخول الحداثة والتقنية ويلاحظ الزائر أن المكان يحكي حضارة وتاريخ عريقين.
من الأشياء التي تتميز بها مدينة بحر دار عن سائر المدن الإثيوبية، أن المطر لا يتساقط فيها إلا بحلول المساء بعد الرابعة عصرًا
وبعد مشاهدة الكنائس التاريخية ننصح أيضًا بزيارة جزيرة “دييغا إستيفانوس” Dega Estefanos إحدى جزر بحيرة تانا، فهي تحتوي على عدد من التوابيت الموجود في داخلها بعض البقايا المحنطة لعدد من الأباطرة السابقين لإثيوبيا.
جسر معلق فوق النيل الأزرق
يُقال إن البرتغاليين بنوه في القرن الـ17 من الميلاد ولا يزال يستخدم إلى اليوم بعد أن جدده الإمبراطور هيلا سيلاسي عام 1961، وهو جسر معلق يقع فوق أحد روافد النيل الأزرق بالقرب من الشلالات ووفقًا لروايات السكان المحليين، تم جلب الأحجار التي صنع منها الجسر من الروافد الجانبية للنهر في حين أشرف أحد الحرفيين الذي أتى مع أفونسو مينديز، بطريرك الكاثوليك في إثيوبيا، على بنائه.
زيارة جسر النيل الأزرق تمثل تجربة فريدة من نوعها ومثيرة لعشاق الارتفاعات، ويمكن من فوقه رؤية التماسيح وأفراس النهر وبعض الحيوانات المتوطنة التي تعيش هناك، ويعد الجسر من أهم الأماكن السياحية في عاصمة الأمهرا.
جسر النيل الأزرق.. بالقرب من الشلالات
المطر الليلي في بحر دار وكرم شباب الأمهرا
من الأشياء التي تتميز بها مدينة بحر دار عن سائر المدن الإثيوبية، أن المطر لا يتساقط فيها إلا بحلول المساء بعد الرابعة عصرًا ومن النادر أن تشهد المدينة وما حولها هطول أمطار صباحية أو منتصف الظهيرة، وهذه قد تكون ميزة إيجابية في نظر كثير من الناس يرون أن المطر النهاري يمكن أن يعرقل خططهم وبرامجهم.
على الصعيد الشخصي استمتعت جدًا بقضاء أجمل الأمسيات على وقع زخّات المطر الذي قد يستمر أحيانًا حتى الساعات الأولى من الصباح، والمدينة آمنة كما ذكرنا يمكن للزائر التجوال فيها بأمان دون خوف بالليل ولكن المشكلة أن الأسواق تغلق أبوابها منذ العاشرة مساءً بيد أن الأندية والمراكز التراثية تظل مفتوحة حتى الثانية صباحًا خاصة تلك التي تقع في مركز المدينة وبمحاذاة الواجهة البحرية.
الزائر لبحر دار يلاحظ انتشار الورود والأزهار في طرقاتها وعلى شواطئ بحيرة تانا ويظهر جمال هذه الزهور في فصل الصيف أي موسم الأمطار
وأتذكّر جيّدًا أنني كنت أجلس مساءً يوم وصولي إلى المدينة في أحد المقاهي الشهيرة حينما وردتني مكالمة من أحد الأصدقاء في أديس أبابا تحدثت إليه بالعربية وأوضحت أنني أحتاج إلى دليل لتذليل بعض الصعوبات، حينها التفت إليّ أحد شباب الأمهرا وقال لي بالعربية ما معناه “لا تقلق” مشكلتك محلولة، وبالفعل أخذ رقم هاتفي وجاءني صباح الغد في الفندق بسيارته ثم أخذني في جولةٍ رائعةٍ على مدى يومين ورفض أخذْ أي مقابل مادي ولو قيمة وقود السيارة رغم إلحاحي عليه لأنني أعرف غلاء سعر البترول في إثيوبيا بأكملها.
الزهور الملونة.. جمال يشرح الصدر
الزائر لبحر دار يلاحظ انتشار الورود والأزهار في طرقاتها وعلى شواطئ بحيرة تانا ويظهر جمال هذه الزهور في فصل الصيف أي موسم الأمطار وتكون في قمة جمالها واكتمال ازدهارها في شهر يوليو/تموز، وتختلف زهور الصيف في أحجامها والمساحة التي تغطيها بتفرعها فمنها ما يصل طوله إلى مترين أو أكثر ومنها ما يصل طوله إلى 30 سنتيمترًا أو أقل، وكذلك بعضها يغطي مساحة 70 سنتيمترًا عرضًا والبعض الآخر يغطي فقط 40 سنتيمترًا عرضًا، وبينهما في الطول والعرض أنواع أخرى.
هذا بالنسبة للزهور الملونة الطبيعية أما مزارع الورود التي يتم تصدير إنتاجها فلم نتمكن من زيارتها أو الوقوف عندها، لكن كمية الزهور الموجودة في الشوارع وشاطئ البحيرة وعلى الأرصفة كافية لتبعث في النفس السرور والبهجة.
زهور على شاطئ بحيرة تانا
أشياء يجب القيام بها في بحر دار
يمكننا أن نلخص برنامج استكشاف عاصمة إقليم أمهرا في النقاط الآتية لتكون أبرز النشاطات التي يجب ألا تفوتنا عند زيارة بحر دار:
1- زيارة مركز المدينة، حيث المتاجر وكبرى محلات الأزياء الشعبية والحديثة إلى جانب المصارف ومسجد السوق الكبير والمنتجات الحرفية الرائعة حيث يمكنك شراء الهدايا والمشغولات التقليدية.
2- عند الوصول إلى بحيرة تانا لا تنسَ تجربة تناول الأسماك الشهية، والمطاعم موجودة في محيط البحيرة، ننصحك حتمًا بطلب سمك قُلاش “بضم القاف” وهي طبق رائع من السمك مطهو بطريقة جيّدة مضافًا إليه التوابل المحلية وأنواع مخصصة من الصوص.
3- أما البحيرة فلا تكتفِ بمشاهدتها من على البعد، بل يجب عليك القيام برحلةٍ جميلة رفقة أحد المرشدين من أهل البلد، فرحلتك داخل البحيرة وجزرها لن تكلفك سوى 250 برًا (ما يعادل 10 دولارات أمريكية).
4- على ممشى بحيرة تانا هناك العديد من المنتجعات ذات الـ5 نجوم، يمكنك زيارتها إن لم تحب الإقامة بها، فمثلًا يقدم الغداء على الواجهة البحرية مباشرةً في منتجع كورفتو.
5- بالقرب من مركز المدينة يقف قصر الإمبراطور هيلا سيلاسي – الذي كان يقضي فيه عطلة الصيف ـ شامخًا حتى اليوم، ويحب السياح الأجانب زيارة القصر ومعرفة مقتنياته.
إذا كنت مهتمًا بالتعليم وتطوره، عليك بزيارة جامعة بحر دار، كبرى جامعات الإقليم وإحدى أقدم الجامعات الإثيوبية
6- ثمار المانجو تتدلى من أشجارها الوارفة شمال بحر دار وأصحاب المزارع يرحبون بالزوار وإذا وصلتهم في أماكنهم حتمًا سيدعونك إلى أخذ ما تحب من حبّات الفاكهة اللذيذة.
7- إذا كنت تفضّل تناول الوجبات في مطاعم إسلامية فهي موجودة في بحر دار ومن أبرزها مطعم الريان الذي يقع في وسط المدينة على مقربة من المسجد الكبير.
8- تشتهر المنطقة ككل وبحر دار على وجه الخصوص بزراعة الزهور وتصديرها إلى الخارج، وجودك فيها يمكن أن يكون سانحة جميلة لشراء ما تحب من الزهور فوّاحة العبير أو الاستمتاع بها في كل مكان على الواجهة البحرية وأرصفة المحال التجارية.
9- إذا كنت مهتمًا بالتعليم وتطوره، عليك بزيارة جامعة بحر دار، كبرى جامعات الإقليم وإحدى أقدم الجامعات الإثيوبية، يدرس بها آلاف الطلاب ومبانيها تعد معلمًا بارزًا من معالم العاصمة.
10- بالمدينة العديد من المقاهي الحديثة التي يفضلها الشباب مثل Yomucha Coffee وهناك مراكز للتراث الإثيوبي والفن الغربي يقصدها الزوار الغربيون بشكلٍ خاص.
مشهد الختام.. الإقلاع فوق بحيرة تانا
بعد أن قضينا أيامًا جميلة في حاضرة إقليم الأمهرا، ودعناها بعد ظهر يومٍ من أيام يوليو/تموز الماضي، والمشهد الذي لن يمحى من ذاكرتنا هو مشهد الإقلاع فوق بحيرة تانا مباشرة التي تحرص على استقبال القادم إلى بحر دار عن طريق الطائرة وتودعه أيضًا ربما لتبقى حاضرةً في وجدان كل من يزور المدينة الرائعة التي تمثل إحدى مدن القارة الإفريقية التي ما زالت مجهولة للكثير منّا.