ترجمة وتحرير: نون بوست
تكون كل عملية قياس قمتَ بها لأحد الأوزان في حياتك، سواء كنت بصدد الاطلاع على وزنك في الحمام أو بصدد وزن كمية معينة من الدقيق من أجل الكعكة التي تنوي إعدادها، بالاستناد إلى مقياس واحد فقط، وهو كيلوغرام معدني مصنوع من البلاتين والإريديوم. ويوجد هذا الكيلوغرام المعياري مخبأ ومحفوظا بعناية داخل قبو تحت الأرض في مدينة باريس، ويعرف باسم النموذج المعياري للكيلوغرام. ومنذ إنشاء هذا النموذج سنة 1889، عمدت دول العالم إلى اعتماده معيارا دوليا يتم من خلاله تحديد الأوزان، لكن هذا الأمر سيتوقف عما قريب.
الجدير بالذكر أن العديد من النسخ من الكيلوغرام المعياري وقع توزيعها حول العالم، حيث اعتمدتها الكثير من البلدان على اعتبارها حجر الأساس لخلق وحدات قياس وزن خاصة بهم، لتكون أقرب ما تكون إلى الكيلوغرام الأصلي. ومن هذا المنطلق، تستخدم هذه النماذج في معايرة المقاييس والأوزان في كل نشاط أو قطاع داخل المجتمع، على غرار المختبرات والمصانع والمحلات التجارية والمخابز. ولا يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية تعد استثناء، فعلى الرغم من استخدامها الرطل والأوقية كوحدات قياس بدلا من الكيلوغرام، إلا أن هذه الوحدات المستحدثة تم تحديد قيمتها بواسطة الكيلوغرام المعياري، وذلك بشكل مماثل للنظام المتري.
لن يكون لهذا القرار تأثير ملحوظ بالنسبة للأشخاص الذين لا يعملون داخل مختبرات الفيزياء المتقدمة، لكنه يمثل تغييرا بالغ الأهمية بالنسبة لأولئك المعنيين بالأمر
من المقرر أن يشهد يوم الجمعة القادم، الموافق للسادس عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر، انقلابا سبق التخطيط له على مستوى البروتوكولات الدولية لمقاييس الوزن. ونتيجة لذلك، سينشأ قرار بإيقاف العمل بالكيلوغرام المعياري المعتمد على مستوى دولي، الذي لطالما مثل المعيار الرئيسي للأوزان لمدة 129 سنة متتالية. حيال هذا الشأن، سيجتمع كبار المسؤولين في المكتب الدولي للأوزان والمقاييس، الذي يضطلع بتنظيم العمل بالنظام المتري، في فرساي للتصويت على قرار تعويض هذه الأداة الملموسة واستبدالها بتعريف ثابت ودائم للكيلوغرام.
في واقع الأمر، لن يكون لهذا القرار تأثير ملحوظ بالنسبة للأشخاص الذين لا يعملون داخل مختبرات الفيزياء المتقدمة، لكنه يمثل تغييرا بالغ الأهمية بالنسبة لأولئك المعنيين بالأمر. ومن جهته، يقول العالم الفيزيائي في المعهد الوطني للمعايير والتقنية، الذي عمل على الأدوات المستخدمة لإحداث التغيير القادم، ستيفان شلامينغر، أن “هذا الأمر بمثابة مذنب هالي في علم القياس، من النادر للغاية أن يشهد العلم عملية إعادة تعريف بهذا الحجم”.
يمكننا التفكير في هذا التغيير على أنه بمثابة قيام المغامر إنديانا جونز باستبدال التمثال الذهبي في فيلمه الشهير بكيس من الرمل. وبعد عملية إعادة التعريف، سيظل الكيلوغرام كيلوغراما، لكن قيمته ستستند إلى أسس أشد غرابة من المعتاد.
النسخة الأصلية من الكيلوغرام المعياري، موضوعة بشكل آمن داخل ثلاثة حجرات مقفلة ومفرغة من الهواء
تاريخ من الثوابت
يعود أصل السعي إلى تعريف وحدات القياس بالاعتماد على ثوابت من الطبيعة إلى إنشاء النظام المتري خلال الثورة الفرنسية. وفي ذلك الوقت، لم يقتصر تبني إيديولوجية الحرية والمساواة والأخوة على الثوريين فقط، بل إن العلماء كان لهم نصيب من ذلك أيضا. ونتيجة لذلك، تم إنشاء النظام المتري بهدف تحرير المواطنين العاديين من وطأة الأوزان والمقاييس المربكة والمتغيرة باستمرار، التي كان يعتمدها النظام القديم. في الواقع، مثل هذا التغيير مشروعا خياليا، حيث كان باعثوه يتصورون أن من شأن نظام أوزان ومقاييس مشترك توحيد العالم، مما يسمح بالتبادل الحر للسلع والمعلومات.
لضمان توفر هذه الوحدات الجديدة للجميع، توجب على مبتكريها أن يتوصلوا إلى إصدار تعريفات جديدة. ومثال ذلك، كانت وحدة قياس الطول المعتمدة في فرنسا آنذاك هي “قدم الملك”، التي يمكن تبين خصائصها من خلال اسمها، فضلا عن إمكانية بيان بنية النظام السياسي العمودي في ذلك الوقت. وفي هذا الصدد، أراد الثوريون قلب هذا النظام والتحرر من قبضته التي تكبل حريات المجتمع، وهو ما عنى إصدار وتعريف وحدات قياس يمكن لأي شخص حفظها وتكرارها، وذلك عوضا عن بعض القطع المادية مثل القضبان المعيارية التي كان الشعب يستخدمها لقياس طول الأجسام باعتماد وحدة قياس “قدم الملك”.
رسم على الخشب يعود لسنة 1800 ويوضح تقديم بعض العلماء لوحدات عشرية جديدة في فرنسا.
وقع تعريف الكيلوغرام في البداية على أنه كتلة ديسيمتر مكعب من الماء (باعتبار أن الديسمتر هو عشر المتر)، في وقت كان فيه المتر في حد ذاته يتم احتسابه كجزء من المسافة الفاصلة بين القطب الشمالي وخط الاستواء. وفي تلك الفترة، كان يتم احتساب الجزء من هذا الخط الافتراضي الذي يمر عبر القارة الأوروبية بشكل يدوي، إنش بعد إنش، في مهمة شاقة في أنحاء القارة استمرت لسبع سنوات. وفي سنة 1798، تمت إعادة تحديد المتر بشكل رسمي على أنه واحد على عشرة مليون من مسافة نصف خط الطول. وإذا كان هنالك أي بلد يحتاج لوضع المتر بنفسه، فهذا يعني نظريا أنه كان قادرا على ذلك من خلال القيام بهذه الحسابات.
قال الدكتور مارتن ميلتون، مدير المكتب الدولي للأوزان والقياسات في باريس، إن “هذه التعريفات تم إدخالها في وقت كان فيه الثوريون يريدون إنشاء وحدات صالحة لكل زمان ومكان، ولجميع الناس”. ولكن خلال القرن الموالي تم اعتماد النظام المتري من قبل المزيد من الأمم، وأضيفت إليه وحدات قياس جديدة، وبدأ العلماء يشعرون بالقلق من أن هذا العالم ليس كافيا لدراسة هذه المسألة. وقد كشف عالم الفيزياء جايمس كليرك ماكسوال عن هذه المخاوف في سنة 1870، بعد أن حذر زملائه العلماء من أن الأرض قد تتقلص بسبب البرد، أو ربما تتمدد بفعل طبقة من النيازك التي تقع عليها، وهو ما قد يغير شكلها وبالتالي يغير طول المتر.
على مدى العقود القليلة الماضية، شهدت ست من وحدات القياس السبعة نفس التغييرات، وهي المتر للمسافة، الأمبير لقياس شدة الكهرباء، كلفن لقياس درجة الحرارة، مول لقياس كمية المادة وكانديلا وحدة قياس الإشعاع.
قد يبدو هذا التحذير سخيفا، إلا أن قلق العالم ماكسويل يعكس في الحقيقة الأهمية القصوى لعلم القياس، فإيجاد وحدات ثابتة للقياس تمثل الأساس للأسلوب العلمي. ومن دون هذه الوحدات فإن الباحث على سبيل المثال لا يمكنه إعادة التجربة بشكل موثوق، وإذا كانت نتائج هذه التجارب لا يمكن الوثوق بها، فإنه لا يمكن أيضا الوثوق بفهمنا لهذا العالم. وكما قال لورد كلفن، العالم البريطاني الذي تم تسمية نظام قياس وحدات الحرارة تيمنا باسمه، في 1883: “عندما يمكنك قياس ما تتحدث عنه، والتعبير عنه بلغة الأرقام، فأنت حينها تعرف عما تتحدث، والعكس بالعكس”.
ما هو الحل؟
تماما مثل الحيوانات التي تستخدم حدسها للهروب من مياه الفيضانات، فإن علماء المقاييس والموازين بحثوا عن موقع أعلى من الناحية المعرفية. وعوضا عن استخدام الأرض كأساس لتحديد الوحدات، قرروا استخدام العناصر الطبيعة الثابتة، وهي الكميات الرقمية والمادية التي يعتقد أنها لا تتغير في كافة أنحاء الكون. هذه العناصر الثابتة شكلت حجر الأساس لعلم الفيزياء الحديث، وكانت هامة جدا لفهمنا للعالم الفيزيائي، لدرجة أنها أطلقت عليها تسميات رمزية بالأحرف. فالحرف G مثلا يرمز إلى القيمة الثابتة للجاذبية، وC يرمز لسرعة الضوء، وهنالك وحدات قياس أقل شهرة، مثل H، أو القيمة الثابتة “بلانك”، الذي يستخدم لوصف أصغر مقدار للطاقة في ميكانيك الكم، للتعبير عن أصغر حركة يمكن أن تقوم بها الفوتونات.
كان المتر هو أول وحدة يتم ربطها بعنصر ثابت في الطبيعة. إذ أنه في 1960 تم قياس المتر بواسطة الطول الموجي للضوء، ثم في 1983 قام المكتب الدولي للأوزان والقياسات بباريس، خلال مؤتمره السابع عشر، بتحديد التعريف الحالي للمتر بأنه “طول المسافة التي يقطعها الضوء في الفراغ خلال وقت زمني هو يمثل واحد على 299.792.458 من الثانية.
وكما هو الحال مع كل هذه التعريفات، فإن الهدف ليس تغيير الوحدة نفسها، بل ربطها على أساس حقيقة جديدة.
بالنسبة لعلماء المقاييس والأوزان فإن هذه التقلبات تعرضهم لإحراج وارتباك كبيرين
على مدى العقود القليلة الماضية، شهدت ست من وحدات القياس السبعة نفس التغييرات، وهي المتر للمسافة، الأمبير لقياس شدة الكهرباء، كلفن لقياس درجة الحرارة، مول لقياس كمية المادة وكانديلا وحدة قياس الإشعاع. والآن لم تبقى إلا وحدة القياس المعتمدة على الأدوات التي صنعها الإنسان، وهي الكيلوغرام، إلا أن علماء المقاييس والأوزان متحمسون للتخلص منها.
أفاد شلامينغر، أنه “ما دام العلماء يعرفون الكيلوغرام بأنه أداة من صنع الإنسان، فإننا لا يمكننا اعتبار أن هذا المعيار صالح لكل زمان ومكان. إذ أنه غير صالح لكل الناس لأن الآخرين لا يمكنهم إعادة إنتاج الكيلوغرام المعياري الدولي، وهو أيضا ليس صالحا لكل زمان لأنه أداة وكل الأدوات تتعرض لتغييرات. ليس هنالك شيء في هذا العالم ثابت”.
يبدو أن النموذج الدولي للكيلوغرام في حد ذاته أثبت هذه النقطة. فعلى الرغم من أن هذا النموذج مصنوع من واحدة من أكثر الخلطات المعدنية استقرارا، وهو معروف لدى العلماء ويحظى بإعجاب كبير ومعاملة خاصة، حيث تم الإبقاء عليه دون أي إزعاج في نفس المكان ولكامل حياته، مغلف داخل 3 أوعية، فإن كل هذه الإجراءات لم تمنعه من خسارة البعض من وزنه لسبب غير مفهوم.
خلال احتفالات الوزن التي يتم تنظيمها مرة في كل بضعة سنوات، عندما يتم نقل النسخ المعيارية للنموذج الدولي للكيلوغرام من بلد إلى آخر ومقارنتها بالنسخة الأصلية، تم اكتشاف أن الكيلوغرام المعياري الأصلي خسر حوالي 50 ميكروغرام من كتلته، وهو ما يساوي تقريبا كتلة رمش إحدى العينين. بالطبع بما أن هذا الكيلوغرام المعياري الأصلي هو الذي يمثل تعريفا لوحدة الكيلوغرام، فإنه لا يمكن اعتبار أنه خسر أو ازداد وزنه، ولذلك فإنه كان من الأصح القول إن باقي الكيلوغرامات الموجودة في العالم هي التي أصبحت أثقل بقليل.
لا يعرف إلى حد الآن السبب الدقيق وراء هذا التغيير، ولكن هنالك نظرية تشير إلى أن مراسم حفظ هذه الوحدة خلال السنوات الماضية ربما تكون تعرضت لبعض الإهمال، وهو ما أدى لتعرض وحدة الكيلوغرام المعيارية الأصلية إلى نوع من التلوث. وبين ميلتون، مدير المكتب الدولي للأوزان والمقاييس في باريس، أنه “من الممكن أن هذا هو سبب التغيير، خاصة وأن كتلة النموذج الدولي للكيلوغرام تغيرت بين سنوات الأربعينات والتسعينات، ولكنها لم تشهد أي تغيير منذ ذلك الوقت”. وأضاف ميلتون، أن “ما نعرفه الآن هو أن وحدات القياس خلال الفترة الأخيرة، وأعني الثلاثين سنة الماضية، كانت تحظى بعناية كبيرة”.
يعتبر الفضاء الخارجي مجالا جذابا للأبحاث العلمية، إلا أنه لا يمكن الوصول إليه بسهولة انطلاقا من الأرض
بالنسبة لعلماء المقاييس والأوزان فإن هذه التقلبات تعرضهم لإحراج وارتباك كبيرين. فهي لا تقوض بشكل جدي شرعية النظام المتري الدولي، إلا أنها تفسد الهالة والاهتمام بميزة الدقة في هذه المقاييس. ومن خلال عملية إعادة التعريف في يوم الجمعة، فإن عصر ربط المقاييس بالأدوات التي صنعها الإنسان، بما رافقه من عيوب واختلالات، سوف ينتهي بلا رجعة. وأورد شلامينغر، قائلا: “سوف نتجاوز هذه الفوضى. وسوف نعتمد في تحديد الوحدات على بنية هذا الكون. سنعتمد على السموات إن صح القول”.
نظام وزننا أفضل
يعتبر الفضاء الخارجي مجالا جذابا للأبحاث العلمية، إلا أنه لا يمكن الوصول إليه بسهولة انطلاقا من الأرض. وإعادة تعريف الكيلوغرام باستخدام عناصر ثابتة في الكون كان يمثل مشروعا منهكا ولم يحظى بالاهتمام اللازم، رغم أنه تطلب عقودا من الأبحاث العلمية في مختبرات متعددة في أنحاء العالم، وكانت من ثماره اثنين من جوائز نوبل التي حصل عليها علماء فيزياء الكم، وبناء واحدة من أكثر الآلات تعقيدا في تاريخ البشرية، لتعزيز أسس الواقع.
تتمثل النتيجة النهائية لكل هذا العمل الشاق في أداة معروفة باسم “ميزان كيبل”، وهو ابتكار قدمه عالم الفيزياء البريطاني براين كيبل في 1975، وتم تطويره منذ ذلك العهد ليصل إلى مستويات جديدة من الدقة. وعلى الرغم من تعقيده، فإن ميزان كيبل يعمل مثل ميزان تقليدي كالذي نستعمله لوزن المشتريات في محل البقالة. ولكن بينما تزن هذه المقاييس التقليدية كتلة واحدة في مقابل أخرى، فإن ميزان كيبل يزن الكتلة ضد قوة كهرومغناطيسية يمكن تحديدها بشكل في غاية الدقة.
يتم إنتاج هذه القوة الكهرومغناطيسية باستخدام لفافة من الأسلاك التي تحيط بها أحجار مغناطيس. وهذه الآلية يمكنها خلق نظامين اثنين للوزن. في النظام الأول، يمكنك تمرير تيار عبر لفافة الأسلاك لتوليد طاقة جذب كهرومغناطيسية. وفي الثانية، يمكنك تحريك اللفافة إلى الأعلى والأسفل مثل مكبس المحرك، وهو ما يعطينا نفس النتيجة، وبسبب عدد من الاكتشافات الأخيرة (من بينها الاكتشافان الحاصلان على جائزة نوبل) يمكننا قياس بعض القوى المتدخلة في آليتي الوزن، بدقة لا متناهية. وعبر دمج هذه المعارف يمكننا قياس الكتلة في أحد جانبي ميزان كيبل باستخدام قاعدة القيمة الثابتة “بلانك” لوصف أصغر مقدار للطاقة. وهذه القواعد تسمح للعلماء بتقديم تعريف جديد للكيلوغرام: من خلال قياس أساسيات العالم المادي وتفكيكه لتحديد أصغر الحركات الفيزيائية فيه.
ميزان كيبل الذي صنع من قبل المعهد الوطني للمعايير والتقنية في الولايات المتحدة
يعتبر ميزان كيبل إنجازا مذهلا، بالنظر إلى أنه يمثل مزيجا بين نظريات مختلفة في علم الفيزياء. ولكن بوصفه مشروعا هندسيا، تم العمل على مدى أسابيع وأشهر وسنوات في المختبرات، فإن العبارة الأنسب لوصف هذا الجهد ليست مذهلا، بل منهكا. وقد نجح اثنين فقط من المختبرات، إلى حد الآن، في صنع ميزان كيبل قادرا على وزن الكتلة بالدقة المطلوبة لإعادة تعريف الكيلوغرام، المختبر الأول يديره المجلس الأول للأبحاث في كندا، والآخر يديره المعهد الوطني للمعايير والتقنية في الولايات المتحدة. والموازين الموجودة في هذين المختبرين حساسة جدا لدرجة أنه يجب الإبقاء عليها داخل مساحة مغلقة.
يتوجب على العلماء توخي أعلى درجات الحذر، لدرجة أنهم يقومون بقياس حقل الجاذبية داخل الغرفة التي يعملون فيها من أجل الأخذ بعين الاعتبار كل التغييرات التي يتعرض لها الميزان قبل استخدامه. وحول مدى صعوبة هذا العمل، تقول هاو فانغ، التي تشرف على جهود المكتب الدولي للموازين والقياسات في باريس، وفرانك بيلسا الذي يعمل معها، أن هذه العملية تعادل إدارة اثنتا عشر تجربة بشكل متزامن.
في هذا الصدد، أوضح بيلسا، أن “الأمر سيستدعي العمل مع القيود التي تفرضها العديد من المجالات المنفردة في الآن ذاته. فمن جهة لدينا، مجال البصريات، قياس التداخل عن طريق الليزر لقياسات الطول، القياسة الكهربائية لقياس التيار والجهد الكهربائي بشكل دقيق، وتحتاج إلى تحديد حقل الجاذبية في الغرفة التي تعمل فيها، وإلى غير ذلك”.
يعد الجمع بين كل هذه العوامل المتغيرة للحصول على قياس معين من الممارسات التي تتطلب قدرا كبيرا من الصبر، تماما مثل إطلاق أوديسيوس لسهم ليمر عبر ثقوب العشرات من رؤوس الفؤوس في الأوديسة. لكن في هذه الحالة، لن يكون العمل البطولي من نصيب شخص واحد، بل مجتمع بأسره، ليشكل الأفراد سويا المنطلق للتغيير.
ستسند التعريفات جديدة لأربع وحدات قياس، ألا وهي الكيلوغرام والأمبير والكلفن والمول
لن يتحقق التغيير الجذري، الذي سيكون من خلال شروع المختبرات في إنشاء مقاييسهم الخاصة للكيلوغرام عن طريق استخدام ميزان كيبل، إلا بحلول أيار / مايو من السنة القادمة. ولكن المؤتمر الذي سيقام هذا الأسبوع سيكون بمثابة الاحتفال التتويجي لكل هذه الجهود. ولن يؤثر التغيير على الأوزان فقط، نظرا لأن وحدات قياس أخرى لا يزال تعريفها مقترنا بالكيلوغرام.
بمجرد تغيير تعريف الكيلوغرام، سيتطلب الأمر تحديث تعريف وحدات القياس هذه أيضا. في المجمل، ستسند تعريفات جديدة لأربع وحدات قياس، ألا وهي الكيلوغرام والأمبير والكلفن والمول. وبناء على ذلك، وبالنسبة للأشخاص المعنيين بهذا التغيير، يعتبر هذا الأسبوع بالغ الأهمية. ومن جهته، اعترف ميلتون، الذي من المفترض أن يتحلى بقدر كبير من الهدوء على اعتباره مدير المكتب الدولي للأوزان والمقاييس، والذي سبق وأن قال: “هل أشعر بالتأثر إزاء هذا الأمر؟ لا ليس فعلا”، بأن الأجواء يوم الجمعة ستكون “احتفالية بشكل مبرر”.
لا يزال هناك تصويت نهائي يجب أن يمرر من قبل الممثلين عن العديد من الدول التابعة للمكتب الدولي للأوزان والمقاييس، وذلك في خضم المؤتمر العام للأوزان والمقاييس. وقد أكد العديد من الأشخاص المشاركين أن الأمر بالفعل قد حسم. وسيقام التصويت النهائي في قصر فرساي يوم الجمعة، ومن ثم ستنطلق مراسم الاحتفال.
من جهته، أورد ستيفان شلامينغر، قائلا: “أنا في حالة إنكار شخصيا، لا أصدق أن الأمر سيحدث فعلا. في حال تحقق هذا الهدف وأصبح التغيير المرجو أمرا واقعا، سأكون بذلك قد حققت إنجازا في حياتي. تطلق العديد من المشاريع في حياتك، ولكن من النادر أن تحقق أحدها في نهاية المطاف”.
المضي قدما نحو المستقبل
لكن هذه ليست نهاية علم القياس، فهو علم غير ثابت. عندما عُرِض على نابليون بونابرت مقياس النموذج الدولي سنة 1799، أفاد قائلا: “ستأتي الفتوحات وتذهب، لكن هذا العمل سيكون دائما”. لقد كان على حق جزئيا، حيث صمد المتر كوحدة، لكن الكيلوغرام المعياري المصنوع من البلاتين، الذي تم تسليمه لبونابرت لم يصمد.
من وجهة نظر بعض الأفراد، لا يفي تحديد وحدات القياس باستخدام الثوابت الفيزيائية بالغرض لتوجيه علم القياس، “لكل البشر، ولكل الأزمنة”. يوجد فقط مختبران قادران على استخدام معيار كيبل بشكل صحيح في هذه المرحلة، مع وجود 6 مختبرات أخرى تعمل على هذه المشكلة. ويعد نقدا صادقا إذا قلنا إن هذا الاعتماد على التكنولوجيا يجعل ملكية وحدات القياس لا تعود للعامة، تماما كما حدث مع “قدم الملك”.
في الحقيقة، تتمتع وحدات القياس لديها القدرة على إحداث الفوضى والاستياء، تماما كما كانت في الماضي. وأفاد روبرت بي كريس، وهو أستاذ فلسفة في جامعة ستوني بروك ومؤلف كتاب عن وحدات القياس، أنه “من الناحية التاريخية، أدى استخدام وحدات القياس إلى بروز قضايا تتعلق بالنفوذ والسلطة”. إذا تحكمت في الأداة فإنه بإمكانك التحكم في الوحدة، وبفضلها يمكنك التحكم في جزء من الواقع. أخبر كريس موقع ذا فيرج أنه “على الرغم من أن استخدام الثوابت الفيزيائية قد يجنبنا هذه المشكلة، إلا أنه يمكنك أيضا أن تجادل بأنها تقوم بإعادة توجيه هذه المشكلة من خلال جعل الوصول إلى المعايير يعتمد على التكنولوجيا التي تحتل الصدارة وأولئك الذين يشرفون عليها”.
الوحدات السبع للنظام المتري وثوابتها الأساسية:
المتر – الطول: المسافة المقطوعة بالضوء في فراغ في 1 / 299,792,458 ثانية.
الثانية – الوقت: بالضبط 9,192,631,770 دورة من إشعاع ذرة السيزيوم 133.
الكيلوغرام – الكتلة: ثابت بلانك مقسوم على 6.626,070,15× 34−10
م -2ثواني.
يعتقد المكتب الدولي للأوزان والمقاييس، أن هناك المزيد من القياسات التي يجب القيام بها.
المول – كمية المادة: ثابت أفوجادرو أو 6.022,140,76×2310 جسيما أوليا.
القنديلة – شدة الإضاءة: مصدر للضوء مع إشعاع أحادي اللون بتردد 540 × 1012 هرتز وشدة إشعاعية من 1/683 واط لكل ستراديان.
كلفن – درجة الحرارة: ثابت بولتزمان، أو تغيير في الطاقة الحرارية من 649 1.380× 2310 جول.
أمبير – التيار الكهربائي: يساوي تدفق 1/ 1.602176634 × 10−19 شحنة أولية في الثانية.
وفقا للأستاذ روبرت كريس، “يمثل هذا الأمر مسألة ثقة، ويعد علم القياس بمثابة الصندوق الأسود. ويثق المختصون في علم القياس في الصندوق الأسود لأنهم على علم بكيفية عمله من الداخل. لذلك يجب على غير المختصين في هذا المجال الوثوق في الصندوق الأسود بشكل تام. في الآن ذاته، يعد عدم وضوح التعريف الجديد لهذا المفهوم بالنسبة للأشخاص العاديين، عاملا معرقلا”.
في عصر يتم فيه السخرية من معرفة الخبراء والإجماع العلمي باسم “البديهية” والديماغوجية، يعد نمو انعدام الثقة بشكل مطرد في النظام المتري فكرة ليست مستبعدة. ويمكن حتى للثوابت الكونية أن تكون قاعدة غير مناسبة لوحدات القياس في حال فشلت في الحصول على ثقة الأشخاص. بالنسبة لعلماء القياس، لا تتجاوز هذه الأفكار كونها مخاوف نظرية. ومن جهته، يعتبر المكتب الدولي للأوزان والمقاييس التعقيدات التي تحيط بعمله ميزة في حد ذاتها، وتظهر هذه الفكرة في كل عملية قياس يتم إجراؤها انطلاقا من أبحاثه. ونظرا لأن النظام المتري قائم على بعض الأفكار الأكثر تعقيدا في الفيزياء المعاصرة، لا يعني ذلك أن هذه الأفكار لا يمكن تقديرها.
بعد إعادة التعريف المقبلة، على سبيل المثال، سيتم اشتقاق وحداتنا الأساسية، الوزن والطول، من نظريتين أساسيتين للفيزياء ألا وهما ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة. تقدم لنا ميكانيكا الكم “ثابت بلانك”، الذي سيتم استخدامه لتحديد الكيلوغرام. وقدمت لنا نظرية النسبية الخاصة لنا سرعة الضوء، التي تقوم بتعريف المتر. وقد أفاد شلامينغر، أن “هناك جمالا وتناظرا في ذلك”.
من جانبه، يعتقد المكتب الدولي للأوزان والمقاييس، أن هناك المزيد من القياسات التي يجب القيام بها. وقد طرح ميلتون قائمة بمهام المكتب، بدأ من العمل على الكيمياء التي تدعم نقاء الأدوية والطعام وصولا إلى المحافظة على التوقيت العالمي المنسق، الذي تستخدمه دول العالم لتحديد ساعاتها. وفي هذا الصدد، صرح ميلتون، أنه “في مجتمع عالمي، حيث تتغير احتياجات الصناعة بشكل دائم ويعمل العلماء دوما على توسيع حدود المعرفة الإنسانية، لا يمكن أن تكون ضوابط القياس بالية ولا يمكن أن تظل في مكانها جامدة”. وأضاف ميلتون، أن “الميدان الذي نعمل فيه عملي جدا، ولا يتوقف عن التقدم أبدا. ويمكن اعتبار تغيير هذه الوحدات الأساسية مثل تسلق جبل إفرست. لكن لا يزال هناك الكثير من الجبال الأخرى لتسلقها”.
المصدر: ذا فيرج