ذهبت جميع التحليلات حيال رصد برنامج وزارة الخارجية الأمريكية لمكافآت محاربة الإرهاب “مكافآت من أجل العدالة” ما مجموعه 12 مليون دولار للحصول على معلومات تقود لثلاثة من أبرز قادة حزب العمال الكردستاني، على أنها محاولة من واشنطن لتطمين حليفها الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط (تركيا)، خاصة بعد التصعيد التركي الأخير والتهديد بعملية عسكرية في منطقة شرق الفرات التي تحكم قوات سوريا الديمقراطية السيطرة عليها بدعم من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
في المقابل جاء الرد من تركيا سريعًا، بترحيب خجول للخطوة الأمريكية ومطالبة صريحة بأن تتبع هذا القرار خطوات ملموسة في محاربة العمال الكردستاني وأذرعه كما جاء في تصريحات لمسؤولين أتراك.
لا يغفل المتابع للشأن السوري وصراع المصالح للدول المحتلة للبلاد بطولها وعرضها، وعبر مبررات مختلفة تصب كلها في خانة دعم مصالح هذه الدول التي تقدم نفسها كمخلصة للسوريين، عن وصول حدة الصراع بين تركيا والولايات المتحدة لنقطة الحسم، فالولايات المتحدة بدعمها لوحدات حماية الشعب كسبت منطقة نفوذ مهمة وإستراتيجية لم تستطع أن تكسبها حين دعمت فصائل المعارضة السورية، في المقابل وقعت الولايات المتحدة الأمريكية في صدام مع حليفتها تركيا، لا سيما أن تركيا تصنف وحدات حماية الشعب كمنظمة إرهابية بناء على نظرية أن الوحدات امتداد للعمال الكردستاني.
تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أن المشكلة الأساسية لتركيا ليست وحدات حماية الشعب، بل جذر المشكلة هو الصراع التركي الكردي
ميدانيًا وخلال سنوات الدعم الأمريكي للوحدات ابتداءً من عام 2014 في المعارك الأخيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في كوباني وحتى قبل أشهر عدّة، استطاعت واشنطن أن تتبع سياسة لتوازن بين مصالحها في العمق السوري مع الوحدات ومصالحها الإقليمية مع تركيا، رغم الإصرار التركي الدائم على رفض العلاقة بين الولايات المتحدة والإدارة الذاتية، لكن مع تطور الأحداث صار لزامًا على الولايات المتحدة الأمريكية أن تغير من سياستها في سوريا حتى تحافظ على مناطق نفوذها في سوريا وهي العارفة بتربص الخصم الروسي بها وجاهزيته للسيطرة على مناطق نفوذ واشنطن الحاليّة في سوريا، في مقابل عدم خسارتها لحليفها التركي الذي نجحت روسيا في كسبه لجانبها، وبالتالي فرض واقع مناسب لها في سوريا لما لتركيا من سلطة على فصائل المعارضة السورية.
ترامب وأردوغان برفقة زوجاتهما في فرنسا
لكن في المقابل تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أن المشكلة الأساسية لتركيا ليست وحدات حماية الشعب، بل جذر المشكلة هو الصراع التركي الكردي وتبلور الصراع بين حزب العمال الكردستاني والحكومات التركية المتعاقبة الذي اندلع في ثمانينيات القرن الماضي، وعليه فإن واشنطن اليوم أمام خيارين أولهما قد يخفف من حدة التوتر لكنه ليس بالمضمون على المدى البعيد، وهو التخفيف من حضور حزب العمال الكردستاني في سوريا سواء الرموز والرايات المرفوعة التي تدلل أنقرة على وجود العمال الكردستاني في سوريا عبرها، أو عبر الفصل الفعلي بين الإدارة الذاتية الحاكمة حاضرًا للمنطقة، وتطعيمها بقوى سياسية ليست لديها ارتباطات فكرية وتنظيمية مع العمال الكردستاني وأبرز هذه القوى هو المجلس الوطني الكردي خصم الاتحاد الديمقراطي وحليف المعارضة السورية المرضي عنها تركيًا، والمدعوم من إقليم كردستان العراق، إضافة لضم قوى آشورية وعربية معارضة في الوقت الراهن للإدارة، وبذلك تحدث واشنطن شيئًا من التوازن في السلطة السياسية في إقليم شرق الفرات التي تعمل على إنشائه.
هذه المهمة قد تكون سهلة بالنسبة لواشنطن، خاصة أن الخيارات أمام الاتحاد الديمقراطي محدودة، فإما الرضوخ لشروط النظام السوري ويخسر بذلك معظم امتيازاته السلطوية في المنطقة إضافة لعدم قدرته على مواجهة ردة الفعل الأمريكية في حال انزاح الحزب تجاه دمشق دونما تنسيق مع واشنطن، أو الدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة مع تركيا وهذه مغامرة قد تجعل مصير المنطقة مشابهًا لمصير عفرين، وإما القبول بالطروحات الأمريكية وأخذ مصالح داعمها الإستراتيجية بعين الاعتبار.
لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تضمن استقرار منطقة نفوذها الإستراتيجية في شمال شرق سوريا دونما توافق مع حليفتها الإستراتجية تركيا
أما الحل الآخر الذي من الممكن أن تعمد واشنطن إلى العمل به، هو حل جذر المشكلة ودفع العمال الكردستاني وأنقرة لاستئناف مفاوضات عملية السلام المعطلة منذ سنوات، وهذا الأمر قد يكون صعبًا بالنظر للظروف الحاليّة والتوتر الحاصل بين الطرفين، لكن في السياسة لا شيء مستحيل، والمواقف تتبدل وفقًا للمصالح، ومن الممكن أن تقدم واشنطن نفسها كوسيط في هكذا عملية تكون لها آثار مستقبلية تخدم الاستقرار في كل من سوريا وتركيا.
تركيًا وبالأخص بالنسبة لرجب طيب أردوغان الذي استطاع بعد الانتخابات الأخيرة أن يصبح رجل تركيا الأول، ماسكًا بزمام السلطة في البلاد، سيكون من الجيد أن يتخلص من معضلة استمرت لعقود من الزمن، وهذا سيسجل له، خاصة أن القضية الكردية في تركيا بات من المؤكد أنها لن تحل بالطرق العسكرية، والصراع العسكري أثبت عقمه في تقديم استقرار للبلاد، أيضًا لا يغفل المتابع للشأن التركي أن التوتر وصل لأعلى درجاته بين العمال الكردستاني والحكومة التركية بعد التحالف الذي حصل بين حزب الحركة القومية التركي الذي كان رافضًا لعملية السلام منذ البداية وحزب العدالة التنمية، التحالف الذي يبدو اليوم أنه في طريقه للتفكك، خاصة بعد رفض أردوغان مقترح العفو العام الذي تقدم به حزب الحركة القومية، علاوة على أن العدالة والتنمية لا يريد أن يفرط بالأصوات الكردية الداعمة له في الانتخابات.
قصارى القول، لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تضمن استقرار منطقة نفوذها الإستراتيجية في شمال شرق سوريا دونما توافق مع حليفتها الإستراتجية تركيا، وأيضًا لا يمكن أن تتوافق مع حليفتها الإستراتيجية دون إيجاد حل لقضية الكرد في سوريا لتضمن بذلك استقرارًا غير مضمون لمناطق نفوذها، أو أن تعمل على حل القضية الكردية في تركيا وسوريا وبذلك تضمن استقرارًا طويل الأمد لحليفها ومناطق نفوذها.